أ. د هاني الياس خضر الحديثي
أستاذ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية
أ. طه هاني الياس خضر
باحث في العلاقات الدولية- جامعة ويستمنستر الامريكية
المواطنة تعني الفرد الذي يتمتع بعضوية بلد ما ويحمل جنسيته ويستحق ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات؛ بعبارة أخرى فإن المواطنة ترتب للفرد في دولته الحقوق التي تكفلها الدولة لمواطنيها الذين يحملون جنسيتها، والإلتزامات التي تفرضها عليه، ويتم ذلك وفق القانون الذي يقوم على تحقيق المساواة والعدالة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الانتماءات الفرعية الأخرى، ولأجله تنتفي مصطلحات الأغلبية والأقلية في دولة المواطنة، فالجميع هم مواطنون ويشعرون بوحدة الانتماء والمصالح المشتركة .
تتأسس المواطنة للمواطن على أسس الشعور بالانتماء والولاء والحريات الشخصية بموجب القانون .
وفي ضوئه فإن للمواطن المتمتع بجنسية دولته حقوق الرعاية الصحية، وتأمين البيئة الطبيعية للعيش، وحق التعليم، وحرية التنقل والملكية، والمشاركة في الأنشطة الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية والثقافية، الضرورية لتحقيق التنمية الاجتماعية، ولن يتم ذلك إلا في دولة القانون.
القانون الأساسي للمواطنة هو المساواة والإنصاف بين المواطنين أمام القانون في تولي المناصب وتحمل المسؤولية على قدم المساواة، وأمام توزيع الثروة الوطنية، وكذلك في تحمل المسؤولية أمام الواجبات من دفع الضرائب والخدمة العسكرية والحفاظ على الوطن والدفاع عنه. إن ذلك يتم عبر الحق في المشاركة في صنع القرار السياسي وإدارة الدولة وفق أسس مهنية لاصلة لها بالانتماءات العقائدية ذات البعد التكويني الأثني .
من هنا تأتي أهمية البحث في هذا الموضوع الذي بات يشكل قاعدة في اعتماد نظام سياسي مدني للدول التي تبحث عن الاستقرار، بذات الوقت الذي تعتمده التكوينات الأثنية التي تشعر بالتمييز داخل الدولة في المناداة بحق تقرير المصير في البلدان التي تفتقد الإرادة على تشكل نظام سياسي يشارك فيه الجميع من المواطنين .
الفرضية الأساسية التي ننطلق منها هي: أن التعدد الأثني في المجتمعات الوطنية يمكن أن تكون متغيراً مؤثراً بشكل إيجابي في تحقيق الاستقرار السياسي، والازدهار الثقافي، والابداع الفني، في دولة المواطنة حيث السيادة للقانون، بيد انها يمكن أن تتحول إلى متغير فاعل باتجاه التفتيت والانقسام والانشطار الوطني في حال غياب دولة القانون وسيادة سلطة المكونات على حساب المواطنة .
من الواضح إن هناك فرقاً بين المواطنة بالتوصيف الذي ذكرناه سلفاً وبين الهويات الثقافية، وخاصة في بلد تتعدد فيه الثقافات نتيجة تعدد التكوينات الأثنية .
إن من حق المواطن، بغض النظر عن انتمائه الأثني، أن يعتز بتكوينه وتراثه الثقافي، عرقياً أو دينياً أو مناطقياً، فهي مسألة طبيعية تستوجب الاحترام من قبل الدولة التي تنظم عمل المؤسسات الثقافية لمواطنيها، لكن الانتماء والاعتزاز بالثقافات الفرعية ينبغي أن لا يتم في ظل تغييب الثقافة الوطنية الناتجة عن المشتركات الثقافية والناتجة أصلا عما ينتجه العيش المشترك جغرافياً وتاريخياً ودينياً وإرثاً تقليدياً ومصالح مشتركة لجميع المواطنين وفق مبدأ المشاركة العادلة للمواطنة .
بيد إن هذه الفرضية تطرح إشكاليات تتصل بالسلطة السياسية وبطبيعة النظام السياسي، وهو الأمر الذي يضع أمام الباحث تساؤلات جوهرية ابرزها :
السؤال الأساسي الذي نسعى للإجابة عليه هنا: كيف يتم تحقيق العدالة بين المواطنين في دولة متعددة التكوينات الأثنية؟
ومتى تتحول التعددية الأثنية إلى عامل مزعزع للوحدات الوطنية؟
الإجابة على هذا السؤال يتطلب أولاً تحديد المشكلة التي تتموضع في طبيعة النظام السياسي، واختلاف الأنظمة السياسية عن بعضها في تأمين الحقوق الأساسية وممارسة الواجبات على أسس وقواعد قانونية مجردة .
هنا نجد اختلافات بين الأنظمة السياسية، بين أنظمة مدنية تعتمد دستوراً ومؤسسات تنبثق عنه تحقق اندماج مجتمعي يكرس وحدة المواطنة والشعور بوحدة ألانتماء للدولة والاعتزاز بذلك الانتماء الذي يوفر الظروف المناسبة للتنمية المستدامة، بغض النظر عن الانتماءات الفرعية التي يتم تكريسها لخدمة الدولة ووحدتها والحفاظ عليها وسيادتها وهيبتها بين الأمم؛ وأنظمة سياسية أخرى تقوم على أساس المكونات وليس المواطنة، الأمر الذي يجعلها تنتج أنظمة سياسية تتأسس على أسس التمييز بين المواطنين حسب الاغلبية والاقلية الاجتماعية و السياسية، وسيادة حالة الفساد الناتجة عن التمييز بين المواطنين على أسس إثنية، وانهيار مؤسسات الدولة إلى مستوى مؤسسات السلطة أو القوى السلطوية القابضة على مؤسسات الدولة، الأمر الذي يعرّض المواطنة لحالة من التهميش والاقصاء، والذي يدفع المواطنين من تلك المكونات للبحث عن فرص الحياة الطبيعية لدى دول أخرى مساندة لاعتبارات المشتركات الإثنية أو الاختلافات السياسية بين الدول .
لذلك نسعى هنا للإجابة على السؤال المهم: كيف يمكن للتعدديات الإثنية داخل الدولة أن تؤثر سلبا أو إيجابا في الاستقرار السياسي للدولة؟ وكيف تم معالجة هذه الاشكالية في الأنظمة المدنية المتحضرة؟
في ضوء ما تقدم نجد من الضروري اعتماد منهج التحليل المقارن للإجابة على الفرضيات والإشكاليات والتساؤلات الموضوعية .
نرى إن الإجابة لدينا تتوقف على طبيعة النظام السياسي وفلسفته في الحكم التي يجسدها عبر دستور ملزم يتحدد بضوئه سلوك النظام والسلوك السياسي للسلطة السياسية التي تنتج عنه.
نرى أن هناك متلازمة عضوية بين مدخلات أساسية ثلاثة هي: الهوية الوطنية للمواطن والتي تحدد جنسيته التي يحملها وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، والثقافة التي ينبغي أن تسود المجتمع بجميع أفراده، والتي يتم فيها تغليب الثقافة الجمعية الوطنية مع احترام الخصوصيات الفرعية التي تصب لصالح المنهج الثقافي الوطني، والدستور الذي يحدد شكل النظام السياسي والمشاركة السياسية في عملية صنع القرار عبر مؤسسات دستورية تعبر عن الدولة ومنهجها وتقوم على قواعد عامة مجردة دون تمييز .
وعلى أساسه فإن المواطن يشعر بالهوية ووحدة الانتماء ويعتز بذلك الشعور طالما إنه يشارك في بناء مؤسسات الدولة وسلوك السلطة السياسي الذي يضمن للمواطن كامل حقوقه في ظل دستور يتيح له أو مَن يمثله الاحتكام إليه أمام سلطات قضائية مهنية مستقلة .
تحقيقا لذلك انصرفت الدول التي تسعى لإنجاز التنمية الشاملة والمستدامة إلى وضع الأسس المتينة للدول الساعية نحو الاستقرار والازدهار عبر اعتماد النظام الفيدرالي الذي يضمن مركزية السلطة الاتحادية بصفتها الضامن للعدالة والإنصاف بين الولايات أو الأقاليم أو الوحدات الإدارية التي تتمتع بولاية السلطة اللامركزية، والتي أوجبتها طبيعة التشكل الإثني للمجتمع الوطني .
من المهم هنا الإشارة إلى مسألة ضرورية تتمحور في أهمية تكريس الوعي المجتمعي بأن البقاء للمكونات المتعددة ضمن إطار الدولة الكبيرة هو الخيار الأفضل لتحقيق الطموحات الإنسانية عنه في مساعي الانفصال أو الاستقلال تحت شعارات تبدو براقة وملهمة، لكنها في واقع الحال تفضي إلى تشكيلات جغرافية بسيطة وبموارد محدودة يمكن لقوى خارجية أن تتلقفها بقصد احتوائها لمصالحها القومية، الأمر الذي ينتج عنه تبعية تلك التشكيلات وخضوعها لإرادات خارجية، تفقد فيها هويتها الوطنية وتضيع على المنتمين لتلك التشكيلات الإثنية من مواطنين حقوقهم وثقافاتهم وتطلعاتهم، بسبب غياب الإدراك الجمعي أو الفئوي لأهمية احترام المتغيرات الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والثقافية التي تجمعهم مع المواطنين الآخرين ضمن المجتمع أو الدولة الأكبر التي انتموا لها بالأصل تحت محتلف الاعتبارات ومن بينها الاعتبارات الإقليمية والدولية .
إن الخيار الفيدرالي آنف الذكر إنما ينتج في حال فشل النظام الشمولي المركزي عن تحقيق وحدة الانتماء الوطني والناتج عن غياب العدالة والإنصاف، وذلك ينتج عن ظروف موضوعية تنتج نظاماً سلطوياً يسعى لفرض هيمنته القسرية وفق اعتباراته المشخصنة للسلطة ودستورها وثقافتها الأيديولوجية، وهو الشكل الذي يمكن أن يشهد التآكل في قبضة السلطة أمام متغيرات أو تحديات بشرية أو طبيعية تواجه الدولة وسلطتها الشمولية .
لقد أكدت تجارب الأمم الحية المتطلعة نحو الاستقرار إن بناء نظام مدني قائم على وحدة القانون ووحدة وتكافؤ الفرص في ظل نظام سياسي دستوري يحترم التعددية السياسية والثقافية والاجتماعية، هو الأساس الذي لابد منه في تحقيق تفاعلات وطنية تفضي إلى بناء الدول على أسس صحيحة وسليمة، خلافاً لما أنتجته تجارب أخرى ذهبت إلى اعتماد الأفضلية والترجيح لمكون على آخر، وشكلت مؤسساتها الدستورية وفق ذلك معتمدة شعارات الاغلبية والاقلية في تنظيم الحقوق المتفاوتة، وهو الأمر الذي جعل تلك التجارب تنحدر إلى مستويات المنازعات والصراعات الداخلية التي غالباً ما ذهبت ببلدان تلك التجارب إلى التهميش والتفتيت والانفصال لما وفرته تلك التجارب الفاشلة من فرص واسعة للتوظيف الخارجي لهذه الاشكال ودفعها نحو الانهيار الوطني. إن تجربة يوغسلافيا المنقسمة إلى دويلات لاحقا إثر حرب أهلية طاحنة تدخلت فيها قوى الناتو تمثل التجربة المرة مقابل تجارب أخرى ناجحة كما هو شأن ماليزيا وبلدان الاتحاد الفيدرالي في أميركا وأوروبا وآسيا.