
الدكتور خضير المرشدي
مؤسس المعهد العالمي للتجديد العربي
الصراع بين الولايات المتحدة وإيران لا يمكن فهمه بمعزل عن تاريخه المعقد وديناميكياته الجيوسياسية الحالية. في ظل التوترات المتزايدة في الشرق الأوسط، وخاصة مع عودة إدارة ترامب، يطرح السؤال المركزي نفسه: هل نحن على أعتاب نهاية نظام الملالي في طهران، أم أن التهدئة، أو حتى احتواء إيران كجزء من النظام الإقليمي، هي الخيار الأكثر ترجيحاً؟ للإجابة، نحتاج إلى تحليل شامل يربط بين السياق التاريخي، الضغوط الحالية، والدور الدولي، مع النظر إلى العلاقات بين روسيا والصين وتأثيرها على الصراع.
منذ ثورة الخميني عام 1979، أعلن نظام الملالي انه ضد الهيمنة الغربية وخاصة الاميركية وضد (اسرائيل)، لكنه أظهر أيضاً مرونة في التفاوض مع أعدائه. فخلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، شاركت إيران في فضيحة (إيران- كونترا)، حيث تواصلت سراً مع إسرائيل والولايات المتحدة لشراء الأسلحة، رغم العداء الرسمي. هذا التاريخ يبرز أن إيران قد تكون مستعدة للتفاوض، حتى مع أعدائها، إذا رأت في ذلك مصلحة استراتيجية. كما أن التحالف الروسي الصيني، الذي نشأ كرد على الهيمنة الأمريكية، لعب دوراً كبيراً في دعم إيران، لكن السؤال الآن هو ما إذا كانت روسيا ستتخلى عن الصين كحليف، وما إذا كان دور الصين سيضعف أم يبقى حاسماً؟؟
في عام 2025، مارست إدارة ترامب سياسة (الضغوط القصوى) على ايران، مع تهديدات بالضربات العسكرية والعقوبات الاقتصادية الشديدة. ومع ذلك، فإن الوضع الجيوسياسي شهد تحولات كبيرة، مثل ضعف وجود روسيا في سوريا نتيجة التغيير الحاسم وسقوط نظام دمشق، وبسبب انشغالها بأوكرانيا والضغوط الاقتصادية، مما قلل من قدرتها على دعم إيران كما كان في الماضي. هذا الضعف يجعل إيران أكثر عزلة، في ظل حصول تقارب روسي أمريكي، حيث قد تلعب موسكو دور الوسيط بين الطرفين الامريكي والإيراني لتخفيف التوترات.
أما العلاقة بين روسيا والصين، فإن التحالف بينهما لا يزال قوياً لكنه يواجه تحديات عدة، فروسيا، التي تعاني من ضغوط غربية كبيرة، فإن موقفها قد يثير تساؤل عما إذا كانت ستتخلى عن الصين كحليف في سبيل تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة ؟ ومع اهمية هذا الاحتمال فمن غير المرجح أن تتخلى روسيا عن الصين بالكامل!! لأن بكين تشكل شريكاً استراتيجياً ضد الهيمنة الأمريكية. لكن، إذا شعرت روسيا بأن دعم إيران يضر بمصالحها، قد تقلل من التزاماتها، مما يترك الصين اللاعب الرئيسي في دعم طهران !!
دور الصين، من جانبه، لا يزال عاملاً رئيسياً في إدارة الصراع، لكن قوته قد تتأثر بعامل تطور علاقة روسيا مع إميركا. وبما ان الصين تعتمد على إيران كمورد رئيسي للطاقة وشريك في مبادرة الحزام والطريق، فانها، ستستمر في تقديم الدعم الاقتصادي، لكنها تتجنب التدخل العسكري المباشر. إذا ضعف دور روسيا في دعم إيران، فإنه قد يؤدي إلى زيادة مسؤولية الصين في دعمها، لكن هذا قد يعرض مصالحها للخطر (الصين) إذا تصاعد الصراع بين أميركا وإيران. بدلاً من ذلك، قد تسعى بكين إلى دفع إيران نحو التفاوض لضمان الاستقرار الإقليمي الذي تحتاجه لمشاريعها الكبرى.
وهنا يبرز أمامنا احتمال هام ذلك هو (احتواء) إيران كجزء من النظام الإقليمي وهو ليس مجرد احتمال نظري، بل يستند إلى سلوكها التاريخي، خلال الحرب العراقية الإيرانية، حينما تعاملت إيران مع إسرائيل والولايات المتحدة مباشرة ضد العراق، مما يشير إلى أنها قد تكون مستعدة للتفاوض، حتى مع أعدائها التقليديين، إذا رأت في ذلك مصلحة قومية. اليوم، مع احتمال ضعف الدعم الروسي وتصاعد الضغط الأمريكي، قد ترى طهران أن الاحتواء من خلال التفاوض على برنامجها النووي، تخفيف العداء مع إسرائيل، والاندماج في النظام الإقليمي هو الخيار الأقل تكلفة .. هذا السيناريو يعتمد على قدرة الولايات المتحدة على تقديم تنازلات، مثل تخفيف العقوبات، مقابل ضمانات إيرانية، بدعم من روسيا والصين لتسهيل الحوار مع أميركا.
روسيا، على الرغم من ضعفها في سوريا، لا تزال لاعباً محتملاً كوسيط. فالتقارب الروسي الأمريكي، إذا تحقق، قد يساعد في بناء جسر تواصل بين واشنطن وطهران، لكن هذا قد يجعل روسيا تتردد في دعم الصين بشكل كامل، خاصة إذا رأت في ذلك فرصة لتحسين علاقاتها مع الغرب. ومع ذلك، من غير المرجح أن تتخلى روسيا عن الصين بالكامل، لأن
التحالف بينهما يشكل درعاً ضد الهيمنة الأميركية، وقد تختار موسكو تحييد نفسها نسبياً، مما يترك الصين بمثابة اللاعب الأساسي في دعم إيران.
أما الصين، فإن دورها سيبقى عاملًا رئيسياً، لكن قوته قد تتأثر إذا لم يكن هناك دعم روسي موازٍ. وبكين قد تسعى إلى تعزيز نفوذها اكبر في إيران من خلال الاستثمارات الاقتصادية، لكنها ستتجنب التورط في صراع عسكري مباشر. إذا ضعف دور روسيا، قد تتحمل الصين مسؤولية أكبر في إدارة الصراع، لكن هذا قد يدفعها إلى ضغط إيران نحو التفاوض لتجنب التصعيد، حفاظًا على مصالحها الاقتصادية في المنطقة.
بناءً على هذه التحليلات، هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية
السيناريو الأقل ترجيحاً (نهاية نظام الملالي) إذا فشلت كل محاولات التفاوض، وقررت الولايات المتحدة وإسرائيل شن هجوماً عسكرياً، قد يؤدي ذلك إلى انهيار النظام، خاصة إذا تخلت روسيا عن الصين وتركت إيران معزولة. وصاحب ذلك تحرك الشارع الإيراني الذي يزداد غلياناً بفعل الوضع الاقتصادي المتردي وشبه المنهار، وعبثية السياسة الإيرانية في زج إيران بصراعات كلفت شعبها الكثير من الخسائر والمعاناة. ومع ذلك، إن هذا السيناريو أقل احتمالية بسبب التكلفة العالية لكل الاطراف والمخاطر الإقليمية التي قد تنجم عنه.
السيناريو المحتمل (التهدئة من خلال التفاوض) إذا لعبت روسيا دور الوسيط، وقبل اتفاق الطرفان أمريكا وإيران على التفاوض مقابل صفقة جيدة، قد يتوصل الطرفان إلى اتفاق يتضمن تجميد البرنامج النووي الإيراني وتخفيف العداء مع إسرائيل. وهذا يعتمد على دعم الصين، التي قد تكون مستعدة لدفع إيران نحو هذا الحل.
السيناريو الأكثر ترجيحاً (الاحتواء كجزء من النظام الإقليمي)، بناءً على تاريخ إيران في الانبطاح وفتح الحوار مع الاعداء والتخلي عن الحلفاء وخيانة الشعارات وسياسة (التقيّة) ووضعها الحالي الحرج، قد تختار طهران خيار التنازل والاندماج في النظام الإقليمي الجديد، مع إعطاء ضمانات حول إيقاف برنامجها النووي وإنهاء نفوذها الإقليمي، الذي بدأ فعلاً في غزة ولبنان وسوريا واليمن ولم يبقى الا الحشد الشعبي وميليشياتها في العراق حيث ستأتي اللحظة الحاسمة لإنهاء وجودها مما يصب في صالح القوى الوطنية العراقية وشعب
العراق بأكمله.. إن هذا السيناريو يتطلب تعاوناً دولياً، من قبل روسيا والصين خاصة حيث يمكن أن يؤدي إلى استقرار طويل الأمد.
بناءً على التحليل، يبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً كما ذكرنا هو الاحتواء كجزء من النظام الإقليمي. ومما يدعم هذا الاحتمال هو ضعف روسيا في سوريا، والتقارب الروسي الأمريكي، ودور الصين كداعم اقتصادي رئيسي يشير إلى أن التهدئة والتكامل الإقليمي قد يكونان الخيار الأكثر منطقية وواقعية. من غير المرجح أن تتخلى روسيا عن الصين بالكامل، لكنها قد تقلل من التزاماتها لصالح التفاوض، بينما ستستمر الصين كعامل رئيسي في دعم إيران، لكن بأسلوب أكثر دبلوماسية. وإن ترامب قد يرى في هذا فرصة لإحراز إنجاز دبلوماسي، بينما قد تجد إيران في الاحتواء طريقاً للبقاء بدلاً من الانهيار.
من أهم التداعيات لهذا السيناريو هي، إذا نجح الاحتواء، قد نشهد استقراراً نسبياً في الشرق الأوسط، مع تقلص نفوذ إيران العسكري مقابل اندماجها في نظام إقليمي جديد. أما إذا فشل هذا السيناريو، فإنه قد يعيد الصراع إلى نقطة التصعيد، مما يعرض النظام الإيراني للخطر. لكن يبقى التوازن بين روسيا والصين والتنسيق بينهما العامل المهم في مدى نجاح او فشل أي سيناريو، حيث إن ضعف أحدهما قد يعزز دور الآخر، لكن التعاون بينهما سيبقى حاسماً.
أما التداعيات على الدول العربية، فإن تأثير نجاح أو فشل سيناريو الاحتواء على الدول العربية سيكون حاسماً، حيث تلعب إيران دوراً مركزياً في استقرار المنطقة وأمنها من عدمه:
إذا نجح الاحتواء: قد تشهد الدول العربية، وخاصة دول الخليج العربي تحسناً في الأمن الإقليمي، حيث ستنخفض التوترات مع إيران ودعمها للميليشيات مثل الحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي والميليشيات (الولائية) في العراق وقد يفتح المجال لتغيير جذري في العراق يزيح العملية السياسية الفاسدة. وقد يؤدي إلى انخفاض في نفقات الدفاع وتخصيص المزيد من الموارد للتنمية. كما يمكن أن يفتح باب التعاون الاقتصادي مع إيران كدولة معتدلة منكفئة داخل حدودها وتحترم العلاقات الدولية، مما يعزز التكامل الإقليمي. لكن من جانب اخر فان الدول العربية قد تقلق وتتأثر من زيادة نفوذ إيران الاقتصادي أو السياسي أو الامني الذي قد يزداد إذا ما تم التواصل بين إيران وإسرائيل
للاشتراك في ادارة النظام الإقليمي، مما يثير مخاوف جدية لدى بعض الدول العربية، خاصة تلك التي لديها علاقات بشكل ما مع إسرائيل، حول تغير التوازنات الإقليمية.
إذا فشل الاحتواء: قد يؤدي الفشل إلى تصعيد عسكري، مما يزيد من تهديدات إيران للدول العربية، مثل الهجمات الصاروخية أو دعم الميليشيات. دول الخليج العربي، على وجه الخصوص، قد تواجه مخاطر أمنية وبيئية، مثل إغلاق مضيق هرمز، مما يهدد إمدادات النفط ويؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وقد يضر بالاقتصادات العربية. كما قد تنشأ فوضى إقليمية إذا انهار نظام الملالي، وقد تتسرب إلى الدول العربية المجاورة مثل العراق وسوريا، مما يزيد من عدم الاستقرار ويضعف الاقتصادات المحلية.
في الختام نرى ان الصراع الأمريكي الإيراني يقف اليوم على مفترق طرق حاسم. بينما كانت نهاية نظام الملالي خياراً محتملاً في الماضي، فإن التغيرات الجيوسياسية، مثل ضعف الموقف الروسي بسبب الحرب في اوكرانيا، والتغيير الدراماتيكي في سوريا، والتقارب الروسي الأمريكي، ودور الصين كداعم رئيسي، تشير إلى أن الاحتواء قد يكون السيناريو الأكثر ترجيحاً. سواء كان ذلك من خلال تفاوض مباشر، أو دور وسيط روسي، أو دعم صيني، فإن إيران قد تجد في الاندماج الإقليمي طريقاً للبقاء. السؤال الآن ليس فقط عما إذا كانت النهاية وشيكة، بل كيف ستشكل العلاقات بين روسيا والصين، ومدى استمرار تحالفهما، مستقبل المنطقة بأكملها؟
