منظمة فكرية وعلمية وثقافية مستقلة
أي مستقبل ينتظر السودان في عشريته المقبلة؟ قراءة في معطيات المسرح السوداني واستشراف مشاهده المستقبلية

أي مستقبل ينتظر السودان في عشريته المقبلة؟ قراءة في معطيات المسرح السوداني واستشراف مشاهده المستقبلية


الدكتور محمد حسب الرسول

كاتب من السودان


    مدخل
    السودان دولة ذات تاريخ ضارب في القِدم، وهي من أهدت البشرية حضارة وادي النيل التي تعدّ واحدة من أهم وأقدم الحضارات في العالم، تلك الحضارة التي عبّرت عن مجتمع وادي النيل وعن ممالكه المختلفة التي أسست مع رصيفاتها في بابل والصين واليونان للانتقالات الحضارية الكبرى التي شهدتها المعمورة منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا.
    إن جغرافية السودان، كما هو تاريخه وحضارته، صنعت أهميّته ومكانته ودوره الاستثنائي على المستويين الإقليمي والدولي، فالسودان يقع على ساحل البحر الأحمر بامتداد يبلغ نحو 800 كم، هذا الساحل الطويل جعله على تماس وتفاعل مع الحركة التي تمر جيئة وذهابًا فوق مياه هذا البحر العربي ذي الأهمية الاستثنائية التي اكتسبها من الأنشطة التجارية والثقافية والعسكرية وغيرها من الأنشطة التي تحفل بها مياهه وسواحله. وقد أهلّ موقع السودان على شاطئ هذا البحر ليكون حلقة الوصل بين ساحله وبين الساحل الشرقي للمحيط الأطلسي، وهو بذلك يربط شرق الدنيا بغربها، ويسهم السهل الثقافي والتاريخي الموصول بين السودان وبين دول غرب أفريقيا في تعزيز هذا الربط، وتلك الصلات، ويعزز ذلك، جريان نهر النيل شمالًا نحو مصر والبحر الأبيض المتوسط ليجعل أواصر الصلات بين شرق ووسط أفريقيا وشمالها حقيقة قائمة وماثلة.
    إنّ حقائق الجغرافيا والتاريخ قد جعلت للسودان أهمّية كبيرة على المسرح الإقليمي والدولي، وفي إفادة وزير الأمن الصهيوني الأسبق آفي ديختر في محاضرته التي ألقاها في شهر آب/أغسطس 2008، في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي عن الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة اعترافًا بمكانة السودان ودوره ورسالته التاريخية.
    في تلك المحاضرة تناول ديختر الرؤية الاستراتيجية للكيان الصهيوني تجاه 7 دول، هي فلسطين ولبنان وسورية والعراق وإيران ومصر والسودان، ولخّص الرؤية الاستراتيجية الصهيونية تجاه هذه الدول في مقولته: “إن إضعاف تلك الدول واستنزاف طاقاتها وقدرتها هو واجب وضرورة من أجل تعظيم قوة إسرائيل، وترسيخ مِنعتها في مواجهة الأعداء، وهو ما يحتم عليها استخدام الحديد والنار تارة، والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى”.
    وقال ديختر إن السودان بموارده الكبيرة وبمساحته الشاسعة، من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول مثل مصر والعراق والسعودية، وإنه يمثل عمقًا استراتيجيًا لمصر، وهو ما تجسّد بعد حرب 1967، عندما تحول إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري والقوات الليبية، كما أنه أرسل قوات مساندة لمصر في حرب الاستنزاف عام 1968. وبناء عليه، وبحسب ديختر فإنه:

    • يجب عدم السماح لهذا البلد بأن يُصبح قوةً مضافةً إلى قوة العرب.
    • لا بدَّ من العمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه لمنع بناء دولة قوية موحدة فيه.
    • يلزم إضعافه، فسودان ضعيف ومجزأ وهشّ أفضل من سودان قوي وموحّد وفاعل.

    ويلخص هذا الحديث التوجه والمنظور الاستراتيجي الصهيوني للسودان، كما يعبّر كذلك، عن التوجه الغربي تجاه السودان، هذا التوجه الذي تقتضيه ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي. في الوقت نفسه، يقدم هذا التلخيص مادة مهمّة لا غنى عنها في قراءة المشاهد السياسية في السودان في حقبه المختلفة وبخاصة هذه الحقبة التي بدأت قبل سقوط نظام البشير وامتدت خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت ذلك السقوط.
    إنّ السودان بموقعه الجيوستراتيجي، وبتاريخه الحضاري والسياسي، وبمكنوناته وثرواته، وبقدرته على التأثير في محيطه الحيوي، يمثل حالة خاصة بمعايير القوة الاستراتيجية، فقدراته المكتشفة والكامنة، المادية منها والمعنوية، تمثل عناصر قوة استراتيجية كبيرة، وقد خلص الكيان الصهيوني إلى ذلك وأدركه. لهذا فإنّ قراءة حاضر السودان ومستقبله تتطلب استصحاب كل ذلك، كما تتطلب الإحاطة الدقيقة بمعطيات الحاضر، للاستفادة من ذلك في تقديم قراءة استشرافية لمستقبل السودان خلال العشرية القادمة من عمره، ويمثل ذلك هدفًا لهذا المقال الذي يتوسل بمنهج دراسة المستقبلات ومنهج بناء المشاهد، ليقدم قراءة منهجية لما ينتظره من مستقبل.


    أولًا: معطيات المشهد السوداني بعد تغيير 2019
    عرف السودان قبل غيره من دول الإقليم، تغيير نظم الحكم فيه، عبر الحراك الشعبي الذي حمل اسم ثورة حينًا، ومسمى انتفاضة حينًا آخر، ولقد أحدث الحراك الشعبي تغييرًا لنظام الفريق إبراهيم عبود في 21 تشرين الأول/أكتوبر 1964، وصنع تغييرًا أطاح فيه نظام المشير جعفر نميري في 6 نيسان/أبريل 1985، ثم أحدث تغييرًا في 11 نيسان/أبريل 2019 أطاح فيه نظام المشير عمر البشير.
    أعقب كل تغيير حدث في السودان مرحلة انتقالية قصيرة، يحتدم فيها الصراع بين الأحزاب السياسية، ويبلغ فيها التنافس أعلى درجاته، وترتفع خلالها مستويات التعبير عن خطاب الإقصاء والكراهية، ومع كل ذلك البؤس السياسي والحزبي، فإنّ حالات الاستنصار بالخارج على شركاء الوطن لم تكن حاضرة، فقد كان “عيبًا” معروفًا تجتنبه الأحزاب، ويتحاشاه الساسة، غير انّ المرحلة الانتقالية التي يعيشها السودان منذ نحو أربع سنوات قد فاجأت الوطن وفجعته بمستوى الحضور والنفوذ الخارجي الذي ميّز هذه الحقبة عن غيرها من مراحل الانتقال التي سبقت.
    لقد شكّل التدخل الخارجي أعلى درجات الخطر على السودان، وعلى أمنه، واستقراره، وعلى استقلاله الوطني، حتى فقدت البلاد ذلك الاستقلال أو كادت، وقد فتحت الشراكات التي قامت بين بعض الفاعلين على المسرح السياسي وبين المشروع الغربي في امتداده العربي وعمقه الغربي، فتحت أبواب السودان على مصراعيها أمام التدخل الخارجي، فبات الخطر الأبرز الذي يتهدد البلاد ضمن قائمة معطيات هذه المرحلة التي يمكن إبراز بعضها في ما يأتي:


    1 – التدخل الخارجي
    التدخل الخارجي هو أول معطيات مشهد المرحلة الانتقالية في السودان وأكثرها تعقيدًا، ومن شواهد هذا التدخل:


    أ – تدخل الدول الإقليمية والغربية

    • تخلي بعض دول الخليج عن نظام الرئيس السابق عمر البشير، الذي ناصرها في مشروعاتها الإقليمية، وشاركها في مواقفها وحروبها، وبوجه خاص في حرب اليمن، وقيامها باستكمال حلقات الحصار على السودان، وبخاصة في الجانب الاقتصادي، الأمر الذي أفقد ذلك النظام ما تبقى عنده من قدرة يقابل بها التحديات الاقتصادية التي كانت سببًا مباشرًا من أسباب الرفض الشعبي لذلك النظام وسببًا مباشرًا في إطاحته.
    • رعاية بعض الدول لبعض معارضي النظام السابق، وتوفير الدعم السياسي والإعلامي والمادي لهم، وتنسيق جهودهم مع بعض القادة العسكريين الذين ربطتهم صلات بهذه الدول، وتنسيق جهود مدنيين وعسكريين مع الحلفاء الغربيين، وبخاصة في أوروبا.
    • رعاية بعض دول الإقليم وبعض الدول الأوروبية للتحالف المدني العسكري، وإشرافها على تكوين السلطة الانتقالية وإشرافها على إعداد الوثيقتين السياسية والدستورية اللتين تأسست عليهما السلطة الانتقالية ومؤسستيها الرئيستين، مجلس السيادة ومجلس الوزراء.
    • رعاية هذه الدول لمسيرة السلطة الانتقالية، وتدخلاتها المباشرة في تذليل بعض الصعاب المالية التي واجهتها، والمساهمة في تعزيز علاقات السلطة الانتقالية بالدول الغربية وبالمنظومات الدولية، ومساهماتها في إعادة هندسة الأوضاع في مؤسسات الدولة بصفة عامة، وفي مؤسساتها ذات الطابع السيادي بصفة خاصة.
    • رعاية رئاسة مجلس الوزراء، وتوفير السند اللوجستي والفني لها، وتكفُّل منظمات أوروبية بدفع مرتبات رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وكبار مستشاريه ومعاونيه (على النحو الذي نشرته مؤسسات إعلامية)، في مخالفة لكل قواعد السيادة ومقتضيات الأمن القومي للدول.
    • مساعي دولة إقليمية، وسعيها المتكرر للسيطرة على الساحل السوداني على البحر الأحمر، وعلى الموانئ القائمة عليه التي يخطَّط لبنائها، ومساعيها الدؤوبة لوضع يدها على واحدة من أخصب الأراضي الزراعية في السودان تقع في شرق السودان، وتتجاوز مساحتها مليون فدان، وتتمتع هذه المنطقة باهتمام صهيوني كبير لأسباب تتعلق بموقعها الجغرافي، وكبر مساحتها الجغرافية، وخصوبة أرضها، وتوافر المياه بها، ولأسباب دينية تتصل بالميثولوجيا الصهيونية.


    ب – التطبيع مع الكيان الصهيوني


    تبني رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان حميدتي، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك مشروع التطبيع، ثم تنافسهم عليه، فبعد مقابلة برهان لنتنياهو في أوغندا بدأت مظاهر التنافس حول التطبيع بين ثلاثتهم، ومن مشاهد هذا التنافس:

    • بادر مجلس الوزراء برئاسة عبد الله حمدوك إلى اتخاذ بعض الخطوات التطبيعية الكبيرة، حيث استصدر قرارًا من مجلس الوزراء ألغى بموجبه قانون مقاطعة “إسرائيل” لعام 1968، ثم قرر توقيع اتفاقية أبراهام وفوض وزير العدل الذي وقع الاتفاقية، وصاحب ذلك قيام مجلس الوزراء بتغيير المناهج الدراسية لتتماشى مع مطلوبات التطبيع، فحُذِفت منها كل ما له صلة بالقضية الفلسطينية، بل حذفت كل مادة ذات صلة بالتحرر والاستقلال الوطني، وبلغت الحال حد حذف المقررات الدراسية الخاصة بالثورة المهدية التي صنعت استقلال السودان الأول في القرن التاسع عشر.
    • مشاركة رئيس مجلس الوزراء، ورئيس مجلس السيادة في القمة الرباعية التي جمعتهما برئيس الوزراء الصهيوني والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أواخر حقبة حكمه.
    • أوفد قائد الدعم السريع أخيه إلى تل أبيب لفتح آفاق تعاون ثنائي بين قواته والكيان الصهيوني، وسعي الطرفين إلى تأسيس علاقات متعددة الأوجه بينهما، مع إعطاء خصوصية للعمل المشترك في المجال الزراعي حيث دار الحديث حول طرح مشروع ضخم يقع غرب نهر النيل للاستثمار المشترك.

    ج – البعثة الأممية للسودان «يونتامس»


    بتاريخ 28 كانون الثاني/يناير 2020، بعث عبد الله حمدوك رسالة مكتوبة إلى الأمين العام للأمم المتحدة طالبًا فيها التالي:

    • تأليف بعثة سياسية خاصة للسودان، تضم عنصرًا قويًا، وتشمل ولايتها الجغرافية كامل أراضي السودان، ويمتد نطاقها الزمني حتى يحقق السودان أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030، على أن تكون ذات نهج مبتكر ومنسق ويتسم بالمرونة والسلاسة، وينبغي استخدام عناصر أساسية واتباع نهج نموذجي، وأن يوسع فريق هذه البعثة عملياته من حيث الحجم والنطاق ليكون على مستوى الغرض المنشود، وأن يكون وجود الأمم المتحدة في السودان متكاملًا، ومتوائمًا من الناحية ‏‏الاستراتيجية وتحت قيادة واحدة، وأن يجري الأمين العام إصلاحات لركائز البعثة.
    • أن يكون من مهمات البعثة: دعم تنفيذ الإعلان الدستوري (الدستور الانتقالي)، والرصد المنتظم لتنفيذ نقاطها المرجعية الرئيسية؛ الاضطلاع بعمليات الإصلاح القانوني والقضائي؛ إصلاح قطاع الأمن (الجيش، والشرطة، والأمن)؛ إصلاح الخدمة المدنية؛ وضع الدستور الدائم؛ دعم جهود السلام ودعم إعادة المشردين داخليًا واللاجئين إلى أوطانهم وإعادة دمجهم.


    استجاب الأمين العام للأمم المتحدة إلى طلب رئيس الوزراء الانتقالي، وأنشأ مجلس الأمن الدولي بناءً على هذا الطلب بعثة سياسية أممية للسودان حملت الاسم المختصر «يونتامس»، وذلك في 4 حزيران/ يونيو 2020، بالقرار الرقم 2524، ثم عين الألماني فولكر بيرتس الذي عمل مع بول بريمر في العراق إبان الاحتلال الأمريكي له، ثم عمل مستشارًا لمبعوث الأمين العام للأمم المتّحدة لسورية خلال الحقبة 2015 – 2018، كما عمل أستاذًا بجامعة هومبولت ببرلين، وأستاذًا مساعدًا في الجامعة الأميركية في بيروت (1991 – 1993)، وترأس مجموعة أبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا حتى نيسان/ أبريل 2005، وعمل مديرًا للمعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن، وله كتاب بعنوان نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه، ولعل في السيرة الذاتية لرئيس البعثة الأممية بخبراته في العراق وسورية، وخبراته الأخرى عنوانًا لطبيعة المهمة التي اختير لها في مهمته الجديدة في السودان.
    أخفى رئيس الوزراء هذه الرسالة عن مجلس السيادة، وأحاطها بقدر عال من السرية، وتبين لاحقًا أن بريطانيا هي صاحبة مشروع البعثة، وأن السفير البريطاني في السودان هو من صاغ الرسالة، وأنه قد طلب من رئيس الوزراء الذي يحمل الجنسية البريطانية إرسالها بتوقيعه إلى أمين عام الأمم المتحدة، وقد أعلن السفير ذلك. وقد روّج مناصرو رئيس الوزراء من الساسة ومن بعض الدبلوماسيين الغربيين أن هذه البعثة ستحقق أهدافًا كبيرة، من بينها تقليم أظافر المؤسسة العسكرية، وصناعة معادلة جديدة لمصلحة رئيس الحكومة وحاضنته السياسية، ولهذا لم ترفض الحاضنة السياسية هذه البعثة بكل ما يحمله وجودها ومهماتها من مخاطر كبيرة تستهدف سيادة البلد واستقلاله.
    يتضح من طبيعة البعثة التي جاء تفصيلها في رسالة رئيس الوزراء، أنّها بعثة سياسية وشاملة من حيث التكوين، وأن لها قيادة واحدة تجتمع تحت إمرتها كل المؤسسات الأممية، وأن نطاق ولايتها يشمل كل السودان، وأن أجلها الزمني يمتد لعشر سنوات هي عدد سنوات المرحلة الانتقالية المقترحة من تحالف الحرية والتغيير الذي كان حاكمًا في السنوات من 2019 إلى 2021، وأن الرسالة قد منحت الأمين العام للأمم المتحدة تفويضًا لتطوير البعثة تحت مسمى الإصلاح، كما أن البند الأول في مهمات هذه البعثة الوراد تحت صيغة دعم تنفيذ الإعلان الدستوري قد وضع البعثة في مرتبة أعلى من كل مؤسسات المرحلة الانتقالية وبخاصة مجلسا السيادة والوزراء، حيث منح هذا البند الحق للبعثة في مراقبة أداء المجلسين، وممارسة عمليات المتابعة والتقييم لأعمالهما، وتصويب تلك الأعمال من موقع الوصاية المسنودة بقرار أممي.
    بالنظر إلى مهمات البعثة وفق رسالة عبد الله حمدوك التي اعتمدها القرار الأممي المنشئ للبعثة، فإنّ تلك المهمات تُمكن البعثة وبصورة كاملة من ممارسة الوصاية والانتداب على السودان، وهذا الذي ثبت إلى حد كبير خلال مدة عملها، ومن خلال ممارساتها العملية. كما أن مهمات البعثة تشمل مباشرةً إعادة هندسة أوضاع الدولة تحت مظلة إصلاح مؤسساتها التي وردت ضمن المهمات، وهو الذي تمت ترجمته عمليًا من خلال تفكيك بعض مؤسسات الدولة، وعبر إضعاف المؤسسات التي لم يشملها التفكيك، ومن خلال عمليات الإحلال والإبدال التي شملت كوادرها، حيث شهدت حقبة حكومة عبد الله حمدوك الأولى والثانية فصل وتشريد آلاف الكفاءات الوطنية التي تمرست في العمل، وتشبعت بقيَمه وتقاليده، واكتسبت وراكمت عبر عقود من الزمن خبرات كبيرة تم استبدالها بأصحاب الولاء السياسي وببعض الذين جاء بهم التغيير من خارج الحدود.
    لم تكن مهمات البعثة التي جاءت في رسالة رئيس الوزراء وتضمنها قرار مجلس الأمن الذي أنشأ هذه البعثة، مصوبة فقط نحو إعادة تكوين مؤسسات الدولة على نحو جديد يخدم هدف صناعة حاضر جديد للدولة السودانية تحت قيادة البعثة الأممية من خلال عمليات الفك والتركيب التي استهدفت المؤسسات، إنما مكّنت هذه المهمات البعثة من صناعة مستقبل السودان عبر وضع الدستور الدائم للبلاد، وسن قوانيين جديدة بعيدًا من الإرادة الوطنية، وبمنأى عن تطلعات المواطنيين ووجدانهم وهويتهم التاريخية والحضارية، علمًا بأن للسودان خبرات وتجارب دستورية غنية جدًا استفاد منها الإقليم بأسره، حيث كتب بعض الخبراء السودانيين كل الدساتير التي حكمت بلادهم منذ عام 1953 وحتى دستور 2005 الذي تم تعليق العمل به في 11 نيسان/أبريل 2019، وأن بعض خبرائه قد كتبوا دساتير دول عربية وآسيوية، وأن القانونيين من أبنائه قد أسسوا عددًا من المنظومات العدلية، وصاغوا قوانين دول كثيرة ولا سيما في دول الخليج، وأن أساتذة القانون السودانيين قد درّسوا في جامعات كثيرة في محيط السودان العربي والأفريقي وتخرجت على أيديهم أعداد كبيرة من دارسي القانون.
    إنّ التدخل الخارجي في الشأن السوداني خلال هذه المرحلة الانتقالية قد أفضى إلى تحويل طبيعة الصراع السياسي في السودان إلى صراع بين مشروع الاستقلال الوطني ومشروع الهيمنة الغربية على البلاد، وأعاد البلاد إلى مرحلة ما قبل الأول من كانون الثاني/يناير 1956 تاريخ استقلال السودان، الأمر الذي أدركه المجتمع وبدأ في حشد طاقاته لمقابلة هذا التحدي الذي استجد.
    إنّ “الاستعمار” كما هو عهده وتاريخه، ليس حريصًا على الديمقراطية في “مستعمراته”، فطفق عبر تاريخه الطويل في تنصيب الحكام وفي فرض الأنظمة، متجاوزًا حق الشعوب في اختيار حكامها، وفي بناء نظم الحكم، ضاربًا عرض الحائط بحقوقها المشروعة في الحكم الديمقراطي الذي يتأسس على الانتخاب والاختيار الحر، الذي يؤسس في الآن عينه لتداول سلمي للسلطة. وكما سعى في تاريخه إلى فرض قيادات على شعوبها خلال الحقبة الكولونيالية، فإنه لم يدرك بعد خطل ذلك الصنيع، ويريد أن يستمر في استدامة ذلك النموذج في غير قُطر، وعمل ولا يزال منذ بداية المرحلة الانتقالية وحتى الآن على فرض قيادة وتنصيب حكام يخدمون مصالحه، ويخاطبون أجندته، ويخطبون وده، ويستوي في ذلك عنده المدني والعسكري حين يتوافر الولاء، وهذا الذي أطال أمد المرحلة الانتقالية، وأضعف الدولة، وقسم المجتمع، وجعل الاستحقاق الانتخابي استحقاقًا صعب المنال.


    2 – تفكيك مؤسسات الدولة
    ثمة تشابه بين حال السودان في هذه المرحلة الانتقالية، وبين حال العراق بعد احتلاله في عام 2003، ويُعدُ تفكيك الدولة والمجتمع، وممارسة الهيمنة والوصاية الأجنبية من أهمّ أوجه الشبه بين البلدين، ومثلما فكك الاحتلال الأمريكي مؤسسات الدولة العراقية في عهد بول بريمر، فإنّ مؤسسات الدولة في السودان، المدنية منها والعسكرية، قد تعرضت للتفكيك والإضعاف من جانب السلطة الانتقالية في عهد رئيس البعثة الأممية إلى السودان فولكر بيرتس كما جاء ذكره آنفًا.
    لم تكن الخدمة المدنية وحدها التي شملها العبث والإضعاف والتفكيك، إنما شمل كذلك مؤسسة الجيش، ومؤسسة الشرطة، وبقية المؤسسات النظامية، التي فصل منها آلاف الضباط، وأطلقت الحملات الإعلامية والسياسية لتفكيكها واستبدالها بالمكونات العسكرية للحركات المسلحة، وقد نالت تلك الحملات من معنويات هذه المؤسسات وأثرت سلبًا في أدائها، فتراجعت درجات الأمن والأمان في معظم أنحاء البلاد، وأصيب الأمن القومي في منعته وقوته.
    لقد برزت إلى السطح ظاهرة إعادة رسم خريطة السودان على نحو جديد، بعد أن وقعت السلطة الانتقالية بشقيها المدني والعسكري اتفاقية جوبا للسلام مع الحركات المتمردة في دارفور والنيل الأزرق في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، حيث ابتدعت لأول مرة ما عُرف في هذه الاتفاقية بالمسارات الخمسة، التي قسمت السودان إلى خمسة أقاليم ومنحت كل إقليم/مسار نصيبًا من السلطة والثروة على المستويين الاتحادي والإقليمي، وهو ما يؤشر إلى مستقبل جديد للسودان عنوانه الأبرز هو التفكك، ويعد ذلك من أخطر ما تضمنته الاتفاقية.
    وبالتزامن مع ذلك تزايدت وتيرة المطالبة بانفصال أجزاء من السودان، حيث تعالت دعوات انفصال في شرق السودان، وفي شماله، وفي أنحاء أخرى من السودان، كما تعالت أصوات تنادي بفصل أجزاء من السودان التحق بعضها به في مطلع القرن العشرين، وأجزاء أخرى شعر أصحاب الدعاوى أنها تمثل تهديدًا لاستقرار السودان، وتتضمن هذه الدعاوى مشروعًا جديدًا يحصر حدود الدولة بين النهر والبحر في إشارة إلى المنطقة الواقعة بين نهر النيل والأنهر التي تصب فيه وبين البحر الأحمر.
    لقد منحت اتفاقية جوبا كذلك هذه الحركات حق الاحتفاظ بجيوشها لعشر سنوات قادمة، وحق إقامة قواعد عسكرية لها في الخرطوم وعدد من العواصم والمدن الولائية، الأمر الذي جعل ظاهرة تعدّد الحركات المسلحة أكبر مهدد للأمن القومي السوداني، وأخطر مهدد لأمن المواطنين في معظم أنحاء السودان.
    إن خلاصة عمليات التفكك قد بدت أكثر وضوحًا في انقسام الرأي العام حول قضية الوحدة والتفكيك وما يتصل بها من رؤى لتشكيل كيانات سياسية جديدة على أنقاض الدولة الموحدة، وتجلت آثار التفكيك في العجز الذي أصبح سمة من سمات مؤسسات الدولة المختلفة التي باتت عاجزة عن القيام بأدوراها الطبيعية، فانعدم الأمن أو كاد في العاصمة والولايات، وتردى مستوى خدمات الصحة والمياه والكهرباء، وتدهورت خدمات التعليم العام، وتوقفت خدمة التعليم العالي، حيث ظلت الجامعات الحكومية مغلقة منذ أن ترأس عبد الله حمدوك وحاضنته السياسية الحكومة الانتقالية الأولى في عام 2019، واستمرت مغلقة حتى قيام المفاصلة بين شركاء السلطة الانتقالية في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، ففقدَ طلاب الجامعات 3 سنوات من عمرهم بسبب عجز السلطة الانتقالية. والأدهى والأمَرّ هو حل المحكمة الدستورية التي صنع الفراغ الذي تركته ضياعًا لحقوق الناس وإهدارًا لكرامتهم الإنسانية، وأصاب العدالة بالشلل.


    3 – الإنهاك الاقتصادي
    تبنَّت السلطة الانتقالية ممثلة بمجلس الوزراء والحاضنة السياسية المشروع النيوليبرالي بكل أبعاده، كما تبنت وصفات المؤسسات المالية الدولية ممثلة بالبنك الدولي وبصندوق النقد الدولي، فاستكملت السلطة الانتقالية من دون رحمة، عملية تحرير الاقتصاد، فألغت الحكومة الدعم الذي كان قائمًا في قطاعات الصحة والتعليم، الكهرباء، المياه، الغذاء، والمحروقات، وخفضت قيمة العملة الوطنية، فأصبحت قيمة الدولار الأمريكي تساوي نحو 600 جنيه بعد أن كان يساوي نحو 60 جنيهًا، وارتفع التضخم إلى عشرة أضعاف ما كان عليه، وأصبحت الحياة قاسية إن لم تكن مستحيلة. وقد أسهم تدهور الأوضاع الاقتصادية في زيادة النفوذ الخارجي، وفي زيادة مستوى تأثيره في القرار الوطني، حتى بات السودان دولة بلا سيادة وبلا استقلال، كما أسهمت هذه الأزمة الاقتصادية في دفع خطى تنفيذ مشروع التغيير الاجتماعي والقيمي، وزادت نسب الطلاق والتفكك الأسَري، وازدادت معدلات الانحلال الأخلاقي، ودخلت أنماط ثقافية جديدة لم يعرفها المجتمع السوداني من قبل، وزادت معدلات الاخلال بالأمن.


    4 – الانقسام والتهافت السياسي
    شهدت هذه المرحلة حالة من الانقسام العمودي بين القوى السياسية، وتبلور هذا الانقسام في بروز تحالف سياسي يرى أن معالجة أوضاع السودان لا تتم من دون معالجة علاقاته مع الغرب، وأن الأمل في نهوض الدولة لا يتحقق من دون علاقة مميزة مع الغرب، وأن الطريق إلى المستقبل يمر عبر الغرب، وأن الحل يكمن في اتباع النموذج الغربي، في الثقافة والسياسة والاقتصاد والتعليم والقانون والاجتماع والفنون، وأن استدامة التنمية والنهوض لا تتأتى إلا بغرس النموذج الغربي في التربة السودانية، ولهذا يُعَوّل هذا التحالف – الذي انفرد بحكم السودان خلال المرحلة الانتقالية - على الشراكة بينه وبين الغرب وشركائه في بعض دول الخليج. هنا تجدر الاشارة إلى أمرين، أولهما: أن هذا التحالف المكون من 4 أحزاب قد استَلَفَت أحزابه من قبل النموذج العلماني من الغرب وتبنته، والأمر الثاني: أن نظرية هذه الأحزاب الاقتصادية تأسست على الفلسفة الاشتراكية التي هي نقيض لفلسفة الغرب الرأسمالي، وفي تجربة حكمها تبنت فلسفة الغرب الاقتصادية ضمن تبنيها للمشروع النيوليبرالي. هنا يبزر التناقض الذي يولّد أسئلة كبرى تدور حول كيفية الجمع بين مشروعين نقيضين، وتدور حول مكانة الاستقلال الوطني وقيمته في مخيلة ومشروع هذا التحالف.
    في مقابل هذا التحالف الذي تحولت أحزابه من الناحيتين الفكرية والسياسية، بدأ المجتمع في بناء منظومة أخرى ترى أن النهضة تتم بالاعتماد على الذات ومن خلال استلهام نموذج يبني على الصالح من إرث السودان وتجربته في المساقات الثقافية والقيمية والسياسية والاقتصادية، مع عدم التجافي عن العالم الخارجي بل إقامة علاقات تبادل تقوم على الندّية والكرامة الوطنية، وترعى المصالح المشتركة باستقلال من دون التفريط في السيادة.
    يعَدّ طغيان الصبغة والملامح الوطنية السمة المائزة لهذه المنظومة التي بدأت في التشكل من مكونات المجتمع الرئيسة، ممثلة في الطرق الصوفية، والكنائس، والقبائل، والرموز والشخصيات الاجتماعية، وأغلب الأحزاب الوطنية. لكن ثمة تحديات كبيرة تواجه هذه المنظومة الجديدة، أولها تعريف هوية هذه المنظومة، وتحديد طبيعتها والتوافق عليها، وهذا أكبر هذه التحديات التي تواجه مكوناتها في لحظات التأسيس، لأنها إن مضت في التشكل لتصبح حزبًا أو تحالفًا سياسيًا فإنها لن تشكل الاضافة النوعية المنتظرة منها، وفي السودان ما يربو على مئة حزب، وفيه عدد من التحالفات يتجاوز عدده عدد أصابع اليدين. المطلوب أن تتألف مكونات هذه المنظومة على أطروحة وطنية جديدة تزاوج بين القيم والعلم، وخلاصة التجارب والعبر، وأن تتأسس كمنصة وطنية تتعاطى مع التحديات والاستحقاقات من منطلق وطني لا منطلق سياسي أو حزبي، وهذا الذي ترى ملامحه في معادلة التحدي والاستجابة والتدافع خلال السنوات الثلاث الماضية، وبدأت في التبلور أكثر خلال العام الأخير من عمر المرحلة الانتقالية، ثم على مكونات هذه المنظومة الانخساف فيها ومفارقة القديم إلا بالقدر الذي يمكن من استخلاص العبر والاستفادة منها.


    5 – إنهاك وتفكيك المجتمع
    شهدت هذه المرحلة محاولات محمومة لتقسيم المجتمع السوداني وإنهاكه وتفكيكه على نحو لم يعرفه المجتمع في أحلك الظروف التي مرت به في تاريخه الطويل، وذلك عبر افتعال المشاكل بين مكونات المجتمع المختلفة، ومن خلال إشعال الصراعات والحروب القبلية، واستثارة النعرات المختلفة، فنشأت من جراء ذلك صراعات قبّلية وجهوية في شرق السودان الذي ظل آمنًا مستقرًا تتعايش فيه الإثنيات وتأتلف وتتداخل وتتصاهر في تفاعل حضاري بديع، فتحول كل ذلك إلى حروب وصراعات أُريقت خلالها دماء بعض أبناء هذا الإقليم.
    تكررت تلك الصراعات في كردفان، ثم في دارفور التي ظلت آمنة منذ اتفاقية الدوحة للسلام التي وقعتها الحكومة مع معظم الحركات المسلحة عام 2011، وانتقلت الصراعات القبلية كذلك إلى النيل الأزرق، وإلى أطراف السودان الأخرى في تطبيق عملي لنظرية شد الاطراف وضرب المراكز التي أنتجها الكيان الصهيوني وجعلها سياسة من سياساته في الإقليم.
    وفي السياق نفسه، غزت جماعات سياسية وثقافية مرتبطة بالغرب وتحمل أطروحاته القيمية والثقافية المجتمع السوداني، وبذلت جهودًا كبيرة لضرب منظومة قيم المجتمع التاريخية، واستبدالها بالقيم الغربية، وفي ذلك، كان التركيز كبيرًا على الأسرة التي استهدفت بالإضعاف والتفكيك ، كما كان التركيز كبيرًا على شريحة الشباب التي تم استهدافها بالمخدرات، واستهدافها بنماذج قيمية تصادم قيم المجتمع التاريخية، ويُعد نموذج الشذوذ الجنسي من هذه النماذج التي بذلت جهودًا كبيرة من أجل ترسيخ وجودها في المجتمع برعاية ودعم حكوميين.
    وبرغم حالات الإنهاك والتقسيم التي ضربت المجتمع السوداني خلال المرحلة الانتقالية، إلا أنه بدأ في امتصاص الصدمات ومن ثمّ شرع في تأسيس مواقف وطنية يقارع بها الخطوب والمخاطر التي واجهته، ولمقابلة تحدي الاستقلال الوطني نشأت حركة مجتمعية فاعلة تناهض وجود البعثة الأممية، وتدعو إلى إخراجها من البلاد، وإلى استعادة السيادة والاستقلال الوطني.
    في مقابل تحدي إعادة الهندسة الاجتماعية والقيمية، نهض المجتمع فقاوم مشروع تغيير المناهج الدراسية، وناهض مشروع الانقلاب القيمي الذي اعتمد على بعد قانوني سنت حكومة عبد الله حمدوك لأجل تحقيقه قوانين جديدة، وعدّلت قوانين وألغت أخرى. وقد ناهض المجتمع وكافح مشروع الغزو الثقافي الذي يعمل على استبدال قيم المجتمع بقيم بديلة مصادمة لوجدان المجتمع وموراثاته .
    وليس بعيدًا من جهود استعادة السيادة والاستقلال الوطني، والجهود المبذولة من أجل المحافظة على المجتمع وهويته وقيمه، نهض المجتمع في مواجهة مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني، وانتظمت قوى المجتمع في هيئة شعبية لمناهضة التطبيع عبر مناشط وفعاليات شعبية مؤثرة.
    ثم احتشدت مكونات المجتمع وتراصّت في منصة وطنية جامعة تنشد توظيف الطاقات الوطنية لمصلحة مشروع وطني يعمل من أجل إعادة التوازن إلى المسرح السياسي السوداني، ولبناء الحاضر والمستقبل وفق المشيئة الوطنية التي تحفظ للوطن وحدته واستقلاله وأمنه ورفاهه. وهذا الذي تنادت له القبائل، والأحزاب الوطنية، والشرايح الشبابية والنسوية، تحت مظلة المجلس الأعلى للتصوف الذي أطلق مشروع نداء السودان الذي أنهى أعمال الحوار الوطني على مائدة مستديرة منتصف شهر آب/أغسطس 2022.


    ثانيًا: مشاهد السودان المستقبلية
    إن الواقع السوداني بمعطياته التي سبقت، يُعد واقعًا صعبًا بالغ التعقيد، وقد زاد المشروع والنفوذ الخارجي من صعوبة وتعقيد هذا الواقع، وبخاصة أن للمشروع الخارجي شركاء “سودانيين”، تمكنوا من تقسيم الأدوار بينهم، وأدوا أدوارهم بجرأة، من خلال التكامل بين الواجهات السياسية المختلفة من أحزاب، ولجان شبابية، وبين الواجهات العسكرية التي تمثلها الحركة الشعبية لتحرير السودان جناح عبد العزيز الحلو، ورصيفتها التي يترأسها عبد الواحد محمد نور، وتضطلع البعثة الأممية “يونتامس” بدور “المايسترو” الذي يوزع الأدوار، ويحدد زمن كل لاعب.
    من كل ما تقدم، تبرز مشاهد تستشرف مستقبل السودان في العشرية القادمة من تاريخه، والمشاهد هي:


    1 – المشهد الديمُقراطي
    يعَد هذا المشهد هو المشهد المرغوب فيه من أغلبية أهل السودان، لكنه المشهد الذي تواجهه صعاب كبيرة، ومن أبرزها:

    • عدم قبول الأحزاب الصغيرة المتحالفة مع الخارجٍ بهذا المشهد، بسبب عجزها التاريخي عن تحقيق أي مكاسب انتخابية، الأمر الذي سيفقدها فرصة العودة إلى السلطة وكراسي الحكم الذي منحه لها شريكها الخارجي، وبالتالي يتوقع استمرار حملاتها الرافضة لهذا الخيار، وقد يحملها هذا الرفض إلى الانتقال إلى مرحلة متقدمة من مراحل إشاعة الفوضى والاضطرابات حتى تمنع قيام الانتخابات.
    • عدم توافر إرادة سياسية تنتج توافقًا وطنيًا على دستور انتقالي يُستند إليه كمرجعية في أي عملية انتخابية.
    • رفض بعض الدول الغربية “المستتر” لأي عملية انتخابية تمكن المجتمع السوداني من الاختيار الحر، ورفض بعض الدول لمبدأ التحول الديمقراطي، وخشيتها إعادة تطبيقه في السودان، ويكمن مبعث الخوف في عدم رغبتها في انتقال ثقافة الحرية والديمقراطية إلى دولها ومجتمعاتها.
    • تفضيل بعض الدول للحكم العسكري على الحكم القائم على الخيار الديمقراطي الانتخابي الحر، كون الأول يحقق استقرارًا يعجز الثاني عن تحقيقه – كما تزعم – الأمر الذي ينعكس عليها مباشرة.
    • عدم وجود معادلة تستوعب قوات الدعم السريع الحركات المسلحة في دارفور في مرحلة الانتخابات وما بعدها، وخوف هذه الحركات فَقْد المكاسب التي تحققت لها بموجب اتفاق جوبا، وخوف قائد الدعم السريع ومعاونيه فقد المكاسب السياسية التي تحققت لهم خلال هذه المرحلة الانتقالية.


    إن تقدم المشهد الديمقراطي أو تأخره رهين بقدرة أي من طرفي المعادلة السياسية على فرض توجهه على الطرف الآخر، فالطرف الرافض للانتخابات لا يتمتع بثقل شعبي ولا مجتمعي، ويرى تحالفه مع الخارج هو مصدر قوته الرئيسة. أما الفريق الراغب في تحقق هذا المشهد، ويعمل من أجل تحقيقه، فإنه يستمد قدرته من المجتمع، كما يشكل الرأي العام في مؤسسات الدولة – على ضعفها – مصدرًا آخر من مصادر قوته.
    الطرف الأول الرافض للانتقال الديمقراطي، والرافض إجراء انتخابات يريد التربع على كراسي السلطة بدفع وسند غربي، لكنه لم يدرك أن الغرب الذي يواليه يعيش واقعًا دوليًا جديدًا جراء الحرب في أوكرانيا، ومن جراء تداعيات الصراع الدولي حول النظام العالمي الجديد، وان ذلك جعله يعيش حالة تراجع على المسرح الدولي والمسرح الإقليمي.


    2 – مشهد التغيير المسنود بالقوة العسكرية
    وهو مشهد مطروح تتبناه بعض القوى السياسية التي ترفع شعار التغيير الجذري، وتعمل من أجل استنساخ نموذج التغيير في شرق أفريقيا الذي تمّ باستخدام القوة وتوظيفها في صناعة التغيير الجذري الذي أقصى الهوية العربية من زنجبار، ويعتزم أصحاب مشروع التغيير الجذري في السودان، استدعاء هذا النموذج وتطبيقه ليحقق النتيجة نفسها التي حققها حزب الأمة اليساري في زنجبار عبر المجزرة الشهيرة التي نفذها في 12 كانون الثاني/يناير 1964، وليعيد هندسة أوضاع السودان على نحو جديد يزاوج بين نموذج زنجبار ونموذج حكم عبد الله التعايشي خليفة الإمام المهدي.
    يعتمد هذا المشهد على استخدام القوة العسكرية لبعض الحركات المتمردة التي لم توقع اتفاقية جوبا، يشاركها في ذلك بعض الأحزاب الصغيرة وبعض الشرائح الشبابية التي حظيت برعاية غربية وانتظمت في الجماعات الأناركية بمسمياتها المختلفة.
    لهذا المشهد نسخة ثانية بنيت على شراكة بين ميليشيا مسلحة “مجاورة للمؤسسة العسكرية”، وبين تحالف أحزاب المشروع الخارجي، وتحظى برعاية إقليمية، وتعمل على الاستيلاء على الحكم باستخدام قوتها العسكرية بالشراكة مع هذه الأحزاب التي ستمثل دور الحاضن السياسي لهذا التغيير.
    يعتمد هذا المشهد في نسختيه على الفوضى غير الخلّاقة التي ستكون مدخلًا للعمل العسكري وهو ما ظل يراه الناس منذ عام من خلال التظاهرات وحالات الفوضى التي لم ينتبه كثيرون لحقيقتها برغم كشف بعض قادة هذا العمل لمشروعهم وملامحه ومراحله.
    يلزم القول إن هذا المشهد هو مشهد الحرب الداخلية بامتياز، وفي حال حدوثه فإن التعافي منه وتجاوزه يتطلب زمنًا طويلًا كما دلت التجارب داخل السودان وخارجه.
    حظوظ هذا المشهد تضعف وتقوى من خلال ضعف أو قوة المؤسسة العسكرية، وقدرة قيادتها على اتخاذ القرار الصحيح في وقته، كما يتأثر سلبًا وإيجابًا بمستوى وعي المجتمع وقدرته على التفاعل الإيجابي بالقدر الذي يسهم في تحصين البلد والحد من فرص تحقق هذا المشهد.


    تحميل المقال

    مشاركة

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *