التجديد في الفكر الاجتماعي والأنثروبولوجي العربي
الدكتورة أريج البدراوي زهران– رئيسة وحدة الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية
إستراتيجية التجديد:
تقوم منهجية إستراتيجية التجديد في الفكر السوسيولوجي والأنثروبولوجي العربي على خمسة أسس وهي:
- المؤسساتية وليست الفردانية: العمل وفق الرؤية الشمولية والكلية للأسس التي وضعها المعهد العالمي للتجديد العربي منذ تأسيسه عام 2019 وكذلك وفق الإستراتيجية الخمسية( 20250 -2030) التي أعلن عنها المعهد.
- نبذ الدوجماتيكية: تمتاز هذه الإستراتيجية بالمرونة والتكيف مع المتغيرات الإقليمية والعالمية أيّ البعد عن الجمود الفكري.
- التطور والتغيير: تتسم هذه الإستراتيجية بالتطوير والتغيير المستمريين، فهي تراعي التحولات العلمية والثقافية والتكنولوجية.
- تُعد نصًا مفتوحًا: إن هذه الإستراتيجية بمثابة نصًا مفتوحًا فهي تقوم على التقييم والتقويم المستمريين فهي بدأت بتقديم رؤية شخصية بصفتي رئيسة الوحدة، ثم عُدلت وفق المقترحات التي تفضل بها سيادة الدكتور خضير المرشدي رئيس المعهد، وأعقب ذلك إعداد فريق بحثي من نخبة مختارة من الوحدة، ثم طرحها على معقبين ليدلو بدلوهما، والآن أطرحها للحوار المجتمعي في المؤتمر لتلقي المقترحات والإضافات التي بالتأكيد سوف تثري عمل الوحدة.
- الأسس السوسيولوجية والأنثروبولوجية: تستند هذه الإستراتيجية على أسس السوسيولوجي والأنثروبولوجي مما يضمن أن تكون هذه الإستراتيجية مبنية على فهم عميق للواقع الاجتماعي والثقافي ويحقق التجديد المطلوب.
تطرح الإستراتيجية تساؤلات أهمها: ما هي أبرز الأسباب التي تدعو إلى التجديد في الفكر الأكاديمي والعلمي؟
والإجابة هي:
عدم وجود منظومة عربية تحمل خصائص الاتساق والانسجام وواضحة المعالم، بل لدينا العديد من المثقفين العرب الذين انتجو بعض المرجعيات الفكرية في المراحل التاريخية السابقة، إلا أن هذه المرجعيات يشوبها الانقسام الناتج عن الإنتماءات القومية أو الدينية أو العقائدية وربما الأكاديمية أيضًا مما يجعلها عاجزة عن تلبية متطلبات التحولات الجديدة.
ومن هنا: فإن دور هذه الإستراتيجية هو إعادة قراءة تلك المرجعيات لمعالجة تلك التناقضات، وهي أولى خطوات التجديد بدلاً عن نبذ القديم المتجزء أو استيراد قوالب جاهزة لا تتناسب مع خصوصية مجتمعاتنا العربية.
وفي ضوء ما سبق يتضح سعي الإستراتيجية إلى التوازن بين النظرية والتطبيق. أو محاولة التغلب على التحديات التي قد تعترض إجراءات التنفيذ من خلال خطوات تنفيذية واضحة المعالم.
وقد تم بالفعل تنفيذ تلك الخطوات وفق الخطة التي رسمناها وهي:
- نقد الأطروحات الكلاسيكية حيث تم عقد ندوة مطولة لتناول وتحليل بعض المفكرين الاجتماعيين والأنثروبولوجيين العرب. حتى لا تكون هناك قطيعة أبستمولوجية معهم، فلا تجديد دون معرفة تراكمية مسبقة.
- التأكيد على منهجية البحث الاجتماعي وتم ذلك من خلال تناول العديد من الندوات للتعرف على المنهجية الجديدة التي ظهرت نتيجة الرقمنة والتكنولوجية والتطورات المنهجية في مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة.
- من الخطوات التنفيذية أيضًا محاولة بناء نظرية سوسيولوجية وأنثروبولوجية عربية، ولا يتم ذلك دون الاعتراف بوجود أزمة علمية ناتجة عن استيراد النظريات المفسرة لمجتمعاتنا مما أفرز أزمة علم الاجتماع أو علم الاجتماع المأزوم
- الاتجاه إلى الدراسات متعددة التخصصات من خلال عقد ندوات تشابكية مع الوحدات الأخرى تتناول ذات الموضوع من جوانبه المختلفة بدلاً عن التخصصية العلمية التي يستحيل معها التجديد.
تلك بعض الخطوات التي تمت بالفعل أمّا عن الخطوات التي في سبيلها إلى التحقيق فهي:
- التركيز على الفروع العلمية التي ظهرت نتيجة التغيرات المجتمعية الحديثة مثال: علم اجتماع المخاطر العالمية– علم اجتماع المستقبليات– علم الاجتماع السيبراني– الأنثروبولوجيا الرقمية– علم اجتماع الحياة اليومية- أنثروبولوجيا المعيش اليومي– علم اجتماع اللغة– الأنثروبولوجيا اللغوية– الأنثروبولوجيا السياسية– أنثروبولوجيا الشباب– علم اجتماع دراسات المرأة– علم الاجتماع الديني- علم الاجتماع التربوي.
- عقد الدراسات الميدانية المقارنة بين البلدان العربية في محاولة لتفسير تلك الظواهر ومن ثم الخروج بمقولات نظرية تنطبق على مجتمعاتنا العربية، لا نستطيع القول بالخروج بنظرية عربية شاملة خاصة تفسر تلك الظواهر وخاصة في ظل فشل النظريات الكبرى والوسطى.
- التركيز على القضايا والمشكلات التي يخبرها المجتمع العربي بالفعل دون الانسياق خلف الموضات العلمية. فالمفكر هو نبض المجتمع ويجب أن يعبر عنه.
- احترام التعددية الثقافية داخل المجتمعات العربية لذا أهمية دراسة كيفية التعايش السلمي بين الثقافات المختلفة.
والسؤال هنا هل ما تم انجازه من خطوات نحو التجديد أو تلك الخطوات التي في طريقنا إلى تنفيذها هل هي مهمة سهلة المنال؟؟ بالتأكيد لا فهناك صعوبات تواجه تنفيذ تلك الإستراتيجية وهي:
- نقص الموارد المالية.
- قد يواجه الباحثون مقاومة بعض الأوساط التقليدية التي تفضل الحفاظ على الأساليب والمناهج القديمة مما يعيق عملية التجديد.
- تحديات التنسيق بين الجهات المختلفة. وغيرها من التحديات والصعوبات…

الأسس المعرفية لإنجاز فكر اقتصادي عربي جديد (رؤية منهجية)
الدكتور جاسم الفارس– رئيسة وحدة الدراسات الاقتصادية والتنمية
بغية تأسيس مدرسة اقتصادية عربية جديدة يحتاج الى وعي بجملة من القضايا المعرفية التي يمكن ان نوجزها بالاتي:
أولاً- الفلسفة:
رغم إن الفلسفة مشترك إنساني، إلا إن لها خصوصيتها في إطار النسق الحضاري للحضارات الإنسانية، فحضارة اليونان غير حضارة الصين وهذه غير حضارة الهند.. إن الفلسفة في إطار النسق الحضاري العربي الإسلامي ينبغي أن تكون فلسفة عقلانية يصنعها عقل منبثق من النص المؤسس للحضارة العربية الإسلامية ألا وهو القرآن الحكيم، وعليه أرى إن الفلسفة التي تؤسس لنهضة فكر اقتصادي جديد ينبغي أن تتسم بما يأتي:
- التوحيد: ليس بوصفه (فكرة) تعين على فهم العالم، بعيداً عن قضايا الذات والصفات، إنما بوصفه (عملية) تعيد تنظيم العالم، وتعيد بناءه من خلال التمسك بمعطياته الأساسية، وحدة العالم، ووحدة الحقيقة، في ضوء تنظيم الوحي للوجود الإنساني. ومن خلال هذا المنظور نتابع آلية بناء الفكر الاقتصادي والمقولات الاقتصادية والمفاهيم التي تبنى في ظله.
- العدل: هو الأساس الفلسفي الثاني في الفلسفة المنشودة في حق الإنسان ودوره الحضاري، الذي يشكل (التكليف) أهم متضمناتها. أننا نرى أن التكليف المطلوب إدراكه في ضوء علم التوحيد هو التكليف العملي بأبعاده التنموية الشاملة، لأن مقولة التكليف تجد نفسها فاعلة في مقولة “عمارة الأرض” التي هي التعبير الإسلامي عن تنمية العالم وبنائه.
- العقل: وهو العنصر الثالث في الفلسفة المنشودة لتأسيس فكر اقتصادي عربي جديد. ذلك أن العقل في جدليته مع الوحي والوجود يؤسس لإبداع دائم في البناء والتغيير .
ثانياً- المنهج:
تنبع ضرورة المنهج من الموجبات الآتية:
- تعدد الواقع الإنساني وتشابكه، الأمر الذي يؤدي إلى تداخل العوامل المؤثرة فيه والمكونة له. حسن المنهج ودقة استخدامه يسهل أمر البحث عن الحقيقة والوصول إليها من أقرب الأبواب.
- تعقد الواقع وتشابكه، يفرض ضرورة تحقيق التكافؤ ما بين المنهج، والظاهرة قيد البحث. بحيث يكون المنهج مناسباً لفهم الظاهرة دون اصطناع لها أو اجتزاء منها، وهذا أمر تضبطه القواعد المنهجية.
- ألمنهج ليس وسيلة محايدة في تناول الموضوعات ودراستها، إنما هو إطار ينقل من الواقع ما يتناسب معه ويكون على مقاسه ويدخل في تكوينه الداخلي.
المنهج هو الشرط الضروري لبناء الفكر. لأنه المنظم لعملية التفكير، ودقته بغية الوصول إلى النتائج الدقيقة لعملية البحث والتأسيس. يمتلك المنهج صفة الإطلاق، لأنه روح العلوم. وهو المشترك الإنساني في الحضارات كافة. وعند فحص الإنتاج الحضاري للإنسانية جمعاء، نرى أن المناهج قد أثرت كثيراً في نمط تفكيرها. فكان المنهج هو الوسيلة التي أعادت به صياغة نماذجه المعرفية. نرى هذا واضحاً في الحضارة العربية، عندما ترجمت الفلسفة اليونانية في عصر المؤمنون خاصة، تمكن علماء الأصول والكلام والفلاسفة من استيعاب تلك المعارف وأخضعوها لمنهجهم الفكري، فولدت علوماً جديدة مثل علم الكلام، ومفاهيمي ومفاهيمه في الكون والإنسان، وظهر عندها مفهوم الانفصال والاتصال في دراسة الكون، وغير ذلك. يقودنا المنهج إلى الاهتمام بالكيف؛ كيف نؤسس فكراً جديداً؟ كيف نبني مفاهيم جديدة؟ كيف نفسر الواقع؟ كيف نبني نظريات التنمية؟ وهكذا؟ والمنهج هو الذي يعطي للعلوم صفاتها، ويحدد جوهرها، فبدون المنهج لا يمكن التمييز بين علم الاقتصاد والنظم الاقتصادية، فلكل منهجه الذي يضبط آلية العمل والحركة.
إن بناء فكر اقتصادي يستوعب اللحظة التاريخية للأمة يستوجب ما يلي:
- تحديد الإطار المرجعي للنموذج المعرفي الاقتصادي والإطار المرجعي لبناء الفكر هو الرؤية الفلسفية في إطار النسق الحضاري للأمة العربية.
- بيان مصادر المعرفة التي تنظم آلية التفكير.. ومصادر المعرفة هي إما إسلامية أو غير إسلامية. فنظرية المعرفة الإسلامية.. تعتمد الوحي والوجود والعقل، في حين يغيب الوحي عن مصادر المعرفة غير الإسلامية.
- في ضوء تحديد المصادر المعرفية، تتحدد المفاهيم والدلالات في إطار اللغة التي تستمد دقتها من دقة العلاقة بين مناسبة اللفظ ومعناه.
- تحديد آليات، تحليل مفردات النظام الاقتصادي. (الأسرة والمؤسسة والقطاع العام وسياسات الدولة العامة والفرعية).
- تحديد الثوابت والمتغيرات في النشاط الاقتصادي من خلال وعي العقيدة والواقع ومستلزمات التقدم وآليات البناء.
- إعادة فهم العلاقة بين الفكر الاقتصادي العربي الجديد، وبين علوم العصر، وفلسفته.
- تأسيس علاقة متينة بين الفكر والقيم، فالاقتصاد الغربي لم يهتم بهذه العلاقة، رغم محاولات رولز وأمارتيا سن في التركيز على قيمة العدالة والأخلاق في النشاط الاقتصادي.
- إن القرآن الحكيم يؤكد على وحدة الاقتصاد والأخلاق في إطار مفهوم الاستخلاف.
ان منهجية القرآن الحكيم المعرفية تستهدف صياغة العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية بما يحقق وعي العالم واستثماره استثماراً كفوءً وتحقيق سعادة الإنسان وخلاصه من الأساطير اللاهوتية التي انحرفت بالأديان عن أهدافها السامية.
ينطلق البحث من الإيمان بالوحدة البنائية للقرآن الحكيم ودقه نسقه المعرفي الذي يؤدي إلى:
- انبثاق المفاهيم العلمية من القرآن الكريم متضافرة مع بعضها
- صياغة القوانين التي تعمل في العلوم بكفاءة
- دقة المنهج الذي يحكم العلوم الاجتماعية والتطبيقية
- دقة النتائج المترتبة على هذه العلوم
لقد أسس القرآن الحكيم قواعد العلوم ومناهجها وأهدافها بجعل العلم نشاطاً انسانياً هادفاً، قوي الدوافع، رفيع القيم، ودقيق التنظيم، يتميز بأسلوبه في البحث، هدفه التوصل
إلى معرفة القوانين والعلاقات والأسباب والحقيقة بوصفها أشياء غير مرئية وعلى أساس إسلوب الملاحظة للأشياء والأحداث والعمليات.
وعلم الاقتصاد الإسلامي هو العلم الاجتماعي الذي يهدف إلى آليات فهم الإنسان والعالم وتفسيرها والعمل على تغييرها وإعادة بنائها على وفق الهدى القرآني بغية تحقيق سعادة الإنسان والأمة في الدارين.
وبغية إعادة بناء الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي في ضوء القرآن الحكيم ينبغي استيعاب النسق القرآني الذي يهدي إلى الأفضل في الحياة بعلومها وعناصرها كافة.
تبدأ عملية بناء علم الاقتصاد الإسلامي في ضوء القرآن الحكيم انطلاقا من التوحيد فهو الأساس الذي تقوم عليه حياة الإنسان المسلم المؤمن والأسرة والمجتمع وبيان تجلياته العلمية والعملية في مستويي التوحيد؛ توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية.
وسيتولى البحث توضيح تجليات التوحيد في الاقتصاد الإسلامي…
ينبثق من التوحيد بغية تحقيق كفاءة النشاط الاقتصادي، بناء الإنسان الموحد لأنه بدون هذا الإنسان يفقد النشاط الاقتصادي كثيرا من أهميته.
في هذا المبحث سيتولى البحث تحليل مفهوم التزكية وأثرها في بناء الإنسان الاقتصادي المؤمن بعد ذلك ينتقل البحث لتناول المبادئ الإنسانية العملية المؤسسة لعمارة الأرض في ضوء التوحيد وهي:
- مبدأ التسخير وأثره في النشاط الاقتصادي.
- مبدأ الاستخلاف وأثره في النشاط الاقتصادي.
- مبدأ عمارة الأرض.
عندها ستحكم النشاط الاقتصادي ومؤسساته القائمة على التوحيد، منظومة قيمية هي:
الأخوة، الحرية، الرحمة، العدالة، والحكمة…
تعين هذه المنظومة القيمية على تحقيق مقاصد الشريعة وهي:
حفظ الانسان و الدين والاقتصاد.
يحقق الانسجام بين التوحيد والأخلاق والمقاصد، الكفاءة للاقتصاد الإسلامي في فروعه المتعددة التنموية والنقدية والمالية، وسياساته الاقتصادية المتعددة، فيسهم في علاج واقع الأمة الاقتصادي والإسهام في حل مشاكل العالم الاقتصادية.
ثالثا- البعد المفاهيمي:
تلعب المفاهيم الدور الاساس في تحديد بنية العلوم وتميزها من حيث هي خلاصة لفلسفة الامة ولغتها وبالتالي خصوصيتها الحضارية. وإن من أولى مهمات نظرية العلم تحديد المفاهيم التي هي المقدمة الضرورية في تحديد تصورات العقل للعلم والممارسة العلمية والمعرفة والماهية.
إن المفهوم هو نتاج وعي العقل بالوجود والوحي في وحدتهما وجدلهما كذلك، وتعد المفاهيم الضوابط المهمة في تنسيق العلم والمعرفة وترتيب الافكار، إن بناء المفاهيم التي تؤسس لنهضة فكرية معاصرة هو الدليل العلمي والعملي عن عمق تفكير الامة الفلسفي، وهو الضرورة لتأسيس فكر اقتصادي جديد يساهم في نهضة الامة .
رابعاً- البعد التطبيقي: ويتمثل في الاتي:
- فهم المعطيات الفكرية للمدارس الاقتصادية القديمة في الحضارات الانسانية؛ أي يجب أن يكون لدينا معرفة عميقة بالنظريات الاقتصادية التقليدية والمعاصرة، بما في ذلك الاقتصاد الكلاسيكي و الكينزي، والنيوليبرالي، واقتصاد المعرفة. هذا الجهد يساعد على تحديد نقاط القوة والضعف في النماذج الحالية.
- وعي أسس الابتكار والإبداع: يجب أن نمتلك القدرة على التفكير خارج المتداول، وتقديم حلول جديدة للمشكلات الاقتصادية. الابتكار يمكن أن يكون في السياسات الاقتصادية، الأدوات المالية، أو حتى في طرق التفكير الاقتصادي.
- الاستدامة: يجب أن نركز على وعي التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة في إطار معطياتها التاريخية والمعاصرة، لأن الاقتصاد يأخذ في الاعتبار تأثيراته في البيئة والمجتمع، ويسعى لتحقيق توازن بين النمو الاقتصادي وحماية الموارد الطبيعية.
- وعي التكنولوجيا والمعرفة: إذ في عصر اقتصاد المعرفة، يجب أن تكون التكنولوجيا والمعرفة جزءاً أساسياً من الفكر الاقتصادي الجديد. هذا يشمل استخدام التكنولوجيا لتحسين الإنتاجية والكفاءة، وكذلك الاستثمار في التعليم والبحث والتطوير.
- الشمولية والعدالة: يجب أن يكون الفكر الجديد شاملاً ويأخذ في الاعتبار جميع فئات المجتمع. يجب أن يسعى لتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وتقليل الفجوات بين الأغنياء والفقراء.
- التفاعل مع التغيرات العالمية: يجب أن يكون الفكر الجديد مرناً وقادراً على التكيف مع التغيرات العالمية مثل العولمة، التغير المناخي، والتطور التكنولوجي، وتشكيل موقف حضاري من هذه القضايا .
- التعاون الدولي: يجب أن يشجع الفكر الجديد على التعاون الدولي والتكامل الاقتصادي بين الدول. هذا يمكن أن يساعد في تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل على مستوى العالم.
- التعليم والتوعية: يجب أن يكون هناك تركيز على التعليم والتوعية الاقتصادية. فهم الاقتصاد يجب أن يكون متاحاً للجميع، وليس فقط للخبراء والمتخصصين.
إن استيعاب الوحدة المنهجية للقران الكريم يعين العلماء على اكتشافات جديدة في حركة المجتمعات، لضبط المتغيرات الاجتماعية الناتجة عن حركة التاريخ وصيرورتها الحضارية. يمدنا القرآن الحكيم بالقدرة على بناء المفاهيم الجديدة والقوانين التي تفسر وتغير وتعيد بناء الظاهرة الاقتصادية، ذلك أنه كما نكتشف في الأرض والفضاء الكوني نظريات جديدة تحكم تطور واختلاف مناهج وسبل معارفنا، كذلك فإن تطور مناهج النظر للقرآن الحكيم من تحليل واستدراك لوحدته المنهجية العضوية، يمكن أن يعطي منظورات جديدة. فالقرآن يماثل الكون، كلما تغيرت مناهج البحث فيه، نكتشف مكنونات جديدة.
في إطار حركة التقدم التي يؤكد عليها القرآن الكريم فان النص القرآني الثابت يضم أشكالا مختلفة للوعي به، ولكل معطى علمي متميز، يؤسس لعلوم الكون والمجتمع المتعددة، إذ لم يعد لأسباب النزول الواردة في كتب الواقدي قادرة على العيش في العصر الحالي، ذلك أن القرآن الحكيم يتكشف اليوم عن مضامين علمية جديدة في معالجة احتياجات العصر على مستوى الإنسان والمجتمع والعالم.

التعليم المبني على القيم- نحو منظومة قيمية تربوية عربية
الدكتور سعيد أصيل- رئيس وحدة الدراسات التربوية والتعليمية
تعتبر القيم رأسمال المجتمعات؛ بها يحافظ كل مجتمع على خصوصيته، ويضمن تفرُّدَه على غيره، وبها يُنشئ ثقافته وحضارته التي تضمن له البقاء والاستمرارية.. إنها حصنه المنيع الذي يحافظ عليه وينقله عبر الأجيال في حاضره ومستقبله؛ الأمر الذي يرفع مسؤولية الجميع من أجل الحفاظ على تلك القيم بما يخدم الأفراد والجماعات.
وتُعد المنظومة التعليمية والتربوية الضمانَ الأسمى للقيم، والرافدَ الذي ينقلها من خلال المؤسسات والبرامج التي تعمل على تنشئة الأجيال تنشئة تربوية وتعليمية واجتماعية وثقافية وحضارية، تربط الماضي بالحاضر، وتستشرف المستقبل، وتعزز الوحدة الشاملة لبنياته، وتشيِّد اللَّبِنات الأساسية لتعزيز وتحفيز الجميع على الانتماء الحقيقي والولاء الصادق.
من هذا المنطلق، تواجه البلدان العربية تحدياتٍ جساماً في هذا السبيل لا سيما مع بروز التهديدات الجديدة والمتجددة التي تحاول تحييدها عن قيمها وأسسها القيمية؛ مما يُعرِّض هويتَها للتشتت والاستلاب والتشرذم والضياع…
فإلى أي حد يمكننا الحديث عن وجود منظومة تعليمية وتربوية عربية قائمة على القيم، تحفظ وجودها وتشكل قاعدة لبناء مجتمعي رصين ومتماسك مع ممارسة فعل الممانعة ومقاومة
التحديات المعاصرة؟. وما هي الأسس التي تُمكِّن من بناء هذه المنظومة؟، وما العراقيل التي تقف دون تحقيقها؟…
- الإطار المفهومي:
سنتوقف، في هذا الإطار عند مجموعة من المفاهيم التي تؤطر موضوعنا؛ وهي أساساً ثلاثةٌ: التعليم، التربية والقيم.
- تعريف التعليم:
يفيد التعليم في اللغة معنى معرفة الأمور والأشياء وإدراكها، كما يفيد: الفقه والإتقان…
جاء في “لسان العرب” لابن منظور: علم الشيءَ أعلمه علماً: عرفه. وعلَّمَهُ العلمَ وأعْلَمَهُ إياه فتعلمه. علم وفقه أي: تعلم وتفقه. ويقال: استعْلِمْ لي خبرَ فلان وأَعْلِمْنِيهِ حتى أعلمه، واسْتَعْلَمَنِي الخبرَ فأعلمته إياه.
وعلم الأمر وتعلمه: أتقنه. والعلم: نقيض الجهل، علم علما وعلم هو نفسه، ورجل عالم وعليم من قوم علماء فيهما جميعا.
وعالمه فعلمه يعلمه بالضم: غلبه بالعلم. أي: كان أعلم منه. والعلام والعلامة: النَّسَّابَة، وهو من العلم.[1]
ويعرف الراغب الأصفهاني العلم باعتباره “إدراك الشيء بحقيقته، وذلك ضربان: أحدهما: إدراك ذات الشيء. والثاني: الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له، أو نفي شيء هو منفي عنه.[2]
ويعرفه بعضهم بأنه: “نشاط تواصلي يهدف إلى إثارة دافعية المتعلم وتسهيل التعليم. ويتضمن مجموعة من النشاطات والقرارات التي يتخذها المعلم أو الطالب في الموقف التعليمي، كما أنه علم يهتم بدراسة طرائق التعليم وتقنياته وبأشكال تنظيم مواقف التعليم التي يتفاعل معها الطلبة من أجل تحقيق الأهداف المنشودة”.[3]
ومن تمَّ يرمي التعليمُ تحصيلَ المعرفة وزيادتها لدى المتعلمين، على المستويات المتعددة: المعرفية والعقلية والحركية والوجدانية، وغيرها؛ وذلك من أجل أهداف معينة ومقصودة يهدف المعلم الوصول إليها في هذه العملية، ووفق استراتيجية محددة…
- مفهوم التربية:
تشير كلمة تربية في اللغة العربية إلى التنشئة والنماء والتهذيب والنمو والزيادة والرعاية والقيادة والسياسة؛ ومنها: ربا المال أي زاد ونما، وربَا الرابِيَة علاها، وربا العجينُ: أي علا وانتفخ بعد اختماره، وربا السُّوَيْقَ: صب عليه الماء فانتفخ، وربا الولد في بني فلان: نشأ وترعرع. وربَّى الأب ابنه: أي هذبه ونمّى قُوَاه الجسمية والعقلية والخُلقية[4]…
أما في الاصطلاح فتشير، في أبسط وأعم معانيها، إلى عملية بناء وتنشئة وتكوين وتعليم إنسان ما –أو كائن ما- من أجل إدراك مجموعة من المعارف والقيم والسلوكات، وغيرها، والعمل على تطويرها وتنميتها[5]؛ فهي بذلك نقلة من طور إلى طور، ومن مستوى ووعي معين إلى ما هو أفضل وأكمل وأحسن منه، وذلك بواسطة شخص مدرِك عارِف ومجرِّب.
ويعرف معجم (لالاند) (Lalande) التربية (Education) بأنها: سيرورة تستهدف تحقيق النمو والاكتمال التدريجيين لوظيفة أو لمجموعة من الوظائف عن طريق الممارسة. وتنتج هذه السيرورة، إما عن الفعل الممارَس من طرف الآخر (وهذا هو المعنى الأصلي والأكثر عمومية)، وإما عن الفعل الذي يمارسه الشخص على ذاته[6].
كما تفيد التربية، في بعض معانيها، “سلسلة من العمليات يدرب من خلالها الراشدون (الآباء عموماً) الصغارَ من نفس نوعهم ويسهلون لديهم نمو بعض الاتجاهات والعادات”[7].
كما أن التربية “عملية متكاملة و دينامية، تستهدف مجموع إمكانات الفرد البشري (وجدانيـة وأخلاقية وعقليـة وروحية وجسدية)، حسبLegendre .R، وكذلك نشاط قصدي يهدف إلى تسهيل نمو الشخص الإنساني وإدماجه في الحياة، كما حددها Laeng.M[8].
إن التربية عبارة عن عملية قصدية، تتم ممارستها، من قبل شخص أو مؤسسة في سبيل هدف أساسي نرمي من خلاله تنمية مجموعة من القوى والمهارات العقلية والجسدية والنفسية والاجتماعية… من أجل طرف آخر، قد يكون طفلا/ متعلما/ شخصا ما أو مجموعة معينة نستهدف جوانب من شخصيتها حتى تغدو مشاركة ومساهمة ومندمجة في مجتمعها أو محيطها الخاص والعام.
ويُضاف إلى ما سبق أن التربية يمكن أن تكون ذاتية؛ أي أن الإنسان يمكنه أن يمارس عملية التربية على ذاته من أجل تنميتها وتطويرها والرقي بها نحو الأفضل؛ سواء في المعارف والمعلومات أو في “التزكية” والتنمية الوجدانية والروحية…
ويتقاطع التعليم مع التربية، مما قد يوقِع في الخطأ والخلط.
إن التعليم يمثل جزءاً من التربية، والتربية تشمل التعليم، والعكس غير صحيح.
من هنا تغدو التربية عملية كاملة متكاملة، هدفها تنمية جميع القوى والملكات والجوانب لدى الفرد…
بينما يعتبر التعليم جزء من العلمية التربوية الشاملة، يستهدف تطوير وتنمية عقل الفرد حتى يتمكن من اكتساب المعارف والمعلومات والمهارات التي يحتاجها في حياته ودراسته وأشغاله ومهنته أو حرفته، وجعله ذا دراية بالخبرات المطلوبة لديه، ونحو ذلك. كما أن التربية لا تلتزم بسن أو عمر محدد، بل هي تنمية وسيرورة مستدامة، تستمر مدى الحياة…
ويعرف الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) التربية على أنها “إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام”[9]؛ مما يُكسِبه درجة “الكمال الطبيعي” من خلال تجاوز النقص الحاصل لديه وفي
شخصيته بمختلِف جوانبها عبر عملية مقصودة تسير وفق سيرورة هادفة متدرجة. ولعل هذا هو المفهوم العام للتربية في الفكر الإسلامي، نظرياً وتطبيقاً وممارسة.
وهذا الأمر يحدد فارقاً أساسياً بين مفهوم التربية عند المفكرين المسلمين وعند مفكري الغرب الذين اعتمدوا “القراءة الاجتماعية والمقاربة السوسيولوجيّة للعملية التربوية، والتي دفعتهم إلى الخلط بين التربية والتنشئة الاجتماعية والتكيّف الاجتماعي، فقصروا مهمّة التربية على إعداد الفرد المتكيّف اجتماعيًّا مع ما يريده المجتمع الذي يحيا فيه، وبذلك غفلوا عن أنّ وظيفة التربية الحقّة ليست التطبيع مع الواقع القائم بالفعل، بل المشاركة في إحداث التغيير في الوضعيّات المطلوبة في بيئة المتربّين لبناء مجتمع أفضل”.[10] هذا “الأفضل” المتمركز حول دوام الاشتغال والتنمية والتطوير للإنسان ولـ”ذاته” حتى يبلغ حد “الانتهاء” في كماله وغايته.
- مفهوم القيم:
جاء في “لسان العرب” لابن منظور: أَقمْتُ الشيء وقَوَّمْته فَقامَ بمعنى اسْتقام، والاسْتِقامة اعتدال الشيء واسْتِواؤه. واسْتَقامَ فلان بفلان أي مدَحه وأَثنى عليه. والقَوامُ: العَدْل؛ قال تعالى: وكان بين ذلك قَواماً…
واستقامَالشِّعر اتَّزَن. وأمرٌ قَيِّمٌ: مُسْتقِيم. وفي الحديث: أتاني مَلَك فقال: أَنت قُثَمٌ وخُلُقُكَ قَيِّم أي مُسْتَقِيم حسَن. والدين القَيِّمُ: أي المستقيم الذي لا زَيْغ فيه ولا مَيْل عن الحق. وقوله تعالى: (فيها كُتب قيِّمة)؛ أَي مستقيمة تُبيّن الحقّ من الباطل على اسْتِواء وبُرْهان… وقوله تعالى: (وذلك دِين القَيِّمة)؛ أَي دين الأُمةِ القيّمة بالحق، ويجوز أَن يكون دين المِلَّة المستقيمة. والقَيِّمُ: السيّد وسائسُ الأَمر. وقَيِّمُ القَوْم: الذي يُقَوِّمُهم ويَسُوس أَمرهم[11].
ويمكننا حصر التعريف اللغوي للكلمة في معاني الاستقامة والاعتدال والاستواء ولزوم الحق والتقويم، وغيرها… وكلها معان تحمل دلالات إيجابية، وتسعى إلى الاشتغال على
الشيء أو الإنسان من أجل الوصول إلى غاية أفضل تستهدف نقله نحو الأحسن والأتمِّ والأكملِ…
أمّا اصطلاحاً؛ فإن مفهوم القيم يختلف ويتعدد باختلاف وتعدد وجهات نظر العلماء والتربويين، وزوايا نظرهم للقضية والموضوع، بالإضافة إلى اختلاف بيئاتهم ومنطلقاتهم.
وعموماً، يمكننا اعتبار القيم مجموعة من المبادئ والمقاييس والمعايير التي تحكم أفكار الإنسان ومعتقداته واتجاهاته، وتؤثّر في حياته؛ لتمثّلها في سلوكاته العمليَّة وتصرّفاته.
إن لفظة “القيمة” أو لفظة “القيم” تعتبر من الألفاظ ذوات المدلول الغني من حيث الدلالات. ويميز لالاند Lalande في موسوعته14 بين أربعة معانٍ مختلفة تعود إلى أربعِ خاصياتٍ للأشياء، وتقوم على:
أ– “كون هذه الأشياء تلاقي، إلى هذا الحد أو ذاك، تقديراً أو رغبة شخص، أو بصورة أكثر عادية، جماعة معينة من الأشخاص”؛
ب-“كون هذه الأشياء تستحق هذا القدر أو ذاك من التقدير”؛
ج– “كونها تلبي غرضاً معيناً”؛
د– “واقع جماعة اجتماعية معينة، وفي لحظة معينة، يجري تبادلها ومحددة من سلعة تتخذ كوحدة”.
وهي أيضاً صفاتٌ ومعانٍ قد تكون فكرية أو سلوكية، وهي ذاتية وثابتة ومطلقة، لا تتغير باختلاف من يصدر الحكم عليها.
كما تُعَرَّفُ القيم باعتبارها معياراً، ذا بعدٍ إنساني، لمعرفة الصالح من الفاسد. إنها “جملة المقاصد التي يسعى القوم إلى إحقاقها متى كان فيها صلاحهم، عاجلاً أو آجلاً، أو إلى إزهاقها متى كان فيها فسادهم، عاجلاً أو آجلاً”.[12] وحتى إن اختلفت بين قوم وقوم فإنها أحياناً قد تعرف اختلافاً، وعدم اتفاق، بين أفراد القوم الواحد. لكنها -مع ذلك- تسعى إلى إيجاد المشترَكِ الذي يعمل على توحيد مجموعة، أو مجموعات، معينة.
كما أن القيم، من حيث المبدأ عموماً، “توفر للمرء صيغة سلوكية تعفيه من مغبة التناقض والصراع وتقوده إلى العفوية. وهي حلول دائمة للمواقف التي تواجه المرء في مسيرة حياته لأنها تبين له المسارات الصحيحة للسلوك والحياة والمفاضلات القائمة في شتى ميادين الحياة”[13]
- نحو استراتيجية عربية فعالة في بناء منظومة القيم والتربية عليها:
إن القيم، كما يقول زكي نجيب محمود، “تقوم في نفس الإنسان بالدور الذي يقوم به الرُّبَّان في السفينة؛ يجريها ويُرْسِيها عن قصد مرسوم وإلى هدف معلوم، ففهم الإنسان على حقيقته هو فهم القيم التي تُمْسِك بزمامه وتوجهه”.[14] وهو ما يمكن أن يحد من التناقض الذي يعيشه الكثيرون، ويدفع إلى التأمل في الأمور ومآلاتها ومساراتها، والتوقف طويلاً عند السلوك الذي نرغب في ممارسته والقيام به قبل عملية الفعل.
من هذا المنطلق يبرزتَحَدٍّ كبيرٌ يواجه القيم العربية لا سيما في ظل تدخل عناصر أخرى أشد تأثيراً؛ وهي تلك المرتبطة أساساً بقيم الثقافة الغربية والعولمة لاسيما في ظل التحولات والتطورات التكنولوجية المتسارعة؛ مما يشكل خطراً على قيمنا العربية ويدعو إلى إيجاد استراتيجيات جديدة ترنو التعامل مع هذه المستجدات بروح نقدية متجددة وواعية، وبأدوات ناجعة تحافظ على هذه القيم التربوية الأخلاقية الوطنية والتربوية والدينية والبيئية والجمالية وغيرها، والعملَ على بناء منظومة تسعى إلى إنشاء وتنمية سلوك إنساني لهذا المواطن/ التلميذ/الطالب العربي.
إن القيم ضرورية للإنسان على أساس أن هذا الأخير “لا يمكن أن يكف عن التعلق بالمثال ونشدان الكمال في عالم الواقع، وأنه لا يمكن أن يستغني عن خالقه سبحانه الذي هو مصدر الكمال، أو بتعبير فلسفي؛ لا يمكن للإنسان المحدود أن يستغني في وجوده عن الوجود اللانهائي الذي هو الحق المطلق. وأن هذا التعلق الفطري لدى الإنسان بما فوق
وجوده هو ما يجعله يستشعر أنه مسؤول عن كل أفعاله وأمام محكمة ضميره على الأقل”[15].
إن كل عمل ننجزه لابد أن تكون له غاية. وهذه الغاية كثيراً ما تكون هي المحدد لأهمية ما نقوم، أو سنقوم به، مما يعطيه قيمة.. هذه القيمة تكون مُقدَّرَة؛ وبالتالي فإننا نضع قيماً عليا تحدد اشتغالَنا وتصرفاتِنا وأعمالَنا، وأحياناً منطلقاتنا الفكرية والعقلية والأخلاقية.
ومهما اختلفت المنطلقات والمرجعيات التي تقارب قضية القيم لا سيما بعدما طرأ عليها وعلى مفهومها ما قد يُضيِّق أو يُوَسِّعُ في هذه الفلسفة أو تلك، لكن يبقى الاتفاق على وجود قيمة معينة، وأن هذه القيمة -أو القيم- ضرورة وحاجة إنسانية ملحة تعيش معه ويظل في حاجة إليها؛ يطلبها من أجل منفعة خاصة أو عامة، قريبة أو بعيدة…
“إن كثرة المذاهب الأخلاقية وتعددية القيم إنما يخفيان سعيَ الإنسان الحثيث لتكريس قيم موجودة، وجديرة بالاحترام؛ فهناك قيم واحدة في نهاية المطاف إلا أن التعبير عنها والإحساس بها وتحديد المنهج الأوفق للحفاظ عليها يختلف بين عصر وآخر، وبين مجتمع ومجتمع. وإذا كان من الملاحظ أن لكل المذاهب والتيارات الفكرية والحركات الاجتماعية، فضلاً عن الأنماط الثقافية، غاياتٍ عليا تستهدفها فإن الإنسان يواجه باستمرار هذا الخيار الصعب بين منهج أخلاقي وبين منهج آخر، وبين أن ينساق للهوى وبين أن يلتزم بالحق، وإن تعارض مع هواه. وكما أنه ليس في استطاعة أي إنسان أن يتحرك في بعديْن أو يسير في اتجاهيْن في وقت واحد فكذلك لا يستطيع أي إنسان أن يعمل وفق نسقيْن أخلاقيَّيْن مختلفيْن أو يوائم بين ثقافتين متعارضتين في قيمها الأساسية كأن تكون إحداهما ثقافة مادية صرفاً والأخرى ثقافة روحية صرفاً.
لابد من التمييز، إذن، بين القيم الثابتة أو المرجعية التي تعد المثل الأعلى لكل سلوك إنساني، بصرف النظر عن عقيدته أو جنسه أو ثقافته، وبين القيم المتغيرة التي
تفرزها كل ثقافة أو حضارة بحسب دواعي التطور العقلي أو العلمي أو الاقتصادي”[16].
إن الملاحظ، اليوم، أن “المدرسة بوضعها الحالي هي نتاج التنظيم الإداري الغربي والقيم الغربية، التي فصلت بين ممارسة الحياة المهْنية وبين تحصيل المعرفة لسنوات طويلة” [17]، ومن تم حدث هذا الانفصال المريع بين ما يتم تعليمه وتعلُّمُه، من جهة، وبين السلوك، من جهة ثانية، وذلك في ظل البراغماتية النفعية التي تجعل “الغاية تبرر الوسيلة”، والتي تهتم بالحصيلة المادية لكل سلوك أو نشاط، كيفما كان.
يضاف إلى ذلك، وعلى المستوى التربوي تحديدًا، عندما نحصر التربية في المجال الأسري أو التعليمي مثلًا هناك نظام يحدد العلاقات الأسرية بين الأهل والأبناء، بين الاحترام والطاعة والبر، وبين السلطة والعاطفة والإحسان، بحيث يكون البعد الديني والهاجس الديني التربوي هو كيفية تنشئة الأولاد في داخل الأسرة تنشئة تهيئهم لتحقيق كمالهم الإنساني لاحقًا، وبحيث يتربى الأولاد على أن بر الوالدين هو الطريق الذي يؤدي إلى الكمال الإنساني لاحقًا، وهذا لا نشهده في أي تربية معاصرة ولا في أي نظرية من كل نظريات المفكرين التربويين الغربيين على اختلاف شهرتهم وأسمائهم والعصور التي مروا بها، ويكفي أن نذكر ما تعيشه المجتمعات الغربية اليوم على المستوى الأسري والعائلي لكي ندرك أهمية هذا البعد الديني في الواقع التربوي، وهذا طبعًا يؤدي إلى سلوك مختلف في المجتمعات.
لقد أصبحت الحاجةُ ماسةً، اليوم، إلى تدخل القيم في مجالَيْ التعليم والتربية لا سيما في ظل هذا العنف وهذا التغيير الذي نلحظه في المؤسسات التعليمية مما انعكس على التحصيل الدراسي لدى الطلاب بل في الحياة العامة كلها…
ولعل هذه التغيرات هي التي دفعت العديد من الدول والحكومات والمؤسسات والهيئات المدنية والشخصيات الفاعلة إلى دق ناقوس الخطر والانتباه إلى ضرورة إعادة النظر في التعليم والتربية على القيم.
من هنا جاء تأكيد “المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي” في المغرب مثلاً -كما في غيره- على التربية على القيم، وتخصيص ندوات ولقاءات وكتبٍ لدراسة هذا البعد المهمِّ في الحياة المدرسية في علاقتها بالحياة العامة؛ حيث أكَّد، في مقدمة تقريره الأول الصادر في يناير 2017، على أن التربية على القيم تشكل “رافعة أساسية لتنمية وتأهيل الرأسمال البشري”، حيث “تكتسي القيم والتربية على فضائلها أهمية قصوى بالنسبة للمجتمع، لكونها تعتبر أحد مرتكزات الحياة الإنسانية في جانبيْها الفردي والاجتماعي، وهي مسؤولية متقاسمة تضطلع بها المدرسة، إلى جانب الأسرة ووسائل الإعلام، وباقي المؤسسات التي تؤدي وظائف ذات صلة بالتربية والتثقيف والتأطير”[18]. وهو يبرز الدور الذي يمكن أن تؤدي المؤسسة التعليمية في هذا المجال، صحبة باقي المؤسسات الأخرى، بل إن “التربية على القيم تشكل مكوناً مهيكِلاً لبنية وظائف المدرسة، ولا سيما وظيفتها المتعلقة بالتنشئة الاجتماعية والتربية والتثقيف، عن طريق الممارسة والقدوة، ذلك أن المدرسة فاعل اجتماعي وثقافي وقيمي، وإحدى آليات الإدماج الاجتماعي والثقافي للمتعلمين والمتعلمات، وتقوية الروابط الاجتماعية، وتحقيق تماسك المجتمع. إلى جانب كونها وظيفة أفقية للمنظومة التربوية لا يمكن عزلها عن باقي الوظائف المناطة بها. كما أنها أحد أركان المنهاج المدرسي الهادف، علاوة على التشبع بالقيم، إلى التمكن من اللغات والمعارف والكفايات”[19].
ترمي المدرسة، وجميع المؤسسات التعليمية والتربوية، بناءَ شخصية متعلمة تستطيع أن تمتلك مجموعة من المهارات؛ منها ما هو معرفي -وهو أساسي- ومنها ما هو مرتبط بالتفكير النقدي، ومنها ما يجب أن يتحوَّل إلى سلوك يؤشر على
وجود شخصية متوازنة متكاملة بُنِيَتْ عبر سيرورة تعليمية وتربوية ترتكز على القيم الوطنية والدينية والاجتماعية والإنسانية…
إن تخليق الحياة وتخليق “الفضاء العام” مرهون ببناء شخصية أخلاقية سوية تؤمن بالقيم وأهميتها وضرورتها، وتعمل على تنمية الاتجاهات السلوكية البَنَّاءة التي تخدم شخصية الفرد في الوقت نفسه الذي تؤهله فيه ليكون عنصراً فاعلاً وفعالاً في بناء مجتمعه ووطنه، بل والعالم الذي يعيش فيه، ويساهم بقدر معين -وحسب طاقته- في تنميته وتوجيهه نحو القيم الإنسانية العليا.
أما تعديل وتغيير المقررات الدراسية التعليمية والمناهج التربوية فيبقى رهيناً بأفقين أساسيين:
- الأول: تضمين القيم العربية الإنسانية الإيجابية لدى المتلقي المتعلم؛
- والثاني: الاشتغال على وضع برامج دقيقة وفق معطيات وأهداف ترمي إكساب المتعلم المهاراتِ والخبراتِ التي يحتاجها للتفاعل السلوكي مع ذاته ووسطه ومجتمعه، بل ومع العالم المحيط به بمختلف عناصر (ونخص بالذكر هنا التعامل مع تحول التكنولوجيا التي تُسَرِّبُ قيماً وأخلاقاً غير أخلاقنا، بل هويات “متشظية” متناقضة مع هويتنا) …
يضاف إلى ما سبق، أهمية ودور النصيحة -وهو ما لا يمكن أن ينكره أحد- في توجيه سلوك الأطفال، بل وحتى الكبار، لكنها غير كافية؛ إذ أن بناء القيم وتعليمها يرتكز أساساً على المحاكاة وعلى القدوة وعلى الفعل قبل القول؛ مما يرفع من مسؤولية المعلم المربي وضرورة وَعْيِهِ بما يقوم به وما يريد أن يُكسِبَه من مهارات للمتعلمين تُتَرْجَم إلى سلوك عملي نفعي قائم على القيم.
يبدأ تعليم القيم والتربية عليها، أساساً، في البيت من خلال عمليات التقليد والمحاكاة للآباء والإخوة والمحيط الذي يعيش فيه هذا الطفل؛ الأمر الذي يُحَتِّم الانتباه عند ممارسة أي سلوك أو التلفظ بكلمة أو كلمات، مع استحضار هذه الأبعاد كلها.
تبدأ التربية على القيم، إذن، في هذا السن المبكر الذي يجعل الطفل يتشرب القيم السائدة التي حوله. ويأتي بعدها دور الروضة والمدرسة وما يستتبعهما…
- القدوة والأسوة؛ إذ أن الإنسان مولع بتقليد من معه والتأثر بمن حوله، لا سيما في بداية حياته وطفولته؛ وهي الفترة الأهم التي تُبنى فيها شخصيته.
إن تعليم قيمة معينة والدعوة إلى التخلق بها لن يكون ذا جدوى إذا لم يكُنْ سلوكاً تطبيقياً يمارسه المعلم المربي، بل سيغدو دافعاً للنفور من هذه القيمة واعتبارها مجرد كلام للاستهلاك والتعلُّم لغاية امتحان المادة المدرَّسَة؛
- الوعي بالأهداف والمهارات المطلوبة والمراد التعليم عليها؛ وهو ما يتطلب تفكيراً عميقاً لدى المربين والمعلمين والأساتذة الذين يقومون بدور تمرير القيم لغيرهم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ مما يبين الحاجة إلى وضع أهداف استراتيجية عامة وإجرائية أثناء ممارسة أي عمل أو سلوك؛
- اختيار الخطاب الخادم للأهداف والمهارات المطلوبة؛ ذلك أن لكل متلقٍّ ولكل سياق الخطاب الذي يناسبهما، مما يدعو إلى أن يكون هذا الخطاب متلائماً ومُنْتَقىً بحرص ووعيٍ شديدين حتى يحقق المطلوب، ولا ينفِّر فترتدَّ الأمور إلى عكسها…
ويحتاج هذا الأمر إلى ضبط آليات الخطاب والتخاطب في المنظومة التربوية والتعليمية العربية حتى ينسجم مع الأهداف المطلوبة والقيم المستهدَفة، وحسب الفئات والأعمار… وهو ما يمكن أن يطلع به الخبراء التربويون لا سيما عند وضع البرامج والمقررات المدرسية والجامعية في بلادنا العربية، بعيداً عن الاستلاب وعن الجمود ونسخ النماذج من هنا أو هناك.
- عوائق التعليم المبني على القيم والتربية عليها:
ما الذي يهدد، إذن، التعليم في علاقته بالتربية على القيم ويعيقه؟:
يتعرض التعليم ببلداننا العربية اليوم إلى مجموعة من التحديات والتهديديات التي تعمل على تشويهه وتحريفه عن مساره الذي نصبو إليه؛ وهو تحقيق نهضة وإقلاع عربيين يعيدان للوطن العربي مجده ومكانته بين الأمم والأوطان الأخرى، ويحولان دون مزيد من التخلف والتقهقر في عالم يشهد قفزات نوعية مطَّرِدة.
ومن بين تلك العوائق والتحديات نذكر ما يلي:
- التناقض الحاصل، في المجتمع، بين القيم التي تُدَرَّس وتُعلَّم وبين الممارسة الشائعة بين الناس في علاقاتهم مع ذواتهم ومع بعضهم البعض؛ مما يطرح أسئلة كثيرة على الطفل والبالغ وغيرهما، حول مصداقية ما يتلقى. الأمر الذي يُحدِث أثراً سلبياً على فهمه وإدراكه، وارتباكاً في شخصيته، التي ستنمو -حتماً- مضطربة وغير متوازنة ولا سَوِيَّة؛ مما قد يؤدي إلى انفصام سلوكي خطير؛
- عدم إشراك الفاعلين الأساسيين في الفعل التربوي والتعليمي؛ ونخص بالذكر الأساتذة والأطر الإدارية التربوية والمفتشين والتلاميذ والطلبة وأولياؤهم، في عملية إصلاح المنظومة التعليمية والتربوية وقضاياها ومشاريعها وبرامجها؛ مما يشكل خللاً كبيراً ويحرم من كفاءات وآراء ومقترحات فاعِلة في المجال؛
- إقحام أشخاص ومنظمات وجمعيات بعيدة عن مجال التربية والتعليم، بل مقحَمَة عنوة في تدبير أزمات ومشاكل التربية والتعليم، ضمن أهداف سياسية (أو سياسوية) تخدم ما لا علاقة له بتطوير المجال والبحث عن حلول حقيقية وقابلة للتطبيق والأجرأة؛
- وجود تعدد في المؤسسات التعليمية القائمة على مناهج تعليمية مختلفة؛ بعضها تابع لمناهج أجنبية مختلفة تماماً، في قيمها ومنطلقاتها القيمية والأخلاقية والثقافية والفكرية، عن القيم العربية؛
- وجود قصد لدى مجموعة من الهيئات والمؤسسات لضرب القيم المجتمعية العربيّة من خلال إنتاج جيل منفصل عن وطنه وقيمه وثقافته وتاريخه ومبادئ مجتمعه (برامج تعليمية ومقررات تضرب عمق الوحدة المجتمعية في صميمها: تدريس تاريخ بلدان غير عربية والتركيز على ثقافتها الحاملة لقيمها)، التربية الجنسية (من خلال إعادة تعريف مفهوم الأسرة مثلا)، القيام بأنشطة تتخللها سلوكات منافية للقيم
المجتمعية العربيّة السائدة، منع ممارسة الشعائر الإسلامية أو المسيحية بدعوى العلمانية، وغيرها من الدعاوى غير الصحيحة والمعلنة بضد ما تتم ممارسته في مناسبات متعددة؛
- حضور القيم الوطنية والاجتماعية والدينية والأخلاقية بشكل محتشم في مقابل شيوع قيم أخرى مناقضة، بدأت تتسلل عبر وسائل التواصل والإعلام وداخل صفحات الإنترنت والمسلسلات والأفلام والبرامج بشكل أكبر، بل بهيمنة لافتة ومثيرة؛
- تتم عملية تغيير المناهج والمقررات التعليمية والتربوية في عالمنا العربي بشكل سريع مما يؤشر على غياب رؤية استراتيجية تربوية وتعليمية بعيدة المدى في إطار مشروع وطني يعرف ما يريد ويحدد الرؤية والأهداف والوسائل، بل كثيرا ما تتم هذه التغييرات تحت ضغوط منظمات دولية أو دول لأهداف أصبحت معروفة لا سيما بعد تدخل مسؤولين وخبراء غير عرب وبعيدين عن معرفة حاجات البلدان العربية الواحدة، بل إن الملاحظ أن أكثر هؤلاء يأتون من بلدان غربية، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، حاملين أجندات معروفة لدى الجميع؛
- غالبا ما تكون القيم الكبرى هي المستهدفة الأولى من عملية التغيير تلك بحجج متعددة وواهية؛ نذكر من بينها ضرورة ملاءمة المناهج التعليمية العربية لـ(القيم) العالمية والمعاهدات الدولية ومقررات الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها أو تحت توصيات مؤتمرات طارئة ومشبوهة؛ مما يؤدي إلى “ضبابية” المرجعية وتناقضها ضمن المنظومة التعليمية والتربوية للبلد الواحد، وفي الوطن العربي كله، خاصة في ظل التأكيد على “القيم الفردية” وإعلاء شأنها على حساب القيم الجماعية والإنسانية الكبرى…
- سؤال المرجعية في التربية على القيم العربية:
يبقى أمامنا سؤال المرجية التي يمكننا بواسطتها مقاربة سؤال القيم في حالتنا العربية(!).
لابد أن تكون لنا مرجعية تشكل نقطة الانطلاق في هذه المقاربة؛ ولعلها المرجعية الثقافية التاريخية لمجتمع معين، وهي المرجعية التي أكدت تمسك هذا المجتمع أو ذاك ردحاً من الزمن، وشكلت لُحْمَة بنائه والمحافِظَةِ على سيرورته وحياته وبقائه.
وفي حالتنا العربية، تبرز المرجعية التاريخية الثقافية والحضارية الإسلامية التي شكلت وَعْيَ ولاوَعْيَ الإنسان العربي، وضمنت تلاحم نسيجه، (بل ضمنت حتى حياة وعيش غير المسلم في البلاد الإسلامية؛ محافِظةً على خصوصيته وعقيدته وثقافته). وقد امتدت هذه المرجعية محافظة على مبادئها وقيمها العامة والأصيلة، ولم تبدأ في التصدع، بشكل قويٍ، إلا مع الاستعمار وما بعده، إلى حدود اليوم. ولذلك فإن محاولات تغيير هذه المرجعية وتعويضها بمرجعية/ مرجعيات أخرى لم تنجح، بل ساهمت في خلخلة بنية المجتمع العربي والإنسان العربي، تارة بشكل مباشر وأخرى بشكل غير مباشر، وقدمت لنا بناء جديداً عشوائياً مضطرباً ومشوَّهاً، إلى الحد الذي بدأ يفقد فيه عناصرَ بنيانه ذاك، بل شخصيتَهُ المتميزة.
إن بنية هذه القيم والأخلاق الإنسانية الإسلامية بنية متماسكة ومترابطة الأركان والعناصر، خاصة أن مصدرها الأول إلهي، وهو ما يؤكد فطريتها وشموليتها الإنسانية وتجدرها؛ مما يجعل أغلب الناس متفقين على أسسها ومبادئها ومقاصدها العامة، ولكنها مع هذا كله محتاجة إلى مؤسسات تحافظ عليها، وتضمن بقاءها، وتسعى إلى تربية الأفراد والجماعات عليها، وتعليم قواعدها ووسائل التخلق و”الالتزام” بها؛ ومن ثم الدفاع عنها من خلال الممانعة والحصانة التي يمكن أن تقف في وجه المد الاستهلاكي اللاأخلاقي واللا تربوي الذي يهددها ويسعى إلى زعزعتها وإحلال “قيمـ”ـه مكانها…
إن القيم الحضارية العولمية الغربية التي يُراد لها أن تسود تحت شعار “العالمية” أو “الكونية” الجديدة المفروضة اليوم، بالقوة الصلبة أو الناعمة، في الحقيقة لا مرجعية لها، بل هي بدون مرجعية إنسانية؛ هي مرجعية “اللامرجعية”؛ فأوروبا “المسيحية”، في عمومها، تخلت تدريجيا عن قيم المسيحية، بل ناقضتها، كما أنها لا بودية ولا يهودية ولا أي شيء.. إنها “قيم” جديدة طارئة انْبَنَتْ على ما يمكن أن نسميه بانتكاس الفطرة الذي أبعد القيم الإنسانية المؤطِّرة لإنسانية الإنسان والضامنة لعيشه المشترك ولبقائه واستمرار نسله إلى قيم ذات مرجعية استهلاكية ليبرالية متوحشة؛ تُوضَعُ أُسُسُهَا وتُقَعَّدُ على أساس أن الإنسان، اليوم، كائن استهلاكي ولا شيء غير ذلك؛ وهو ما يقوم به مفكرو “الإدارة العالمية” الساعين إلى تنميط الإنسان وفق القيم التي يريدون، والتي هم في حاجة إليها
حتى تُستَهْلَكَ بضائعهم؛ ليس فقط المادية بل غيرها كثير، بما في ذلك بيع “المتعة” والرفاهية الزائفة، وما يتصل بهما.
وتزداد أهمية دراسة القيم ومقاربتها في ظل تأثير العالم التقني والرقمي المعاصر وفي ظل العولمة، وما ترتب عنها من نتائج، وما فرضه المتحكمون فيها من ثقافة جديدة وطارئة على كثير من الدول والمجتمعات إلى الحد الذي جعل البعض يدعو إلى الفصل بين عالم القيم والمدرسة أو المؤسسة التعليمية والتربوية على أساس أن دور هذه الأخيرة يجب حصره في مجال تعليم العلوم والمعارف والتقنيات الجديدة… وهنا يطرح السؤال من سيعلم النشء القيم ويربيهم عليها(!)، وأين هو دور المؤسسات التعليمية والتربوية؟.
يستدعي هذا التحدي الكبير تفكيراً عميقاً وإيجابياً في طرق الدراسة والتعامل وتحييد المزايدات المختلفة والمتعددة التي تتدخل في هذا الشأن أو لها علاقة، قريبة أو بعيدة، بالمنظومة التعليمية وبموضوع القيم فيها.
إن الخلل الفظيع الذي نلاحظه ونعيش تبِعاتِه وأطوارَهُ اليوم، في ظل العولمة، هو دعوات بعض المحسوبين على “الحداثيين” إلى بناء قيم عالمية موحدة تتأسس على الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي يُراد لها أن تكون قيماً تُفرَض على الجميع، وبجميع الطرق والوسائل، بدعوى توحيد المرجعيات المختلفة والمتناقضة والهويات المتعددة في مرجعية وهوية عالمية كونية واحدة ووحيدة؛ ومن ثم القضاء -حسب هذه الدعوى- على تبعات التعصب للخصوصيات والهويات المتعددة، سواء كانت دينية أو عرقية أو غيرها، التي تؤجج الحروب والصراعات وتتقمص مظاهر العنف المتعددة…
إن هذه المنطلقات يتحدد فشلها وعدم مصداقيتها في التجارب الحديثة والمعاصرة لأنها، أساساً، نابعة ومنطلقة من مرجعية واحدة غربية تريد أن تسود وتسيطر وتهيمن؛ وبالتالي تقضي على كل ما، ومَنْ، يخالفها. وتتخذ منطق الغلبة والقوة وسيلةً لفرض نفسها على الجميع (ولنا في الحروب الأخيرة التي شُنَّت على العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين (آخرها الإبادة الصهيونية لشعب غزة) وغيرها خير مثال على هذا التبجح والنفاق الأخلاقيين).
لا بد من التأكيد، في هذا المقام، على أن الإنسان العربي -رغم ما يعيشه من تخلف عام في مجتمعه وواقعه- يبقى “هنالك ضميره التاريخي الثاوي في أعماقه والحالُّ في
اللاشعور الجمعي لأبناء الأمة العربية. وذلك الضمير التاريخي يظل يرمق هذا الإنسان العربي ويشده إليه رغم ابتعاده عنه في حياته الواقعية، لأسباب تتجاوزه (…).
ومن هنا نستطيع القول إن كثيراً من القيم العربية الإسلامية الكبرى (الإيجابية) ما تزال صوًى مضيئة تلمع في الأفق ينجذب إليها الإنسان العربي إجمالاً، كما ينجذب الفراش إلى النور”[20]، حيث تبقى منغرسة في وجدانه، مهما ابتعد أو اقترب منها؛ مما يحتم أخذ هذا المعطى بكثير من الاعتبار واستحضارَهُ عندما نفكر في وضع أو تخطيط استراتيجية تربوية وتعليمية عربية، سواء بشكل عام أو بشكل قطري منفرد…
إن التعليم القائم على القيم سلاح تربوي تأسيسي لتصحيح المسار الفردي والجماعي للمتعلمين، أجيال الغد والمستقبل، من خلال استثمار المقررات المدرسية والمناهج التعليمية البانية لهذه القيم والمحافِظة على المبادئ الكبرى والعامة للمجتمعات العربيّة، ومنظومتها الثقافية والفكرية والقيمية…
كما أن هذا التعليم سيكون حافزاً في سبيل الحفاظ على الأمن الفكري والقيمي لبلدان الوطن العربي في حدها الأدنى المشترك، على الأقل، بما يحمي من الغزو الأجنبي الشرس الذي تضاعف في العقود الأخيرة…
وفي ظل هذه الطموحات وتلك التحديات، نختم مقالنا بمجموعة من التوصيات التي ترمي إلى بناء منظومة تعليمية وتربوية قائمة على القيم:
- العمل على امتلاك المتعلمين، في بلادنا العربية، قيماً “موحَّدَة” ذات مرجعية مشتركة؛
- سيادة قيم مجتمعية تزيد في توحيد البلاد وضمان قيم مشتركة تبني التفاعل الإيجابي وتزيد في بناء منظومة قيمية واحدة متجانسة؛
- الاشتغال على أساس مبدأ التكامل القائم على منهاج تعليمي يعمل على تكوين شخصية سليمة ومتوازنة لدى المتعلمين، تسعى إلى تحصين المجتمع من الانحرافات والتغيرات الطارئة التي نشهدها لا سيما الغزو الفكري والقيمي والأخلاقي المبني على الأنانية والفردانية المؤدية إلى تشتيت البنية الفكرية والسلوكية للمجتمع من خلال إعلاء هذه القيم الفردانية على حساب القيم الجماعية المجتمعية بأهدافها ومميزاتها الضامنة لمبادئ التعاون والتكافل والتكامل؛
- التعليم القائم على القيم سلاح تربوي تأسيسي لتصحيح المسار الفردي والجماعي للمتعلمين؛ أجيال الغد والمستقبل، من خلال استثمار المقررات المدرسية والمناهج التعليمية البانية لهذه القيم والمحافظة على المبادئ الكبرى والعامة للمجتمعات العربيّة، ومنظومتها الثقافية والفكرية والقيمية…؛
- الحفاظ على الأمن الفكري والقيمي لبلدان الوطن العربي في حدها الأدنى المشترك على الأقل؛ بما يحمي من الغزو الأجنبي الشرس الذي تضاعف في العقود الأخيرة، ويضمن وحدة البلد والوطن والإنسان…
لائحة المصادر والمراجع
- المعاجم
1- المعاجم والموسوعات بالعربية
- أندري لالااند: موسوعة لا لاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت/ باريس، الطبعة الثانية، المجلد الأول: 2005؛
- ابن منظور (أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري الإفريقي): “لسان العرب”، تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي وسيد رمضان أحمد، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الأولى:1411هـ/ 1982م
- جماعة من كبار اللغويين العرب: “المعجم العربي الأساسي” (بتكليف من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، توزيع لاروس، الطبعة الأولى:1989 .
- الراغب الأصفهاني (أبو القاسم الحسين بن محمد): “معجم مفردات ألفاظ القرآن”، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى: 2010؛
- عبد الكريم غريب: المنهل التربوي، معجم موسوعي في المصطلحات البيداغوجية والديداكتيكية والسيكولوجية – الجزء الأول – منشورات عالم التربية – مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء – الطبعة الأولى: 2006
- الفيروزبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب): القاموس المحيط – تحقيق حسان عبد المناف، بيت الأفكار الدولية: الأردن السعودية، الطبعة الثالثة: 2008
2- المعاجم الأجنبية
- –Le petit Larousse illustre – Dictionnaire encyclopédique, 1996, Ed Larousse, Paris France
- -The Oxford paper back dictionary-Oxford University Press – Great Britain-Jed. ed.1988.
- الكتب:
- المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي: “التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي”، تقرير رقم 17/1، المملكة المغربية، 2017؛
- مجموعة من المؤلفين: “سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر”، (أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب)، تقديم: أحمد عبادي، تنسيق وتحرير: عبد السلام الطويل، سلسلة ندوات علمية (4)، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، المغرب الطبعة الأولى: رجب 1433ﻫ/يونيو 2012م؛
- محمد الكتاني: “منظومة القيم المرجعية في الإسلام”، منشورات “الرابطة المحمدية للعلماء” و”مركز الأبحاث والدراسات في القيم”، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية: 2011؛
- عبد الله عبد الدائم: “نحو فلسفة تربوية عربية: الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/ لبنان، الطبعة الثانية: أبريل 2000؛
- طه عبد الرحمان: “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية: 2006؛
- زكي نجيب محمود: “فلسفه وفن”، المكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، مصر، 1963؛
- المجلات:
- سامر توفيق عجمي: “مفهوم التربية في الفكر الغربيّ قراءة: تحليليّة- نقدية في بعض النماذج“، مجلة: ” الاستغراب” المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، لبنان، العدد 35، السنة: صيف 2024م / 1446هـ؛
- علي أسعد وطفة: “الثقافة وأزمة القيم في الوطن العربي”، مجلة “العربي”، مركز الدراسات الوحدة العربية، بيروت/ لبنان، العدد 192، شباط/ فبراير 1995.
[1] – ابن منظور: “لسان العرب”؛ تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي وسيد رمضان أحمد، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الأولى:1411هـ/ 1982م.
[2] – الراغب الأصفهاني (أبو القاسم الحسين بن محمد): “معجم مفردات ألفاظ القرآن”، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى:2010، ص: 258.
[3] – عبد الحي أحمد السبحي ومحمد بن عبد الله القسايمة: “طرائق التدريس العامة وتقويمها”، دار خوارزم العلمية للطباعة والنشر، جدة، السعودية، الطبعة الأولى: 2010، ص: 32.
[4] – اُنظر: “القاموس المحيط” للفيروزبادي – تحقيق: حسان عبد المناف- بيت الأفكار الدولية: الإدارة السعودية- الطبعة الثالثة:2008، و”المعجم العربي الأساسي”: جماعة المؤلفين بتكليف من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- (توزيع لاروس) الطبعة الأولى: 1989، ص: 502.
– The Oxford paperback Dictionary The Oded paper back dictionary-Oxford University Press – Great Britain-Jed. ed.1988-p :369-370
Le petit Larousse illustré – Dictionnaire encyclopédique, 1996, Ed Larousse, Paris France, p: 256
[6] – أندري لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت/ باريس، الطبعة الثانية، المجلد الأول: 2005 .
[7] – نقلاً عن: عبد الكريم غريب: “المنهل التربوي، (معجم موسوعي في المصطلحات البيداغوجية والديداكتيكية والسيكولوجية)”، الجزء الأول، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى: 2006، ص: 308.
[8] – المرجع السابق، ص: 308.
[9] – الراغب الأصفهاني: “معجم مفردات ألفاظ القرآن”، مرجع سابق، ص: 40.
[10] – سامر توفيق عجمي: “مفهوم التربية في الفكر الغربيّ قراءة: تحليليّة- نقدية في بعض النماذج“، مجلة: “ الاستغراب”، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، بيروت، لبنان، العدد 35، السنة: صيف 2024م / 1446هـ، ص: 40
[11] – ابن منظور: “لسان العرب”؛ تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي وسيد رمضان أحمد، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الأولى:1411هـ/ 1982م
[12] – طه عبد الرحمان: “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية: 2006، ص: 68.
[13] –علي أسعد وطفة: “الثقافة وأزمة القيم في الوطن العربي”، مجلة “العربي”، مركز الدراسات الوحدة العربية، بيروت/ لبنان، العدد 192، شباط/ فبراير 1995، ص: 54.
[14] – زكي نجيب محمود: “فلسفه وفن”، المكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، مصر، 1963، ص64 -65
[15] – محمد الكتاني: “منظومة القيم المرجعية في الإسلام”، منشورات الرابطة المحمدية للعلماء ومركز الأبحاث والدراسات في القيم، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية: 2011، ص:13.
[16] – محمد الكتاني، المرجع السابق، ص: 18
[17] – طلال عتريسي في “ندوة العدد: قضايا التربية والتعليم وعلم الاجتماع“، مجلة: “الاستغراب” المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، لبنان، العدد 35، السنة: صيف 2024م / 1446هـ، ص:134.
[18] – المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي: “التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي”، تقرير رقم 17/1، المملكة المغربية، 2017، ص: 4.
[19] – نفس المرجع، ص: 4.
[20] – عبد الله عبد الدائم: “نحو فلسفة تربوية عربية: الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/ لبنان، الطبعة الثانية: أبريل 2000: ص: 306.
