منظمة فكرية وعلمية وثقافية مستقلة
بداية النهاية: دوافع وتداعيات حربي العراق، وأوكرانيا… مقاصد اطلسية مشتركة

بداية النهاية: دوافع وتداعيات حربي العراق، وأوكرانيا… مقاصد اطلسية مشتركة

البروفسور هاني الياس خضر الحديثي

أستاذ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية – متخصص في شؤون اسيا


بعد مرور ما يزيد على 20 سنة من حرب غزو واحتلال العراق عام 2003 م، وما يزيد على سنة من الحرب في أوكرانيا بين روسيا وحلفائها من جهة والولايات المتحدة والناتو من جهة ثانية، يقف العالم الان أمام مفترق طرق خطير وكأن البدايات في الاحتلال ألأنجلو-سكسوني للعراق عام 2003 لتطبيع ما تم البدء به في حرب التحالف الدولي ضد العراق عام 1991 تشرف على النهايات في حرب أوكرانيا .
في عدوان التحالف على العراق بقيادة أمريكية عام 1991، والمتزامن مع انهيار الاتحاد السوفيتي، أعلن جورج بوش الاب انتهاء الحرب الباردة ونهاية النظام الدولي ثنائي الاقطاب وانتصار المنهج الرأسمالي ليكون العالم موحدا بقيادة امريكية تسحق فيه الحضارات لصالح حضارة الغرب، معتمدا على طروحات المحافظين الجدد والذين بشروا بنهاية الصراع الايديولوجي وصراع الحضارات لصالح نظام عالمي واحد بمنهج اقتصادي رأسمالي واحد يؤمِّن هيمنة القوة الامريكية عبر قيادتها الكونية لهذا النظام؛ ولأجل استكمال حلقات الهيمنة الامريكية فإن الولايات المتحدة سارعت لتوظيف نتائج الحرب ضد العراق إلى الهيمنة على الشرق الاوسط وضمنها الهيمنة على النفط، الأمر الذي نتج عنه انبطاح العالم العربي بالكامل لتلك الهيمنة وتحقيق التسويات السياسية مع اسرائيل كقوة اقليمية كبرى وحيدة وظفت ذلك للامتداد في اسيا حيث تطبيع العلاقات مع الهند والصين وغيرها .
لقد تم استكمال تلك الصفحة عبر التهيؤ لتدمير ما تبقى من الانظمة الوطنية المعارضة لهذا النهج، وهو الأمر الذي تحقق عبر غزو العراق واحتلاله وكذلك ليبيا، وتوظيف الربيع العربي للاطاحة بالأنظمة العربية الاخرى وضمنها الصديقة للولايات المتحدة تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان، وكل ذلك تم عبر توظيف تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي تم اعتمادها من قبل إدارة المحافظين الجدد لإظهار القدرة العسكرية الطاغية وقوة الولايات المتحدة اتجاه العالم والتي بدأت خطواتها بغزو افغانستان كرافعة أولية نحو الهدف الأهم لغزو الشرق الاوسط والعالم العربي بالتحديد .
وفي حرب أوكرانيا عبّرت روسيا وظهيرها الصين مع بلدان عديدة، وخاصة الاسيو-أفريقية، عن رفضها لاستمرار المنهج الامريكي ومساعي فرض القيم الامريكية على العالم، الأمر الذي بدا واضحا في الموقف من هذه الحرب.
الولايات المتحدة سعت لتعزيز خارطتها الجيوبولتيكية عبر محورين:
الاول: توريط اوروبا ضمن الناتو في المجابهة بالنيابة لروسيا الاتحادية في أوكرانيا .
الثانية: تشكيل قوس المحيط الهادي-الهندي عبر تحقيق تحالف انكلو-سكسوني ضم كل من بريطانيا واستراليا مع مساعي استكمال هذا التحالف عبر ضم اليابان وكوريا الجنوبية، والقصد منه سحب بلدان التحالف في مواجهة مرتقبة مع الصين عبر عملية التصعيد معها في قضية تايوان .
هنا صارت المسألة تتعلق بتهديدات جدية يمكن أن تقود إلى مجابهات عالمية مباشرة أو بالنيابة مع الصين وروسيا، الأمر الذي أدى إلى تصعيد درجة التحالف الاستراتيجي لكل من الصين وروسيا مع امتداداتهما الإقليمية كنتيجة طبيعية للتهديد الجيوستراتيجي المشترك الذي شكلته الولايات المتحدة .
بعد ما يزيد على السنة من حرب أوكرانيا بدات الصورة تتغير بفعل متغيرات عديدة ابرزها:
1- صعوبات اقتصادية ضخمة في أوروبا نتجت عن حرب الطاقة، وتداعيات ذلك سلباً على الوضع الاقتصادي لأوروبا لم تعد شعوبها تتحمل تداعياته الخطيرة، وهو الأمر الذي بدا واضحا في التصريحات الرسمية للقادة الاوروبيين والبرلمانات الاوروبية ومجلس الاتحاد الاوروبي في ظل عجز واضح عن حسم المعركة لصالح الناتو .
ان تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون في زيارته الاخيرة للصين والمترافقة مع الضجر الفرنسي من عزلها عن استراليا (عبر التوافق الامريكي مع بريطانيا بمعزل عنها)، لتشكيل استراتيجية دفاعية أوروبية بمعزل عن واشنطن، واعتماد سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة اتجاه قضية تايوان بشكل خاص في وضع دولي متغير لصالح القطب الصيني-الروسي، وهو التصريح الذي دعمته ممثلية الاتحاد الاوروبي، لتتصاعد معه تصريحات اوروبية أخرى منها أصوات برلمانية تدعو لإخلاء القواعد النووية الامريكية من أراضي بلدان أوروبا، كما هو الحال في المانيا وايطاليا، إنما يعبر ذلك عن الشعور بالخسارة في جهود عزل وتدمير روسيا، خاصة إن التحقيقات تشير بشكل واضح إلى دور الولايات المتحدة في التفجير الذي لحق خط نقل الغاز البحري نورد ستريم 2 لمنع استقلال أوروبا اقتصادياً عن الولايات المتحدة، فضلاعن عدم الرغبة في الانخراط بنزاع آخر تقوده الولايات المتحدة مع الصين .
إن ذلك يترافق مع تطور المتغيرات الداخلية في الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية، والتي نتج عنها توقعات بانهيار سقف الدولار كعملة عالمية لتحل معها عملات اخرى في التعامل الدولي مثل اليوان والروبل، وهو خطر بدأ بالتصاعد عبّر عنه العديد من رجال الاقتصاد والمال في الولايات المتحدة وأخيرا الرئيس ترامب بقوله “إننا نخسر بلادنا كقوة عظمى ونخسر التعامل العالمي بالدولار الامريكي”.

2- تصاعد وتائر التعاون الروسي -الصيني مع منظومة بريكس، التي تضم ايضا الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وترشح دول أخرى للانضمام إليها مثل السعودية ومصر والجزائر، وهو الأمر الذي يعزز فرص التعامل بعملات أخرى غير الدولار وخاصة في مجال الطاقة .
وفي ظل تصاعد وتائر الازمات، تشعر عدد من بلدان العالم الآسيوي والافريقي ضرورة الابتعاد عن سياسات التوريط الامريكية في صراع النفوذ مع الصين في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان وعموم آسيا والشرق الاوسط، وهو الأمر الذي تم التعبير عنه بالاتفاق السعودي-الإيراني وتوقعات امتداده لتشمل بلدان اخرى بوساطة صينية .
هنا تبرز قضية اخرى تتمثل بتصاعد المشاكل الداخلية في اسرائيل والتي تهدد فرص استمرار الكيان الصهيوني كقوة إقليمية تسعى عبر التطبيع مع عدد من البلدان العربية مستثمرة هاجس القلق المشروع من التهديدات الإيرانية، والتي يمكن (في حال جدية النظام الإيراني) أن تزيل الاسباب الجوهرية للتطبيع، وهو الأمر الذي يعني القضاء على النتائج الإيجابية التي توفرت لإسرائيل والولايات المتحدة إثر الحرب وغزو العراق وتداعيات ذلك اقليميا ودوليا .
بعبارة أخرى، فإن العالم الذي شهد تغيراً حاسما لصالح الهيمنة الامريكية على النظام الدولي بعد حرب 1991 على العراق (تحت ذريعة تحرير الكويت من الغزو العراقي) خارج نطاق الشرعية الدولية، وتواصل لغاية احتلال العراق 2003، فإنه يشهد الآن تغيراً لصالح الفكاك من وضع دولي تهيمن عليه قوة طاغية (الولايات المتحدة) نحو نظام دولي تتعدد فيه مراكز الاستقطاب .
ومن الطبيعي أن يكون لآسيا بقطبيها الصيني-الروسي، فضلاً عن اقطاب إقليمية اخرى كالهند، دورها في هذا التغيير المرتقب منه الكثير لصالح شعوب آسيا والعالم .
هنا يبرز السؤال: هل يستطيع العرب أن يُدركوا الدرس بعد أن تم توريطهم بنزاعات وحروب داخلية كما هو الحال في عموم بلدان المشرق العربي وجنوبه؟؟؟
هذا ما نأمله في التحركات الخليجية وبلدان المحيط الاقليمي لها اتجاه الصين وروسيا .
بيد إن ذلك يتطلب توافقاً عربياً على منهج تكاملي مبني على أسس مختلفة عما هو قائم عليه الحال.


مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *