منظمة فكرية وعلمية وثقافية مستقلة
تعايش في ظل الاختلاف ..

تعايش في ظل الاختلاف ..


الدكتور خضير المرشدي

مؤسس المعهد العالمي للتجديد العربي


ظلَّ رهان التعايش، في ظِلْ الاختلاف وفي خضم الصراعات الدولية، مبدأ يشغل بال كثير من المفكرين والفلاسفة وصناع القرار خلال حقب تاريخية متعددة، وإن الدعوة للسلام والعيش المشترك مطلب ملح أمام تزايد حدة الصراع بعد الحربين العالميتين وبعد الحرب الباردة وتنامي الإرهاب وسباق التسلح النووي، خاصة بعد التطور المذهل في التكنولوجيا العسكرية وانتاج وتجارة الأسلحة الذكية .

وإذا كانت السياسة العالمية تحكمها مصالح، وإن “الحرب بصفتها ممارسة للسياسة بشكل عنيف، فإنها تقع في اغلب الاحيان لتحقيق تلك المصالح”، وهي عادة ما تنتهي بالتفاوض لإقرار الامن السلام، رغم ان هذا المبدأ ليس مطلقاً بالكامل حيث تتحول الحرب احياناً الى صراع من نوع جديد يعتمد قوى ناعمة معلنة وادوات خفية .

وقد ظلّت فكرة العنف والحرب شر لامفر منه، حاضرة في التفكير الفلسفي أساساً، وهو التفكير الذي لابد منه لمن يسعى للتغيير، لانه اي التفكير الفلسفي مفهوم يعبر عن النظر في عمق الاحداث وما خلف التوقعات ليجد الاجوبة المعمقة على الاسئلة المصاحبة لكل حدث سلمياً كان أم بالعنف .. ولنقف عند محطات فلسفية تاريخية تحدّث فيها فلاسفة في مختلف المراحل عن الصراع وطبيعته واهدافه، وانقسم هؤلاء الفلاسفة الى فريقين، منهم من يعتقد بل ويجزم بحتمية الحرب والصراع ..

وفريق آخر ظل رهانه قائم على ضرورة التعايش بين الأفراد والشعوب .

فمن بين فلاسفة الفريق الاول نجد ان هيجل وكوجيف يتحدثان عن ( جدلية الصراع بين السيد والعبد لانتزاع الاعتراف من الاخير بالقوة)… وشدد ماركس وإنجلز على (دور العنف والصراع الطبقي الثوري كمحرك للتاريخ وصانع للتغيير !!!)، فيما ان الفيلسوف الشهير نيتشه اعتبر ان ( الحرب حالة طبيعية لابد لها ان تقع عند الضرورة وفي كل حين ) .. ونرى ان ماكس فيبر عبّر عن مفهوم “عنف الدولة المشروع”، وركّز هنتنغتون على حتمية ( صراع الحضارات )، وهكذا …

ليأتي فريق آخر يراهن على ضرورة التعايش بين الأفراد والجماعات والدول والمجتمعات . فقد دعا أرسطو إلى (الصداقة بين الشعوب والافراد والجماعات)، ودعا أوغست كونت إلى تحقيق (مبدأ

الغيرية) كأساس أخلاقي للعلاقة مع الآخر والتواصل معه وقبوله، واشتهر برتراند راسل (بمناهضته للحرب)… وآمن غاندي بفلسفة “اللاعنف” التي نجحت بريادة ملهمة في تحرير شبه القارة الهندية العظيمة، كما أكد إريك فايل على “جوهر الفلسفة المعادي للحرب والداعي إلى ثقافة الحوار وقبول الاخر” .

ولازالت بعض الدعوات المعاصرة تنادي بضرورة “التثاقف” والتواصل بين الشعوب والتفاعل بين ثقافاتها لتحقيق التعايش والسلم العالمي والتشارك في بناء المدنية المعاصرة والنظام العالمي الجديد من حيث ان الفكر العالمي اشبه بحلقات في سلسلة  امتدت منذ بدء الفلسفة اليونانيه في القرن الخامس قبل الميلاد حتى الراهن المعاش  .

ولا بد من الاشارة الى ان الصراع الدولي هو التصادم أو التنافس بين دولتين أو أكثر على المصالح والموارد والنفوذ في الساحة الدولية، ويمكن ان يشمل هذا الصراع النزاعات السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية والثقافية والفكرية والعلمية والتكنولوجية بين الدول .

وقد إختلفت طبيعة الصراع في الظرف الراهن عن ما كان عليه في فترات مضت من حيث الاهداف والادوات والمضمون والجهات المستهدفة ونوعية المصالح المتحققة من هذا الصراع لصالح طرف محدد دون سواه او لصالح جميع الاطراف المتصارعة. ولفهم تداعيات هذا الصراع على الدول العربية لا بد من الوقوف على تاريخ العلاقة بين العرب والصراعات الدولية، والتطورات في العالم العربي وتأثير الصراعات على مسار هذه التطورات، وعلى أحداث تقسيم الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، وتأثير الاستعمار والهيمنة الاجنبية، والصراع العربي- الصهيوني، والنزعة الايرانية في التوسع العدواني، والتغيّرات الجيوسياسية في المنطقة على مدار العقود الماضية خاصة بعد هزيمة الخامس من حزيران عام ٦٧ وما نتج عنها من تداعيات قاسية على الامن القومي العربي، وزلزال احتلال العراق وارتداداته المدمّرة على الدول العربية بما سمي “ثورات الربيع العربي؟؟” .بذلك فإن من أهم القضايا التي تشكل مضمون الصراع الدولي الراهن هي الصراعات الإقليمية، التطرف والإرهاب، الصراعات الاقتصادية والموارد، الصراع الفكري والثقافي، العلمي والتكنولوجي، وتداعيات النزاعات الدولية على الامن والاستقرار الاقليمي بشكل عام والعربي بصورة خاصة .مما يستدعي استحضار ستراتيجيات ومبادرات يمكن اعتمادها بصورة تشاركية وبمؤسسات تنسيق عربية تضمن الحد المقبول من الاستقلالية والسلام في العالم العربي وتعزّز التكامل الإقليمي والتعاون بين الدول العربية في المجالات السياسية والاقتصادية والامنية والثقافية والعلمية وغيرها وفقاً لطبيعة كل نوع من انواع الصراع .

ومن بين عناصر هذه الإستراتيجية :

  •  تعزيز التكامل الإقليمي :

يتعزّز التكامل الاقليمي بتصعيد وتيرة التبادل التجاري، وتطوير البنية التحتية المشتركة وتبادل الخبرات في العلوم والتكنولوجيا بما يسهم في تطوير الاقتصاد العربي وتحقيق الاستقلال في القرارات السياسية والاقتصادية

  •  تفعيل الدبلوماسية العربية :

يُعدْ منهج تحديث ورقمنة وتفعيل  الدبلوماسية العربية المشتركة مدخلاً مهماً لتعزيز مكانة العرب على المستوى الاقليمي والدولي، الامر الذي يتطلب توحيد وجهات النظر وتنسيق الجهود في المحافل الدولية حول السبل الكفيلة لحل الازمات العربية الساخنة .

  • التركيز على التنمية البشرية :

تُعتبر تنمية القدرات البشرية، وتحسين مستوى المعيشة في أي من الدول العربية أحدى اهم الأولويات لتجنب اثار الصراعات الاقليمية والدولية المعيقة لبناء الانسان العربي .. ولعلّ تجديد منظومة التربية والتعليم وتوفير الخدمات الطبية والصحية وفرص العمل للانسان العربي، وتعزيز قوة العمل، والتخفيف من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وانهاء الفوضى والتخبط السياسي والفكري والثقافي، وتحقيق مبدأ المواطنة العربية، تمثل جميعها سبل علمية لاثبات الذات العربية على مواجهة الصراعات وامتصاص آثارها المدمرة .

  • التعاون الأمني :

يُعد التعاون الأمني بين الدول العربية أحد أهم الاليات لمكافحة التهديدات المشتركة التي تستوجب صوغ ستراتيجية عربية شاملة لمواجهة الحركات الاصولية التي تؤمن بالعنف طريقاً للتغيير، والتيارات السياسية المغطاة بغطاء الدين وقواها الخفية وامتداداتها الدولية التي تنسف فكرة المواطنة وتتجاوز حدود الوطن وتشوه مفهوم الوطنية، مما يجعل من المحتم مواجهتها قانونياً واجتماعياً وبالوسائل الناعمة .

  • حل النزاعات بالطرق السلمية :

يجب تجريم اللجوء للقوة العسكرية والعنف في حل النزاعات التي قد تحصل بين الدول العربية، وانتهاج الحوار والتفاوض لحل أية أزمة بين دولة عربية وأخرى، كما ويجب أن تسعى الدول العربية إلى تسوية الخلافات بمنهجية سلمية تقوم على الوعي بالتحديات المشتركة والمصير الواحد.

  • الاستثمار في القدرات العربية :

يشكّل  الاستثمار في العقل العربي والقدرات المادية العربية في مجالات الطاقة والعلوم والتكنولوجيا الحديثة والابتكار، وتطوير قوة العمل العربية وزيادة التوظيف في القطاعات المهمة، عاملاً جوهرياً في تحقيق الاستقلالية في اتخاذ القرارات بما يسهم في توطين المعرفة ونشرها في اوساط المجتمع العربي والتي تُعد القاعدة الاساس لأية نهضة وتغيير .

  •  اعتماد مبدأ الحوار الفكري والثقافي والديني :

يُحسب لهذا النوع من الحوار بين المجتمع العربي بكافة فئاته واديانه وثقافاته وافكاره من جانب، وبينه وبين المجتمعات الأخرى من جانب آخر .. بأنه الاهم في تأسيس قاعدة التعاون المثمر، والعامل الاكثر اهمية في ازالة جدران القطيعة بين المجتمعات، وبما يسهم في تحقيق وحدة الفكر والثقافة العربية، ويعزز التعايش بين المجتمعات رغم التنوع والاختلاقات في الاصول والتراث والفرعيات وحتى طرق التفكير .

ان مبدأ التفاعل بين الثقافات والتلاقح بين الافكار والحوار بين الاديان والتعمق بدراسة التجارب العالمية في التجديد والتحديث يعُد من بين أهم منطلقات المعهد العالمي للتجديد العربي، بغية الاستفادة من مخرجاتها لتجديد منظومات الفكر والثقافة العربية وبناء فكر عربي حديث يستوعب إشكالات وتعقيدات الواقع العربي المختلف في طريقة تفكيره ومنظومة قيمه وشبكة معتقداته وطبيعة خصوصيّاته ومحتوى منطلقاته الفكرية .


تحميل المقال

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *