الدكتور
عبيدي محمد
أستاذ جامعي متخصص في القانون الدولي والأمن الإنساني- الجزائر
مقدمة
مع مطلع فجر السابع من تشرين الاول/ أكتوبر 2023 اخترقت طائرات شراعية سماء غلاف غزة، وعبر مقاتلون من كتائب الشهيد عز الدين القسام وفصائل فلسطينية أخرى، السياج الفاصل، بسيارات رباعية الدفع ودراجات نارية ومشيا على الاقدام.
قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام، محمد الضيف، أعلن عن انطلاق عملية تجاه الاحتلال الاسرائيلي، تحت مسمى “طوفان الاقصى”، وأن الضربة الاولى شهدت اطلاق 5200 صاروخ، وصرح قائلا “إن اليوم هو يوم المعركة الكبرى لإنهاء الاحتلال الاخير على سطح الارض”.
أسفرت العملية عن مقتل أكثر من 1200 اسرائيلي، منهم أكثر من 300 جندي، وإصابة الآلاف، وأسر أكثر من 240 من الاسرائيليين ومن جنسيات أخرى.
وفي أعقاب هذه العملية البطولية، صرّح الجيش الاسرائيلي أن هذه الهجمات، شملت 8 مواقع بمحيط قطاع غزة، منها قاعدة “زكيم” وقاعدة “رعيم” العسكريتين، ومستوطنات ” ناحل عوز” و”بئيري” و”ماعن”.
وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت، قال “إن حماس تشن حرباً على دولة اسرائيل”، أما الرئيس الاسرائيلي اسحاق هرتسوغ، فقال “إن دولة اسرائيل تمر بوقت عصيب”. ومن جهته قال رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو “نحن في حرب وسوف ننتصر”.
وبعد مرور 20 يوماً من عملية طوفان الاقصى وتنفيذاً لتوعدهم، بدأ الهجوم البري الإسرائيلي على قطاع غزة معززا بغارات جوية واسعة النطاق مساء يوم 27 تشرين الاول/ أكتوبر2023. وقد ادعت اسرائيل أنها في حالة دفاع عن النفس، وتحت هذه الذريعة، ارتكبت أعمال ابادة جماعية بقطاع غزة، مما دفع دولة جنوب افريقيا لرفع دعوى إلى محكمة العدل الدولية بتاريخ 29 كانون الاول / ديسمبر 2023، تتهم فيها إسرائيل بانتهاك التزاماتها بموجب إتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، وطلبت من المحكمة اتخاذ تدابير تحفظية مؤقتة لحماية الشعب
الفلسطيني بقطاع غزة، كجماعة محمية بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، فكيف تصرفت المحكمة أزاء هذه الدعوى في شقها الاستعجالي وإلى أي مدى كان قرارها مستقلا ومنحازاً للحق؟
فيما يلي محاور هذه الورقة البحثية:
أولا: ملخص طلبات جنوب افريقيا من المحكمة في دعواها ضد اسرائيل
ثانيا: ملخص منطوق قرار المحكمة والاوامر التي وجهتها لإسرائيل في جلسة 26/1/2024
ثالثا: قراءة في منطوق قرار المحكمة بشأن دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل ومقارنته بقرارات مشابهة (دعوى غامبيا ضد ميانمار ودعوى أوكرانيا ضد روسيا).
——————–
أولاً: ملخص طلبات جنوب أفريقيا من المحكمة في دعواها ضد إسرائيل:
قبل التطرق لهذه الطلبات نشير إلى أن إسرائيل قد صدّقت على اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها بتاريخ 9 آذار/ مارس 1950، أما جنوب أفريقيا فقد صدّقت على هذه الاتفاقية بتاريخ 10 كانون الاول/ ديسمبر 1998، وكلاهما لم يتحفظ على أي حكم من أحكام هذه الاتفاقية بما فيها المادة التاسعة التي تمنح الاختصاص لمحكمة العدل الدولية للنظر في النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الإتفاقية. وحول النزاع بين جنوب أفريقيا وإسرائيل المرفوع أمامها فقد التمست دولة جنوب أفريقيا في دعواها من المحكمة إصدار أوامر استعجالية لإسرائيل تتضمن الاتي:
- أن تكف إسرائيل عن ارتكاب جميع أفعال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني كجماعة محمية بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.
- أن تمتنع إسرائيل عن المشاركة في التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الابادة الجماعية والتآمر لارتكابها أو محاولة ارتكابها.
- أن تأمر المحكمة اسرائيل باتخاذ تدابير فعالة لمنع تدمير الأدلة المتعلقة بالادعاءات بارتكاب أفعال ابادة جماعية والحفاظ عليها.
- أن تأمر إسرائيل بعدم منع أو تقييد وصول بعثات تقصي الحقائق والتفويضات الدولية والهيئات الأخرى إلى قطاع غزة، للمساعدة في ضمان الحفاظ على الأدلة بارتكاب إبادة جماعية والاحتفاظ بها.
- أن تمتنع إسرائيل بعدم اتخاذ أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالة أمده أو تجعل حاله أكثر صعوبة.
- أن تأمر المحكمة إسرائيل بتقديم تقرير عن جميع التدابير المطلوبة منها بموجب الأوامر خلال أسبوع فقط من تاريخ صدور الأمر وبعد ذلك على فترات منتظمة حتى صدور القرار النهائي في القضية.
ثانيا: ملخص منطوق قرار المحكمة والأوامر التي وجهتها لإسرائيل في الجلسة المنعقدة بتاريخ 26 كانون الثاني/ يناير 2024:
قبل استعراض هذه الأوامر ننوه إلى أن المحكمة قد أشارت في منطوق قرارها إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 96(د1) المؤرخ في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1946، الذي ينص على أن “الإبادة الجماعية هي إنكار حق الوجود لجماعات بشرية بأكملها، كما أن القتل هو إنكار حق الأفراد في الحياة، إن مثل هذا الحرمان من الحق في الوجود يصدم ضمير البشرية ويؤدي إلى خسائر فادحة للبشرية”.
وفيما يلي الاوامر الستة التي أصدرتها المحكمة لإسرائيل:
- أمرت المحكمة إسرائيل باتخاذ تدابير في حدود إمكانياتها لمنع ارتكاب أفعال الإبادة الجماعية المنصوص عليها في المادة الثانية من إتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. (صوّت 15 قاضياً لصالح هذا الاجراء واعترض عليه قاضيان، هما القاضية الاوغندية سـيـبـوتنيد والقاضي الإسرائيلي المؤقت باراك).
- أمرت المحكمة إسرائيل بأن تضمن فوراً عدم ارتكاب قواتها أيا من أفعال الإبادة الجماعية المنصوص عليها في المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. (صوّت 15 قاضياً لصالح هذا الاجراء واعترض عليه قاضيان هما القاضية الاوغندية سـيـبـوتنيد والقاضي الاسرائيلي المؤقت باراك).
- أمرت المحكمة إسرائيل بأن تتخذ التدابير في حدود سلطتها لمنع ومعاقبة التحريض العلني على ارتكاب إبادة جماعية لأعضاء الجماعة الفلسطينية بقطاع غزة (صوّت 16 قاضياً لصالح هذا الاجراء بما فيهم القاضي الاسرائيلي المؤقت باراك واعترض عليه قاضي واحد فقط، هي القاضية الاوغندية سيبوتنيد).
- أمرت المحكمة إسرائيل بأن تتخذ تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية التي تعد حاجة عاجلة لعلاج أوضاع الحياة السلبية التي يواجهها الفلسطينيون بقطاع غزة. (صوّت 16 قاضياً لصالح هذا الإجراء بما فيهم القاضي الاسرائيلي المؤقت واعترض عليه قاضي واحد فقط، وهي القاضية الاوغندية ســـيــبـوتــنــيـــد).
- أمرت المحكمة اسرائيل بأن تتخذ تدابير فعالة لمنع تدمير الدليل المتعلق بادعاءات أفعال الإبادة الجماعية، ضد أعضاء الجماعة الفلسطينية بقطاع غزة، وضمان الحفاظ على هذا الدليل. (صوّت 15 قاضياً لصالح هذا الاجراء واعترض عليه قاضيان، هما القاضية الاوغندية ســيـبـوتــنــيـد والقاضي الإسرائيلي المؤقت باراك).
- أمرت المحكمة اسرائيل بتقديم تقرير للمحكمة عن كل التدابير التي اتخذتها لتنفيذ هذا الأمر خلال شهر من تاريخ صدور هذا الامر. (صوّت 15 قاضياً لصالح هذا الإجراء واعترض عليه قاضيان، هما القاضية الاوغندية سيبوتنيد والقاضي الإسرائيلي المؤقت باراك).
ثالثا: قراءة مقارنة بين منطوق قرار محكمة العدل الدولية بشأن دعوى جنوب افريقيا ضد اسرائيل الصادر في الجلسة المنعقدة في 26 كانون الثاني / يناير 2024 وقرارات مشابهة:
نطقت المحكمة في الجلسة المنعقدة يوم 26 كانون الثاني/ يناير 2024، بقرارها المتعلق بالشق الاستعجالي في دعوى جنوب أفريقيا التي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب أفعال إبادة جماعية.
ولإبراز مدى استقلالية المحكمة ومدى تعاملها على قدم المساواة، عند النظر في الدعاوى المشابهة المحالة عليها، حاولنا اجراء مقارنة بين ثلاث قرارات صادرة عن محكمة العدل الدولية تتعلق بتهمة الابادة الجماعية.
القرار الاول يتعلق بدعوى غامبيا ضد ميانمار والقرار الثاني يتعلق بدعوى أوكرانيا ضد روسيا والقرار الاخير يتعلق بدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. وفيما يلي استنتاجاتنا:
- فيما يتعلق بدعوى غامبيا ضد ميانمار: إستلمت المحكمة الدعوى بتاريخ 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 وأصدرت قرارها بشأن الشق الاستعجالي بتاريخ 23 كانون الثاني/ يناير 2020 أي بعد 73 يوما من رفع الدعوى.
- فيما يتعلق بدعوى أوكرانيا ضد روسيا: إستلمت المحكمة الدعوى بتاريخ 26 شباط/ فبراير 2022 وأصدرت في وقت قياسي قرارها بشأن الشق الاستعجالي بتاريخ 16 مارس/ آذار 2022، أي بعد 19 يوما من رفع الدعوى و21 يوما من بدء الحرب الروسية الاوكرانية.
ولم تثبت المحكمة وجود أدلة بارتكاب روسيا أعمال إبادة جماعية، ومع ذلك اتخذت تدابير تحفظية مؤقتة، حيث أمرت روسيا بالوقف الفوري للأعمال القتالية[1].
- فيما يتعلق بدعوى جنوب افريقيا ضد إسرائيل: إستلمت المحكمة الدعوى بتاريخ 29 كانون الاول/ ديسمبر 2023 وأصدرت قرارها بشأن الشق الاستعجالي بتاريخ 26 كانون الثاني/ يناير 2024. أي بعد 29 يوما من رفع الدعوى، و102 يوم من بدء الحرب على قطاع غزة بتاريخ 27 تشرين الاول/ أكتوبر 2023.
ولم تشر المحكمة إلى وجود أدلة بارتكاب إسرائيل أعمال إبادة جماعية، غير أنها أشارت لوجود مؤشرات على ارتكاب إسرائيل أعمال إبادة جماعية، ومع ذلك اكتفت بتوجيه أمر لإسرائيل باتخاذ تدابير لازمة لمنع ومعاقبة من يدعو ويحرض على الإبادة الجماعية[2].
- مقارنة بين منطوق قرار المحكمة في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل ودعاوى مشابهة: عند المقارنة بين منطوق قرارات المحكمة بشأن دعوى غامبيا ضد ميانمار بتاريخ 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 ودعوى أوكرانيا ضد الاتحاد الروسي بتاريخ 26 شباط/ فبراير 2022 ودعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتاريخ 29 كانون الاول/ ديسمبر 2023، أمكن لنا الاستنتاج بأن المحكمة وبالرغم من طابعها المستقل إلا أنها قد لا تبدو كذلك، وتتصرف أحيانا أخرى بمنطق الكيل بمكيالين، وهو ما سنوضحه فيما يلي:
- عدم أخذ المحكمة بالسوابق القضائية في دعوى جنوب أفريقيا: بالرغم من أن المحكمة قد فصلت في دعاوى سابقة مشابهة ومتقاربة زمنياً، رفعت أمامها تتعلق بالإبادة الجماعية، إلا أنها على ما يبدو لم تأخذ بالسوابق القضائية، وإن ادعت في قرارها بشأن دعوى جنوب أفريقيا أنها أخذت بالسوابق القضائية بشأن دعوى غامبيا ضد ميانمار ودعوى أوكرانيا ضد روسيا.
ففي الدعوى التي رفعتها غامبيا بتاريخ 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، والتي تتهم فيها ميانمار بارتكاب إبادة جماعية ضد جماعة الروهينغيا، أصدرت المحكمة بتاريخ 23 كانون الثاني/ يناير 2020 أمرا “أشارت فيه بعدد من التدابير التحفظية ونصت فيه، في جملة أمور، على أن تتخذ ميانمار جميع التدابير الممكنة من أجل منع ارتكاب أي فعل من الأفعال التي تشير إليها المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ضد أعضاء جماعة الروهينغيا الموجودين على أراضيها وأن تتخذ تدابير فعالة لمنع اتلاف الأدلة المتعلقة بالأفعال المزعومة وضمان الحفاظ على تلك الادلة…”[3].
وفي الدعوى التي رفعتها أوكرانيا بتاريخ 26 شباط/ فبراير 2022 والتي تتهم فيها الاتحاد الروسي بارتكاب أفعال إبادة جماعية، قد جاء في عريضة دعوى أوكرانيا ما يلي: “إن روسيا يبدو أنها تخطط لأعمال إبادة جماعية في أوكرانيا”. وادعت أن الاتحاد الروسي “يقتل عمداً أفراداً يحملون الجنسية الاوكرانية ويتسبب في إصابتهم إصابات خطيرة مما يشكل العنصر المادي للإبادة الجماعية بموجب المادة الثانية من الاتفاقية”، مصحوبا بما اعتبرته أوكرانيا خطاباً يوحي بالنية في ارتكاب أعمال إبادة جماعية ملتمسة من المحكمة اتخاذ تدابير تحفظية مؤقتة[4].
وبتاريخ 16 آذار/ مارس 2022 نطقت المحكمة بقرارها وأمرت “بأن يوقف الاتحاد الروسي فوراً العمليات العسكرية التي بدأها في 24 شباط/ فبراير 2022 في أراضي أوكرانيا، وأن يكفل امتناع أي وحدات عسكرية أو أي وحدات مسلحة غير نظامية من الوحدات التي تتلقى التوجيه أو الدعم من الاتحاد الروسي وكذلك أي منظمات أو أشخاص يخضعون لسيطرته أو توجيهه، عن القيام بأي خطوات لمواصلة تلك العمليات العسكرية، وأمرت المحكمة كذلك الطرفين بالامتناع عن أي عمل يمكن أن يؤدي إلى مفاقمة النزاع أو توسيع نطاقه أو جعله مستعصيا عن الحل”[5].
- المحكمة لا يبدو أنها تصرفت بالاستقلالية التي تتمتع بها: لا يبدو أن المحكمة تصرفت بالاستقلالية التي تتمتع بها، فيما اتخذته من تدابير تحفظية مؤقتة، سواء في دعوى أوكرانيا ضد الاتحاد الروسي أو في دعوى جنوب افريقيا ضد إسرائيل، بدليل أنها أمرت روسيا بالوقف الفوري للأعمال العسكرية، ولم تأمر إسرائيل بنفس التدابير التحفظية المؤقتة، بالوقف الفوري للأعمال العسكرية التي تشنها على قطاع غزة، رغم التباين الواضح في الخسائر البشرية والمادية المسجلة. فإسرائيل مقارنة بأوكرانيا ارتكبت فظائع كبيرة بقطاع غزة فحجم وعدد الضحايا من المدنيين والدمار الممنهج للمباني السكنية والمستشفيات والمدارس ودور العبادة وكل سبل الحياة، يعجز اللسان عن وصفها. وأن ضحايا هذه العمليات العسكرية الإسرائيلية لا يبدو أنها عرضية بقدر ما كانت تستهدف المدنيين والاعيان المدنية وكافة سبل العيش والحياة، بشكل متعمد وممنهج ومتواصل ومتكرر.
- المحكمة على ما يبدو قد تكون تعرضت لضغوط: يبدو أن المحكمة قد تعرضت لضغوط غربية للانحياز إلى أوكرانيا في الدعوى التي رفعتها ضد الاتحاد الروسي، بتأييد طلبها من خلال الأمر الذي أصدرته لروسيا بالوقف الفوري للأعمال العسكرية على الاراضي الاوكرانية.
وقد تكون ذات المحكمة قد تعرضت لضغوط غربية أيضا، للحؤول دون غصدار أمر لإسرائيل بالوقف الفوري لحربها على قطاع غزة على غرار الامر الذي أصدرته لأوكرانيا. ويمكن أن نستنتج خضوع المحكمة لضغوط من خلال منطوق القرار الذي أصدرته المحكمة بتاريخ 26 كانون الثاني/ يناير 2024 والذي اكتفت فيه بتوجيه أمر لإسرائيل في إطار التدابير التحفظية “باتخاذ كل ما في وسعها من تدابير لمنع ارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة واتخاذ جميع الاجراءات الممكنة لمنع التحريض المباشر والعلني على ارتكاب إبادة جماعية والمعاقبة عليها، وبضرورة اتخاذ اجراءات فورية وفعالة للسماح بتوفير خدمات أساسية ومساعدة انسانية يحتاج إليها الفلسطينيون بشكل ملح، لمواجهة ظروف العيش غير الملائمة”[6].
ويبدو أن الكلمات التي صيغت بها قرارات محكمة العدل الدولية بشأن دعاوى غامبيا ضد ميانمار وجنوب أفريقيا ضد إسرائيل تختلف عن تلك التي صيغ بها منطوق القرار المتعلق بدعوى أوكرانيا ضد الاتحاد الروسي، هذا القرار الأخير الذي صدر بعد مرور 21 يوم فقط من اندلاع الحرب بين البلدين والذي كان يتعلق بدعوى رفعتها أوكرانيا للمحكمة ضد الاتحاد الروسي بتاريخ 26 شباط/ فبراير 2022.
والملفت للانتباه أن المحكمة استندت في منطوق قرارها الصادر في 16 آذار/ مارس 2022 لاتفاقية منع الابادة الجماعية والمعاقبة عليها، وأصدرت أمراً استعجاليا حاسماً للاتحاد الروسي بالوقف الفوري للعمليات العسكرية بأوكرانيا، بالرغم من أن هذه العمليات التي كانت في بدايتها لم تسفر عن تسجيل خسائر بشرية ومادية بالحجم والحدة والسرعة التي سجلت بقطاع غزة، ومع ذلك لم تؤكد المحكمة أن الاتحاد الروسي قد ارتكب ابادة جماعية.
- المحكمة يبدو أنها كانت منحازة لإسرائيل: في سابقة يبدو أن المحكمة تجاوزت فيها صلاحياتها، خاطبت حركة المقاومة حماس والفصائل المسلحة الأخرى ودعتها للإفراج الفوري وغير المشروط عن الرهائن الإسرائيليين.
فقد جاء في منطوق القرار أن المحكمة ترى: “أنه من الضروري التأكيد على أن جميع أطراف النزاع في قطاع غزة ملزمة بالقانون الانساني الدولي، ويساورها قلق بالغ بشأن مصير الرهائن الذين اختطفوا خلال الهجوم الذي وقع في إسرائيل في 7 تشرين الأول/ اكتوبر 2023، واحتجزتهم حماس والجماعات المسلحة الأخرى منذ ذلك الحين، وأن تدعو إلى إطلاق سراحهم فوراً ودون قيد أو شرط”.
وكان الاجدر بالمحكمة من باب الإنصاف والمساواة أمام القانون أن تدعو أيضا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق على الفور في الانتهاكات الجسيمة للقانون الانساني الدولي والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، طالما أنها اشارت إلى أن أطراف النزاع يجب أن يكونوا ملزمين بالقانون الانساني الدولي.
خاتمة: ختاما يمكن أن نخلص إلى مجموعة من النتائج التي يمكن أن تعكس الوجه الآخر للنظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وغيرهما من المنظمات الدولية بما فيها الامم المتحدة التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية ليست سوى جزء من منظومة قانونية ومؤسسية، وضعها الغرب وتحديدا الولايات المتحدة الامريكية وعدد من الدول الاوروبية لاسيما بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، للاستمرار في هيمنته على هذا العالم وخدمة مصالحه، ويمكنه استخدامها عند الضرورة ضد الانظمة المناوئة له والدول التي لا يستحي بأن يصفها بالمارقة.
ويمكن أن نستدل على ذلك من خلال استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لحق الفيتو بمجلس الأمن الدولي لإجهاض كافة مشاريع القرارات التي تُدين إسرائيل أو تلك التي لا تكون في صالحها ومنها إفشالها كافة المساعي الدولية لوقف الحرب، باستخدام الفيتو لمنع صدور قرار بوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
كما يمكن أن نلمس التوظيف الفاضح لهذه المنظمات الدولية لخدمة مصالح الدول ذات الماضي الاستعماري، وهنا يمكن أن نستدل عليه بالأوامر الدولية ومذكرات الاعتقال التمييزية، التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية ضد عدد من رؤساء الدول العربية (الرئيس السوداني السابق عمر البشير، والقائد الليبي الراحل معمر القذافي)، وكذا الرئيس الروسي فلاديمير بوتن.
وبالمقابل لم يحصل أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أي أمر أو مذكرة اعتقال ضد من تعاقبوا على حكم إسرائيل من القادة السياسيين والعسكريين بالرغم من الجرائم الفظيعة التي كانوا مسؤولين عنها والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، ولم تصدر مذكرات اعتقال ضد القادة السياسيين والعسكريين الأمريكيين بالرغم من الجرائم الوحشية التي كانوا مسؤولين عن ارتكابها بأفغانستان، بداية من تشرين أول/ أكتوبر 2001 بذريعة مكافحة الارهاب، وكذا ما اقترفوه من جرائم وانتهاكات جسيمة في حق الشعب العراقي وحضارته طيلة مدة احتلاله لهذا البلد منذ عام 2003 التي استمرت قرابة العقدين، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الاطفال والنساء والشيوخ وتدمير حضارة إنسانية ضاربة في جذور التاريخ.
وننوه هنا إلى إحجام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عن فتح أي تحقيق جنائي طبقا للمادة 15 من نظام روما الأساسي، يمكن أن يَفضي إلى تحريك دعوى جنائية ضد إسرائيل، بل ولم يُسمح له حتى بالدخول لقطاع غزة لتوثيق جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل، على الرغم من أن هذه الجرائم لم تعد خافية على أحد. فاقترافها مستمر منذ أكثر من أربعة أشهر. وقد نفسر امتناع المدعي العام عن تحريك دعوى جنائية ضد إسرائيل لحجم الضغوط التي تمارس عليه من قبل الولايات المتحدة الامريكية واللوبي الصهيوني وكيانات دولية أخرى.
اليوم وبعد مرور أسبوعين على صدور قرار محكمة العدل الدولية الذي أمرت فيه إسرائيل باتخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين ومنع الإبادة الجماعية بقطاع غزة وموافاة المحكمة بتقرير عن هذه الإجراءات، لم تتراجع وتيرة الحرب ولم تنخفض أرقام الضحايا، ففي ظرف أسبوع واحد فقط، إرتقى أكثر من 1048 شهيد وسقط أكثر من 1800 جريح من الفلسطينيين بقطاع غزة، ما يعني أن إسرائيل تجاهلت قرار هذه المحكمة ولم تكترث للأوامر الملزمة التي وجهتها لها.
وتعليقا عن هذه الأوامر، قال بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي: “لن يُوقفنا أحد، لا لاهاي ولا محور الشر ولا أحد آخر”.
وهذا دليل آخر على الغطرسة والاستعلاء على القانون الدولي والقضاء الدولي، نتيجة الحماية التي ما فتئت تحظى بها إسرائيل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
وفي الاخير نقدم هذين المقترحين:
- بما أن منطلق وهدف عملية طوفان الأقصى وفقاً لتصريح محمد الضيف، رئيس كتائب الشهيد عز الدين القسام، هو إنهاء الحصار والاحتلال؛ واعتباراً للتضحيات الجسام للشعب الفلسطيني والصمود البطولي للمقاومة الباسلة ولسكان قطاع غزة من أجل الاستقلال والكرامة، في هذه الحرب الهمجية غير المسبوقة، نقترح أن تبادر المجموعة العربية والإسلامية والدول المحبة للسلام في الأمم المتحدة، بعرض مشروع قرار على الجمعية العامة، يتضمن الاعتراف بدولة فلسطين، لاسيما وإن الظروف الدولية والاقليمية أصبحت أكثر مواتية ومهيأة للتصويت لصالح هذا المشروع، بما فيها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي أعلنت أنها لن تبادر به، لكنها لن تعترض عليه في حالة عرضه للتصويت.
وننوه هنا لتصريح السيد انطونيو غوتيرس، الأمين العام للأمم المتحدة، الذي قال: “إن أصل العنف في المنطقة هو استمرار الاحتلال”؛ وقال أيضا: “الاحتلال الإسرائيلي يجب أن ينتهي ومن غير المقبول أن ترفض إسرائيل حل الدولتين”.
علماً أن الجمعية العامة لها سوابق في هذا الشأن، فقد اصدرت قرار التقسيم المشؤوم رقم 181 بتاريخ 29/11/1947. كما اعتمدت ذات الجمعية العامة في سياق الحرب الجارية على قطاع غزة بتاريخ 12/12/2023 مشروع القرار المقترح من قبل 21 دولة عربية والمدعوم من قبل عدد كبير من الدول، بـأغلبية ساحقة (153 صوت من أصل 193، ومعارضة عشرة وامتناع 23 عضو)، يدعو لوقف إنساني لإطلاق النار في قطاع غزة.
- أن تطلب السلطة الفلسطينية في سياق ممارسة أهليتها القضائية، طبقا للمواد: 12 و13 و14 من نظام روما الأساسي لعام 1998، من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، فتح تحقيق جنائي في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، علماً أن فلسطين عضو في نظام المحكمة الجنائية الدولية منذ 15/4/2015، فمن غير المعقول أن تُحجم السلطة الفلسطينية عن ممارسة حقوقها في التقاضي، كوسيلة للضغط على إسرائيل للامتثال للقانون الدولي والكف عن انتهاكاتها وجرائمها في حق الشعب الفلسطيني منذ 76 عاما.
الامم المتحدة – الجمعية العامة – الدورة 48 – الملحق 4- تقرير محكمة العدل الدولية 2022-2023[1]
قرار محكمة العدل الدولية الصادر بتاريخ 26 كانون الثاني / يناير 2024 والمتعلق بدعوى جنوب افريقيا ضد اسرائيل [2]
الامم المتحدة – الجمعية العامة – الدورة 48 – الملحق 4- تقرير محكمة العدل الدولية 2022-2023 – ص 38 و39 الفقرات :131 – 132 و 133 [3]
نفس المرجع – ص 44 – الفقرات 167 و168 و170[4]
نفس المرجع – ص44- 45 – الفقرة 171[5]
منطوق قرار محكمة العدل الدولية بتاريخ 26 كانون الثاني / يناير 2024 بشأن دعوى جنوب افريقيا ضد اسرائيل .[6]