الدكتور خضير المرشدي
مؤسس المعهد العالمي للتجديد العربي
الاخوات والإخوة الحضور
أحييكم تحية طيبة، متمنياً لكم دوام الصحة والموفقية في كل خطوة شخصية ومهنية وعلميّة وفكرية تخطونها، وأود ان أشكركم والاساتذة الأعزاء كافّة، الذين واكبوا مسيرة المعهد منذ تأسيسه في مثل هذا اليوم في 27 يونيه/ حزيران 2019… وتقديرنا العالي لمن أعطى وساهم بصدق، ولو بكلمة واحدة في تعزيز مسيرته الهادفة إلى بناء منظومات فكرية عربية حديثة، تشكل بمجموعها الفكر العربي الحديث، الذي قوامه العلم والمعرفة والتكنولوجيا الحديثة، والتحول الرقمي والقيم الأخلاقية، وسلطة العقل وإحكام المنطق، والتفكير الفلسفي الحديث الذي يضمن استدامة أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل… ويبحث في ما وراء الأحداث، ويركّز على قضايا ذات بعد أخلاقي وإنسانيّ ومعرفي تعد الأساس في بنائه، فكر يعتمد التفكير النقدي والتحليل العلمي لظواهر الحاضر وأحداثه وأزماته، ويدعو للتأمل بعقلانية في عملية الخلق والإنسان والطبيعة والتراث الحضاري والغوص في أعماقه لإحياء قيم المعرفة القابلة للتجدد والحياة والمفضية لاستشراف مستقبلات الوطن العربي.
وعند الحديث عن بناء منظومات فكرية معاصرة في الوطن العربي، فلا بد من الإشارةِ إلى العديد من الصعوبات والعوائق التي تتداخل فيها العناصر التاريخية، والأيديولوجية والدينية والاجتماعية التي تواجهنا في هذا المشروع العربي والإنساني الدقيق والمفصلي، ودراستها مدخلاً لاستنباط أفكار جديدة تكون بمثابة ركائز لبناء هذه المنظومات، ومنها:
الرواسب التاريخية، حيث تركت فترات الاستعمار آثاراً عميقة على البنى الفكرية والسياسية والاقتصادية في الدول العربية، وأنتجت تبعيةً ثقافية واقتصادية أعاقت الاستقلال الفكري والتحرر من المفاهيم الغربية المفروضة. وإن النخب الفكرية في الوطن العربي التي تكونت في ظل الاستعمار غالباً ما تبنت أيديولوجيات تتماشى مع مصالح المستعمر، مما صعّب عملية بناء فكر عربي مستقل وأصيل.
الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار والتي أدت إلى تجزئة الوطن العربي مما أعاق جهود التكامل والتعاون الإقليمي. إن هذه التجزئة قد خلقت هويات محلية ضيقة وتنافساً بين الدول العربية، ما يعيق تطوير منظومات فكرية شاملة.
ومن العوائق المهمة:
الجمود الأيديولوجي، والأيديولوجيات التقليدية، التي تأخذ أهمية بالغة، سواء كانت قومية أو ماركسية أو يسارية أو ليبرالية أو دينية أو غيرها، حيث إنها تمثل عائقاً أمام التفكير الإبداعي والتجديدي. ويمكن النظر إلى هذه الأيديولوجيات على أنها نماذج مغلقة تمنع التفاعل الحر مع الأفكار الجديدة والتطورات المعاصرة إذا ما ترافقت مع التطرف والتعصب. إن الأيديولوجيات المتطرفة، سياسية كانت أو دينية، تعيق الحوار البنّاء وتؤدي إلى الاستقطاب، والتطرف يعزز النزعة نحو الانعزال والانغلاق الفكري، ما يمنع نشوء منظومات فكرية شاملة ومفتوحة.
تعد العوائق الدينية والتفسيرات الدينية المتشددة (الموروثة)، عقبة أساسية في المجتمع العربي أمام التحديث والإصلاح، حيث إن التفسيرات الجامدة للنصوص الدينية تمنع التأويل والتجديد، ما يعوق تطوير فكر ديني معاصر يتماشى مع متطلبات العصر، ناهيك بظاهرة استخدام الدين أداةً سياسية؛ ما يعيق تطور منظومات فكرية مستقلة.
إنّ هذا التداخل إنْ حصل وهو حاصل الآن في غير قطر عربي، يؤدي إلى تسييس الدين وتديين السياسة؛ ما يخلق بيئة من عدم الثقة والتوتر.
وفي مقدمة العوائق الاجتماعية والثقافية، تأتي المستويات العالية من الأمية والفقر في أغلبية الدول العربية؛ ما يعيق نشر الأفكار الحديثة والمعاصرة، حيث إن الفقر المستشري يحرُم الأفراد من الفرص الفكرية والإبداعية، ويكرّس حالة الجمود والتبعية، مثلما هي الأمية تشكل حاجزاً بين اكتساب المعرفة بتعطيل العقل وحجب الوعي والإدراك.
لاتزال الروابط القبلية والعشائرية تلعب دوراً كبيراً في عدد من المجتمعات العربية، مما يعيق التحول نحو مجتمعات مدنية حديثة، إن هذه الروابط تعزز الانتماء الضيق وتمنع التفاعل الحر بين الأفكار المختلفة.
ومن العوائق المهمّة، انتشار ظاهرة قمع الحريات الفكرية والسياسية، ما يمنع نشوء مناخ للإبداع الفكري والنقاش الحر، ويمكن القول إن السلطة الاستبدادية المطلقة تميل إلى قمع التنوع الفكري وتكريس الأيديولوجيات الرسمية وغير الرسمية، ما يمنع تطور الفكر المستقل في المجتمع العربي، خاصة في ظل السياسات الأمنية القمعية التي تخلق حالة من الخوف والرقابة الذاتية بين المثقفين والمفكرين، ما يمنعها من التعبير الحر عن الأفكار ويسهم في الجمود الفكري.
ولا يفوتنا أن نذكر التأثيرات الخارجية، ومنها العولمة الثقافية؛ فإنها تفرض نماذج ثقافية واقتصادية معينة، قد تتعارض أحياناً مع الهوية الثقافية المحلية، لذا ينبغي أن يكون التفاعل مع العولمة بوصفها واقعًا عالميًّا مفروضًا (انتقائياً وواعياً) شرط أن يتم استيعاب الإيجابيات دون فقدان الهوية الثقافية الوطنية والعربية.
بالإضافة إلى أهمية المقاومة الفكرية والثقافية لمواجهة التدخلات في الشؤون السياسية والاقتصادية من قبل القوى الخارجية والتي تعرقل جهود الإصلاح والتطوير الفكري، إن هذه التدخلات قد تعزز التبعية وتمنع بناء منظومات فكرية مستقلة وقوية.
إن مواجهة هذه العوائق تتطلب نهجاً شاملاً يدمج بين التفكير النقدي والإصلاحات العملية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية الوطنية واستيعاب التغيّرات العالمية.
ولبناء منظومات فكرية عربية معاصرة لا بد من اعتماد ركائز فكرية، غالباً ما كانت بمثابة عوامل مشتركة بين كل النهضات التي حصلت في دول متعددة، وتشمل:
- التعليم والإبداع
بما يعنيه من تحديث للمناهج التعليمية لتواكب التطورات العالمية في هذا المجال الحيوي والمهم، وتشجيع البحث العلمي والابتكار، وتوفير الدعم المالي واللوجستي، وتعزيز التفكير النقدي والإبداعي في مختلف مراحل التعليم.
إن فلسفة المعرفة تدخل في عمق عملية التعليم والإبداع، لكون المعرفة ليست ثابتة أو محدودة، إنما هي عملية مستمرة ومتجددة. وإن التعليم هو المفتاح لتحرير الفكر البشري من قيود الجهل والجمود. مثلما أن الإبداع ليس مجرد إضافة تقنية، بل إعادة تشكيل للعالم وفهمنا له، حيث يتجاوز الفرد حدود المعرفة التقليدية ليخلق معارف جديدة وأساليب مبتكرة.
- الاستثمار في التكنولوجيا
وتطوير البنية التحتية الرقمية، ودعم الابتكار في مجال التقنية وتشجيع رواد الأعمال في هذا القطاع، وتعزيز استخدام التكنولوجيا في مختلف المجالات كالتعليم والصحة والصناعة، والتأكيد في برنامج المعهد ووحداته على أن فلسفة التكنولوجيا تعني أن التكنولوجيا ليست مجرد أدوات ووسائل، بل هي امتداد لإمكانات الإنسان وأفكاره، وإنها تمثل تحولاً جوهرياً في كيفية تفاعلنا مع العالم ومع بعضنا البعض، والنظر إلى التحول الرقمي بوصفه مرحلةً جديدة من التطور البشري، حيث يتم تجاوز الحدود المادية والجغرافية؛ ما يفتح أبواباً جديدة للتواصل والإبداع والتفكير النقدي. - احترام وتقدير التنوع الثقافي والفكري
وتعزيز الحوار بين الثقافات ودعم المبادرات التي تعزز الفهم والتسامح بين مختلف الفئات الاجتماعية، إن الالتزام بثقافة الاختلاف والتعدد، أي بمعنى التعددية الثقافية والفكرية تمثل اعترافاً بجمال الإنسان واختلافه، ومن منظور فلسفي، إن هذا التنوع يعزز فكرة أن الحقيقة ليست واحدة بل متعددة، وأن فهم الآخر هو جزء من فهم الذات، فالتعددية تحثنا على تجاوز التصنيفات الضيقة وتبني مفهوم الإنسانية الشاملة التي تحتضن الاختلاف وتعتبره قوة بناءة ونوع من التماسك المجتمعي المتين. - الاقتصاد المستدام والتنمية
تبنّي سياسات اقتصادية ناجحة ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتعزيز مستوى الاقتصاد الأخضر بما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة والحفاظ على الموارد الطبيعية، تعد حالة مهمة وأساسية.
وبهذا الخصوص لابد من التركيز على فلسفة العدالة والتنمية، ونقصد التنمية المستدامة التي هي ليست مجرد أهداف اقتصادية، بل هي رؤية عميقة للعدالة بين الأجيال واحترام الموارد الطبيعية، مما ينبغي وضع استراتيجيات تحقق التوازن بين الاحتياجات الحالية والمستقبلية، وتعزز فكرة أن الإنسان هو جزء من نظام بيئي أكبر يجب الحفاظ عليه واحترامه.
- العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان
يعدُّ ضمان حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون تمييز، ومكافحة الفقر والبطالة وتعزيز العدالة الاجتماعية من المقاييس والمرتكزات المهمة لأي نهضة فكرية حديثة، ويحتل الحديث عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، مكانة في فلسفة الحقوق والواجبات التي تعكس رؤية المعهد للأخلاق والمساواة والتي يمكن النظر إليها، على أنها تعبير عن القيمة الجوهرية لكل فرد، وتحقق التوازن بين حقوق الأفراد وواجباتهم تجاه المجتمع.
إنها دعوة لإعادة التفكير في الهياكل الاجتماعية والسياسية بما يحقق العدالة والكرامة للجميع. - الحوكمة الرشيدة والشفافية
يعد تعزيز الشفافية والمساءلة في كافة مؤسسات الدولة، ومكافحة الفساد وتعزيز الثقة بين الحكومة والمواطنين من أهم الركائز لبناء منظومات فكرية عربية حديثة في إطارها السياسي والاستراتيجي.
حيث إن فلسفة الحكم الرشيد أو مايسمى الحوكمة الرشيدة هي ليست مجرد إدارة فعالة، بل هي تعبير عن أخلاقيات الحكم وعدالة السلطة. إن الشفافية والمساءلة تمثلان التزاماً أخلاقياً تجاه المواطنين، وتعزيزاً لفكرة أن السلطة ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الخير العام. - التكامل الإقليمي والتعاون الدولي
إن تعزيز التكامل بين الدول العربية بما يجعلها قادرة على التعامل مع التحديات المشتركة، وتوسيع رقعة التعاون الدولي وتبادل الخبرات والمعرفة مع الدول الأخرى يجسّد فلسفة الوحدة والتعاون، اللذان يعكسان رؤية مستقبلية للعلاقات الإنسانية تتجاوز الحدود الوطنية، وتؤكد على أن الإنسان، في جوهره كائن اجتماعي يحتاج إلى التواصل مع الآخرين والتكامل معهم لتحقيق تطلعاته. - وفي مجال الثقافة والإعلام
إن التلازم الحيوي بين الثقافة والهوية، والثقافة والإعلام، والثقافة وبناء الإنسان يمثلُ حالة الوعي الجماعي والفردي؛ فالثقافة هي تعبير عن الهوية والوعي والسلوك والذاكرة الجماعية، والإعلام هو الوسيلة التي يتم من خلالها نقل هذه القيم والأفكار بما يسهم في تحقيق تنمية إنسانية تعد الأساس لأي نهضة. إن تطوير الإعلام بما يجعله أكثر موضوعية ومهنية يعكس التزاماً بالحقيقة والعدالة، ويدعو للحفاظ على التنوع الثقافي والفكري.
بهذه الركائز الفكرية، وغيرها الكثير مما يتعلق باختصاص كل وحدة من وحدات المعهد، والتي سوف نتناولها تباعاً في مناقشة بناء المنظومات الفكرية العربية، نستطيع أن ندرك أن الركائز الفكرية الحديثة لبناء منظومات عربية معاصرة ومستقبلة تتجاوز كونها مجرد حلول عملية، انما هي رؤى فلسفية تعبر عن القيم الإنسانية وتدعو إلى التفكير النقدي والإبداعي لتحقيق تطور مستدام وشامل.
27 – 30 يونية/ حزيران 2024