الدكتور حكيم بن حمودة
وزير الاقتصاد والمالية السابق – تونس
يمر العالم اليوم بفترة اضطرابات كبرى وعدم استقرار هيكلي نتيجة تداخل عوامل متعددة منها السياسي والإيديولوجي والاقتصادي والاجتماعي.
وتشير هذه الاضطرابات والأزمات المتعددة إلى نهاية عالم الأمس الذي ارتبط بالمشروع الديمقراطي والعولمة الرأسمالية كما تشكل هذه الفترة مرحلة مخاض كبرى لميلاد عالم جديد ومشروع عالمي جديد.
ويشمل هذا المخاض كل مجالات الحياة السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وتحمل هذه المرحلة الكثير من المخاوف والقلق باعتبار هيمنة القوى المتطرفة والشعبوية على المجال العام والضعف الكبير للقوى الديمقراطية والاجتماعية.
تدعّمت هذه المخاوف بنتائج الانتخابات الاخيرة في أعتى الديمقراطيات الاوروبية والأمريكية وفي العديد من بلدان الجنوب، ممّا يثير مخاوف كبرى من العالم الآتي ومدى قدرة الدول والمؤسسات على حماية المجتمعات من المخاطر والصراعات والحروب.
ورغم صعوبة التكهن بملامح العالم الذي سيبرز من هذا المخاض في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يمكننا الحديث ودراسة جملة من السيناريوهات المستقبلية التي بدأت تتشكل بصعوبة كثيرة ودون أن يفرض أي منها نفسه كمشروع جامع لعقد اجتماعي قادم.
سنتناول بالنقاش في هذا المقال بعض السيناريوهات التي بدأت تعمل على المستوى الاقتصاد العالمي من خلال السياسات العمومية للدول وخيارات المؤسسات الكبرى وذلك من خلال حشد وتعبئة منظمات المجتمع المدني.
وقبل الخوض في السيناريوهات الكبرى المستقبلية للاقتصاد العالمي سنحاول الوقوف على أهم التشكيلات التي عرفها الاقتصاد العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تشكيلات الاقتصاد العالمي بين 1950 و2020
عرف الاقتصاد العالمي خلال السبعين سنة الممتدة من 1950 إلى 2020 ثلاثة أنماط من التشكيلات الكبرى. وقد سمحت هذه التنظيمات للاقتصاد بالعيش في فترة استقرار ورخاء اقتصادي كبير لأغلب البلدان والشعوب التي خرجت اجزاء كبيرة منها من الفقر المدقع والجوع و المرض.
إلا أن نفس الفترة لم تكن خالية من محاولات الهيمنة من البلدان المتقدمة على البلدان النامية خلال مرحلة الاستعمار المباشر والتي تواصلت إلى مرحلة بناء الدولة الوطنية إثر الاستقلال في بعض بلدان الجنوب.
وخلال هذه المرحلة التاريخية الطويلة يمكننا الحديث عن ثلاث تشكيلات كبرى للاقتصاد العالمي.
أما النمط الاول فهو التشكيلة التي هيمنت على الاقتصاد العالمي إثر الحرب العالمية الثانية ليتواصل ذلك الى بداية سبعينات القرن الماضي. وقد ارتكز الاقتصاد في هذه المرحلة على نظام الدولة الوطنية التي شكّلت الإطار العام للدورة الاقتصادية من إنتاج وتوزيع واستثمار وتمويل. وسيكوّن الاقتصاد العالمي في هذه الفترة مجموع العلاقات في جميع الميادين بين الاقتصادات الوطنية. وعملت المؤسسات الدولية التي تم بعثها إثر اتفاقات بريتون وودز سنة 1944 على حماية وتدعيم التوازنات الكبرى للاقتصاد العالمي 1.0
أما النمط الثاني، أو ما يمكن ان نسميه العولمة 2.0، فقد ظهر في بداية سبعينات القرن الماضي ليتواصل إلى نهاية ثمانينات القرن الماضي. وستشكل هذه المرحلة محاولة لتجاوز إطار الدولة الوطنية من خلال التطور الكبير للتجارة الخارجية وتنامي الاستثمار الخارجي. إلاّ إن هذا الاستثمار سيتجه إلى الأسواق الكبرى لتعويض الإنتاج المحلي بالتوريد أو الاستفادة من التكلفة الضعيفة لسوق العمل.
وسيترك هذا النظام المجال لنظام جديد يمكن أن نسميه بالعولمة 2.0، والذي سيبدأ من بداية تسعينات القرن الماضي إلى سنوات 2020. وسيتميز هذا النظام بثلاثة تطورات مهمة، أولها العولمة المتسارعة للأسواق المالية والبنوك وتوزيع جديد للاستثمار الخارجي وأسواق العمل حسب سلاسل إنتاج عالمية وتطور سريع للتجارة العالمية، إلا إن الأزمات
المتواترة وخاصة جائحة الكوفيد ستضع حداً لهذا النظام العالمي وتفتح فترة بحث ومخاض عن تنظيم جديد للاقتصاد العالمي.
أزمة النظام الاقتصادي العالمي وسيناريوهات المستقبل
رغم الأزمات التي يعيشها الاقتصاد العالمي والاضطرابات وعدم الاستقرار انطلقت عملية البحث عن سيناريوهات بديلة لإعادة بناء النظام العالمي. ولئن كان من السابق لأوانه الحديث عن نظام اقتصادي جديد إلا إنه يمكننا نقاش السمات الكبرى لثلاثة سيناريوهات كبرى.
– السيناريو الأول هو إعاة انتاج القديم status quo: رغم التحديات والأزمات التي عرفها الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة فإن أحد السيناريوهات المستقبلية الممكنة هو مواصلة أهم التوجهات الكبرى للعولمة والتي سيصعب تغييرها. وفي هذا السيناريو ستسعى البلدان الرأسمالية إلى جانب الشركات الكبرى إلى تجاوز الصعوبات الحالية وإعادة انتاج العولمة 2.0، مع المحافظة على مواقعها المهيمنة.
– السيناريو الثاني هو تسريع الانشطار (Fragmentation): وهذا السيناريو هو تأبيد للأزمات السابقة أمام عدم قدرة النظام العالمي على دفع النمو والاستقرار، وسيتصاعد سيناريو الانشطار والانقسام الذي يعيشه العالم منذ الحرب في اوكرانيا لتصبح العوامل الجيوستراتيجية مهيمنة في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدان. وقد ساهمت الحرب التجارية المفتوحة بين الولايات المتحدة الامريكية والصين وفرضية التفكك (decouphing) بين البلدين لتغذية هذا السيناريو الذي سيقود إلى مزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار.
– السيناريو الثالث هو سيناريو ما بعد العولمة : ستسعى أغلب البلدان من خلال هذا السيناريو إلى الخروج من العولمة وإعادة بناء استقلاليتها الاقتصادية من خلال سياسات صناعية جديدة هدفها إعادة بناء نسيجها الصناعي والقطاعات الاستراتيجية في اطار حدود الدولة الوطنية.
وقد انطلقت هذه السياسات الصناعية الجديدة في عديد الدول، ومن ضمنها الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا وبلدان الجنوب مثل الصين والهند وغيرها. ويمكن أن يقود هذا السيناريو إلى إعادة بناء المؤسسات الدولية على مبدأ تعدد القطبية لإدخال شيء من التوازن والعدالة في النظام العالمي.
يعيش العالم اليوم فترة مخاض كبرى ومخيفة في نفس الوقت حيث تعتمل سيناريوهات متعددة في رحم الأزمات التي نعيشها. وتكمن مسؤوليتنا في الضغط كي يتجه العالم نحو الخيار الذي يضمن لنا تجربة انسانية وحضارية قوامها التحرر والديمقراطية والتعدد.