ورقة الأستاذ الدكتور إبراهيم أبو خزام
ملاحظات حول الديموقراطية – رؤية فكرية
- أستاذ القانون العام – جامعة طرابلس/ ليبيا
- عضو وحدة الدراسات الاستراتيجية والسياسية- المعهد العالمي للتجديد العربي
باستثناء الأديان الكبرى، قد لا توجد فكرة استمرت موجودة وفاعلة في التاريخ مثل الديمقراطية، فهذا المصطلح الذي أطلق لوصف نوع من أنواع الحكم منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام لم يختف من أدبيات الفلسفة والفكر والسياسة، ورغم أن النظام الديموقراطي نفسه يتلاشى من حين لآخر، إلَّا أن الفكرة لم تطمس قط، وحتى في أشد العصور ظلاماً بقيت جذوة الديمقراطية مشتعلة تحت الرماد، تشغل المفكرين، وتلهم دعاة الحرية.
أما لماذا هذا البقاء الطويل؟ فإن الأمر يعود إلى سلامة الديمقراطية، فقد جربت البشرية أشكالاً متنوعة من نظم الحكم، لكنها لم تصمد أمام السيل الجارف للديمقراطية، وذلك بسبب فقدان هذه الأنظمة الأسانيد الفكرية والأخلاقية والسياسية.
مقدمة
وما من شك لديَّ في أن الديمقراطية، أفضل أشكال الحكم، فالخيار بين الديمقراطية وغيرها من أشكال الحكم، أصبح محسوماً لصالح الديمقراطية، وذلك لا يعود إلى أسباب نظرية بحتة، تتعلق بالأبعاد الفكرية والأخلاقية التي تضفي المشروعية السياسية، بل يعود – وبشكل أهم – إلى أسباب عملية أيضاً، فالديموقراطية بقيمها ومؤسساتها وآلياتها، هي النظام الوحيد الذي استطاع لجم وتهذيب الصراعات السياسية، فمع أن الصراع (ظاهرة إنسانية) شاملة زماناً ومكاناً، ومن الطبيعي، أن يكون أحد أسبابها صراعات السلطة التي اتخذت – طوال التاريخ – أشكالاً لا تخلو من العنف، فإن الديموقراطية هي النظام الوحيد الذي نجح في تهذيب الصراع وتقنينه والنزول به إلى مستوى التنافس الناعم، وهو ما أدى إلى الاستقرار والتنمية والتطور في المجتمعات الديمقراطية.
إن طريق الديمقراطية لم يكن سهلاً ولا قصيراً، فقد تعبد طريقها بالكثير من التضحيات، وكافحت في سبيلها أجيال متعاقبة، وقد كان من حظها انشغال مئات من الفلاسفة والمفكرين بقيمها وأفكارها ومؤسساتها، ورغم انحياز الكثرة من هؤلاء لقضية الديمقراطية، فإن هناك من هاجمها وقلل من قيمتها، وقد هاجمها عدد من الفلاسفة والمفكرين المرموقين الذين عاشوا – في الغالب – مراحل انحطاطها، وساندها ودافع عنها أولئك الذين شهدوا مراحل ازدهارها، أو الذين حلموا باستعادة زهوها وكانت مصدراً لإلهامهم حتى في مراحل الشك أو في مراحل نظم الاستبداد.
وتعيش الديمقراطية (المعاصرة) اليوم في إحدى مراحل الشك والاضطراب، وقد أصبحت مادة للجدل بين دعاة الديمقراطية المؤمنين بقدرتها على التكيف والإصلاح والازدهار من جديد وبين المشككين في قيمتها ممن يعتقدون أنها استنفدت طاقتها ودخلت طور الأزمة القاتلة.
إننا في هذا البحث القصير سنحاول إلقاء الضوء على (بعض) وليس (كل) جوانب الديمقراطية، وبشكل (موجز) في كل القضايا المطروحة ومحاولة الإجابة عن أسئلة جوهرية تدور حول، ما الديمقراطية المقصودة؟ وكيف تطورت عبر التاريخ؟ وما حالة الديمقراطية اليوم؟ وهل هي قادرة على تجاوز المصاعب؟ وما الجوانب المعطوبة في الديمقراطية؟ وهل هي نظام غربي بحت، أم هي نظام كوني يصلح لكل الشعوب والمجتمعات؟ وما حالها في الوطن العربي؟ وهل يمكن إيجاد نموذج لنظام ديموقراطي عربي؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة لابد وأن تولِّد جملة من الاستنتاجات والملاحظات المهمة، وهي ما سنثبته في ثنايا البحث، ثم نبرزه بصورة مركزة في نهايته، ومن البديهي القول إن هذه الاستنتاجات والملاحظات لا تتجاوز كونها ملاحظات شخصية ناجمة عن قراءات، أزعم أنها ليست قليلة، وتفكير إنساني في هذه الملاحظات، وهو تفكير محدود، مهما كان شأنه، لكنه قد يصلح لإثارة الجدل والنقاش في القضايا الجوهرية للديموقراطية.
ما الديموقراطية؟
إن المقصود بالديموقراطية في هذا البحث، هو الديموقراطية الغربية الليبرالية بالشكل الذي هي عليه اليوم في معظم المجتمعات الغربية وبكل أفكارها وقيمها ومؤسساتها ومظاهرها وإجراءاتها المعمول بها في العالم الغربي، ومن أهم قيمها، دولة القانون القائمة على حياة دستورية مستقرة وسلطات تشريعية وتنفيذية منظمة متوازنة ومتعاونة ومنتخبة بصورة شفافة ونزيهة من قبل شعب حر يكفل له الدستور المشاركة في الشأن العام دون عوائق تذكر، وهو دستور يحظى بالرضا العام، ويقوم على المساواة المستمدة من المواطنة، ويخضع فيه الجميع، حاكمين ومحكومين، لحكم القانون في ظل نظام قضائي مستقل هدفه تحقيق العدالة وحكومة مدنية تحتكر القوة ويخضع لأوامرها كافة المؤسسات العسكرية والأمنية، مع وجود مصفوفة من الحقوق والحريات العامة المحمية من عسف السلطة وتغولها بمقتضى الدستور والقوانين، ويتاح فيها حرية واسعة للمشاركة والاختيار والتعبير والانتماء، والهدف الأساسي للدولة هو ضمان الحرية والاستقرار والتنمية والرفاه وتطور الشعب بصورة طبيعية والمساهمة مع الشعوب الأخرى في تطور الإنسانية في مناخ الاستقرار والسلام.
تلك هي الصورة التقريبية للدولة الديموقراطية المثالية التي يجري البحث عنها، وهي الديموقراطية التي تنص عليها الدساتير، وتدعيها معظم الدول الغربية، غير أن الأمر، في أغلب الأحيان، هو خلاف ذلك في معظم الدول.
إن الصورة النظرية للديموقراطية لم تعد متوافقة مع التطبيق العملي، وهو ما دفع إلى ساحة التعريف إشكاليات معاني الديموقراطية (المعاصرة)، فرغم أن إطلاق مصطلح الديموقراطية يبعث في الذهن صورة الديموقراطية الليبرالية كما تمارس في الدول الغربية ومن يحذو حذوها، غير أن هذه الممارسة أصبحت متنوعة بدرجة كبيرة، وهو تنوع لا يقتصر على تنوع أشكال المؤسسات، بل يمتد نحو مساحات الحرية المتاحة ومظاهر وإجراءات ممارسة الديموقراطية.
لقد دفع هذا الواقع عدداً كبيراً من المفكرين والمثقفين والمؤسسات المعنية بأحوال الديموقراطية، إلى القول بأن الديموقراطية لم تعد نموذجاً واحداً معروفاً ومحدداً حتى في الدول الغربية، وهو ما دفع إلى ظهور الحاجة لإضافة أوصاف جديدة للديموقراطية للتمييز بين أنواعها وتحديد مستوى اقترابها من الديموقراطية الفعلية. ويعد كتاب “لاري دايموند” المعنون بـ “روح الديموقراطية” من أوضح الكتب الحديثة التي تعرضت لإشكالية معاني الديموقراطية، والكاتب مفكر أمريكي مرموق وسياسي معروف، ويعترف بأن الديموقراطية لم تعد نموذجاً واحداً ومعروفاً، وهي بسبب انتشارها الأفقي وبسبب تنوع معايير تقييمها أصبحت ذات نماذج متعددة، وبعد أن يعدد هذه النماذج ويشرح معايير التقييم، فإنه يستنتج أن هناك نوعين من الديموقراطية على الأقل تشكل الفصائل المختلفة للديموقراطية، وهي ما يطلق عليه “الديموقراطية السميكة” التي تقترب بدرجة عالية من الديموقراطية النظرية و”الديموقراطية الرقيقة” التي تحوز على بعض مظاهر الديموقراطية المختلطة بالاستبداد، ويقول إن تفسير كلمة الديموقراطية أصبح يشابه تفسير النصوص الدينية، فإذا سألت عشرة قساوسة أو أحبار أو شيوخ حول نص ديني، فإنك – على الأرجح – ستحصل على إحدى عشرة إجابة (1). أما “ديفدهلد” في كتابه “نماذج الديموقراطية” فيذهب إلى وجود تسعة أنواع من الديموقراطية على الأقل، وهي أنواع قد تتفرع عنها فصائل أكثر، وهو في نهاية المطاف يدعو إلى تصنيف ثلاثي على الأقل تحت عناوين كبرى هي الديموقراطية الكاملة، الديموقراطية المختلطة، والديموقراطية المعيبة (2).
إن هذا الاضطراب والتشوش يشمل “بيت الحرية”، وهو مؤسسة أمريكية متخصصة في مراقبة الديموقراطيات، وتصدر سنوياً تقييمات تعتمد على معيار الحرية، تدور بين (1و7) للحكم على مستوى الديموقراطية، وللوصول إلى ذلك فإنها تضع عشرات المعايير، ومن أهمها قائمة الحريات السياسية والمدنية التي تحوي “22” بنداً تمثل أهم الحريات والحقوق المطلوبة لتحديد مستوى الديموقراطية ونوعها” (3).
وفي ضوء هذا الاضطراب والتشويش يذهب “دايموند” إلى ضرورة توافر عشر خصائص لابد من توافرها للوصول إلى الحد المعقول من الديموقراطية، وهي:
1- قدر كبير من الحريات الفردية، بما في ذلك حريات الاعتقاد والرأي والتعبير والإعلام والنشر والتجمع والتظاهر… إلخ.
2- المساواة التامة للمواطنين أمام القانون.
3- الحق المتساوي للتصويت والترشح للمناصب العامة.
4- سلطة قضائية مستقلة.
5- حرية تشكيل الأحزاب وفق الدستور.
6- رقابة تشريعية وقضائية على أعمال المسؤولين.
7- سيطرة السلطة المدنية على الآلة العسكرية والمدنية.
8- حرية واسعة للأقليات الدينية والإثنية لممارسة شعائرها والاعتزاز بثقافتها الإثنية ومشاركتها في الحياة السياسية.
9- ضمانات قانونية ضد الترهيب والتعذيب.
10- وجود مجتمع مدني نابض بالحياة (4).
وكل ذلك في ظل نظام حكم نيابي وحكومة فعالة ونظام انتخابي دوري يتصف بالنزاهة والشفافية.
حالة الديموقراطية في القرن الحادي والعشرين
ليس من السهل الاتفاق على حالة الديموقراطية في القرن الحادي والعشرين، فهناك من يتغنى بهذه الديموقراطية، مهما كانت إخفاقاتها، ويعتبرها نهاية التاريخ في رحلة البحث عن أفضل أشكال الحكم، وهناك من ينوح على هذه الديموقراطية ويعتبرها ظاهرة تعيش لحظة احتضار، وما لم يجر إصلاحها بشكل عاجل فإنها ستموت نهائياً في وقت قريب، فالديموقراطية الحديثة، استنفدت طاقتها وحيويتها وسيطويها التاريخ، وهناك من بين هذين الرأيين من يذهب – وهو ما نؤيده – إلى أن الديموقراطية تمر بلحظات عصيبة تجعلها على حافة الأزمة، ويدعو إلى حل يقوم على ضرورة التفكير في الإصلاح الديموقراطي الجذري بتعميق الأفكار وتطوير المؤسسات بصورة تتناسب مع تطور الإنسان نفسه ورسالة وشكل الدولة وطبيعة الحياة في عالم جديد بلغ ذروة العلم والتقدم.
إن الاختلاف في التقييم، ينبع من المعايير التي يستند إليها كل اتجاه، والواقع أن معظم المقيمين يلجؤون إلى “معيار أحادي”، فالاتجاه المتفائل بمستقبل الديموقراطية يستند إلى “المعيار الأفقي” القائم على ما يلاحظه من توسع وانتشار للديموقراطية على المستوى العالمي، فهي تتوسع باستمرار في بلدان جديدة على حساب الأنظمة ذات الطابع الشمولي، ووفق هذا المعيار فقد كان القرن العشرون قرن الديموقراطية بامتياز، فقد تهاوت مع نهايته البدائل الرئيسية للديموقراطية، وتحول من تبقى من النظم الشمولية إلى بقايا شاذة تنتظر الزحف النهائي للديموقراطية، أما الاتجاه المتشائم، وهو أحادي المعيار أيضاً، فهو يركز على “تقييم المؤسسات الدستورية ومدى فاعليتها، وهو يرى أن الديموقراطية قد ماتت بسبب تحولات بنيوية أدت إلى الانقطاع التام بين الشعوب والمؤسسات الدستورية والضعف الملحوظ والمتزايد لمجالس التمثيل وتغول الحكومات وتهميشها لهذه المجالس، فلم تعد السلطة الفعلية بيد المجالس المنتخبة، بل انتقلت إلى أقلية حاكمة تحركها قوى غير منظورة لتحقيق مصالحها الذاتية، وهو ما أدى إلى فقدان الشعوب للثقة في المؤسسات الدستورية وخاصة المجالس النيابية، والطبقة السياسية برمتها، وهو ما قاد، في نهاية المطاف، إلى إحجام الشعوب عن الاهتمام بالسياسة والإحجام عن المشاركة وفقدان الأمل، وهو ما يعكسه الامتناع عن المشاركة في الانتخابات التي تمثل – مظهرياً على الأقل – الحد الأدنى من المشاركة في الشأن العام، واللجوء عوضاً عن ذلك، للتعبير عن مشاغلها، إلى طرق أخرى كالمظاهرات والاحتجاجات والتنديد بالسلطة التي يفترض أنهم ساهموا في صناعتها ووجودها، فقد ظهرت كيانات وسيطة بين القمة والقاع مثل مجموعات الضغط وجماعات المصالح والشركات الكبرى، وهناك اليوم شعور عام لدى المواطنين بفقدانهم السلطة والسيطرة لمصلحة هذه الكيانات، مما أفقد الديموقراطية حيويتها وتأثيرها.
وفضلاً عن هذين الاتجاهين، هناك من يذهب إلى تبني معيار أحادي آخر للحكم على مستوى الديموقراطية، وهو “معيار الحرية”، وبحسب هذا الاتجاه فإن قيمة الديموقراطية يجب أن تقاس بمساحة الحرية التي يتيحها النظام بصرف النظر عن أشكال المؤسسات وفاعليتها، فمع الأخذ في الاعتبار آليات الديموقراطية وكيفية الممارسة السياسية، فإن العامل الأهم هو مساحة الحرية، وهناك من الدول الملتزمة تماماً بآليات الديموقراطية، مثل الانتخابات والتداول الشكلي على السلطة ووجود الأحزاب والاعتراف بالتعددية، لكن ذلك يتم بجانب القمع، وهناك من الدول، كما في معظم دول الغرب، مساحة واسعة للحرية رغم أعطاب المؤسسات وضعف المجالس وهيمنة طبقة سياسية على مؤسسات الدولة ومفاصلها، لكن ذلك لم يؤثر في مساحة الحرية، وليست الديموقراطية، من حيث المضمون، سوى نظام لتحقيق الحرية وتعزيزها، وإذا سلم هذا الجوهر فإن الديموقراطية قادرة على إصلاح نفسها.
إننا مع رأي يذهب إلى أن تقييم حالة الديموقراطية يجب أن يعتمد على معايير متعددة واستخدام هذه المعايير مجتمعة، فلا يصح الاعتماد على معايير شكلية محدودة، فالانتشار الأفقي لا يعني غير انتشار الديموقراطية الزائفة، والاعتماد على المظاهر كالانتخابات لا يحقق الديموقراطية إذا خلت من المضامين الحقيقية، فالانتخابات كما تكون وسيلة للتداول الدوري للسلطة، فإنها قد تسبغ الشرعية على نظم القمع والطغيان، ولا يصح الاعتماد على معيار الحرية رغم أهميته، فالمؤسسات الدستورية ليست أكفاناً للديموقراطية ومجرد أشكال لا قيمة لها، بل إنها الضمانة الحقيقية للحرية والديموقراطية.
إن استخدام المعايير المتعددة يكشف، دون شك، تدهور الديموقراطية وليس موتها منذ أواخر القرن العشرين، وهو ما يتطلب إلقاء نظرة على تاريخ الديموقراطية وتطورها، ومحاولة معرفة نقطة التحول ومتى بدأت رحلة التدهور.
نظرة تاريخية
تبدأ القصة الحقيقية للديموقراطية الحديثة في أواخر القرن الثامن عشر مع نجاح الثورتين الأمريكية عام 1776م والفرنسية عام 1789م. فرغم وجود إرهاصات فكرية كثيرة قبل هذا التاريخ وتجارب عملية محدودة في بعض إمارات أوروبا ودولها الصغيرة، إلَّا أن الديموقراطية، باعتبارها نظاماً مؤسساتياً واضح المعالم يقوم على دستور مكتوب بنوع من الدقة ومجالس تمثيلية منتخبة وحكومات منبثقة من التنظيم الدستوري ومصفوفة من الحقوق والحريات العامة المثبتة في الدستور، لم تظهر إلَّا مع نجاح الثورتين.
ورغم أن الثورتين الأمريكية والفرنسية قامتا على الفكر الديموقراطي بشكل عام، إلَّا أن فوارق ملحوظة قد طبعت النظامين منذ البداية بسبب اختلاف البيئة والمصادر الفكرية للثورتين وهو ما أنتج، ومازال ينتج إلى اليوم، بعض التنوع في الأفكار والممارسة، فقد قامت الثورة الأمريكية في ظل وسياق التطور التاريخي الإنجليزي بما فيه من التجربة البريطانية القائمة على حكم ملكي، عرف منذ صدور الماجناكارتا عام 1215م، بعض التطور نحو الديموقراطية، أما على صعيد الفكر فقد تأثر النظام الأمريكي تأثراً واضحاً بالفلسفة الإنجلوسكسونية، وفي المقدمة منه كتابات “جون لوك”، إذ اقتبس إعلان الاستقلال فقرات حرفية من كتابه “مقالتان في الحكم المدني”، سواء من حيث تبرير الثورة أو تحديد شكل دولة المستقبل، وهو النهج نفسه الذي سار عليه الدستور بعد عقد من الزمان، أما في الجانب القديم من العالم، فقد اتبعت الثورة الفرنسية نهجاً مختلفاً يقوم على التطور التاريخي الفرنسي بطابعه الأكثر استبدادية وعلى أفكار أكثر قرباً من الديموقراطية الكلاسيكية دبجها قبل الثورة “جان جاك روسو” في كتبه الجريئة، وعلى الأخص، “أصل التفاوت بين الناس” ثم “العقد الاجتماعي” (5).
إن اختلاف المنابع الفكرية والموروث الحضاري بين الثورتين، موضوع خضع للدراسة، لكننا لن نتوقف عنده في هذا المقام، رغم فاعليته في إنتاج التنوع المؤسساتي القائم إلى اليوم بين النظامين الأمريكي والفرنسي، ومع ذلك فإن هذا التنوع لا يؤثر في الاستنتاج العام، بأن الديموقراطية المعاصرة ولدت مع الثورتين.
تلك هي ما أصبح يطلق عليه “الموجة الأولى للديموقراطية” التي بذرت البذور الأولى لديموقراطية يصح أن يقال عنها إنها ديموقراطية ناقصة، فهي رغم تشييدها للمؤسسات الديموقراطية، إلَّا أن الديموقراطية لم تكن شاملة، لأنها لم تدخل لساحة المواطنة غير عدد محدود من السكان الذين يحق لهم المشاركة في الشأن العام، وهم “الرجال البيض المالكون لحد أدنى من الملكية العقارية والمنقولة والمتعلمون تعليماً يسمح بمشاركتهم”، فقد كانت من الناحية العملية ديموقراطية لأقلية من المواطنين، أما الحقوق والحريات فإنها لم تتبلور إلَّا في مرحلة لاحقة، ومع كل ذلك فقد انطلقت الديموقراطية في موجتها الأولى، فهي في الواقع، ديموقراطية ناقصة سياسياً، محدودة الانتشار في دولتين لا أكثر.
انطلقت “الموجه الثانية للديموقراطية” في القرن التاسع عشر، ويمكن اعتبار ما أصبح معروفاً بـ “الديموقراطية الجاكسونية” إحدى نقاط البداية لهذه الموجة عام 1828م، وهي تنسب للرئيس الأمريكي السابع “أندرو جاكسون”، فرغم أن مرحلة حكمه كانت بغيضة بسبب سيطرة الطبقة الغنية على الحكم، إلَّا أن هذه المرحلة شهدت توسيع حق الانتخاب ليشمل جميع “الذكور البيض” وإلغاء فكرة الملكية باعتبارها شرطاً للتمتع بهذا الحق وتعديل بعض دساتير الولايات لإزالة هذه العوائق، مما شكل نقطة تحول في تاريخ الديموقراطية. إن الأحداث الأهم في مرحلة هذه الموجة تتمثل في ظهور عدد من المفكرين والسياسيين الذين أنتجوا الإصلاحات العميقة، وفي مقدمتهم “جيرمي بنتام” 1748- 1832م. و”جون ستيورات مل 1806- 1873م”. وقد كان الأول أستاذاً للثاني الذي كان أكثر تأثيراً باعتباره فيلسوفاً ومفكراً وسياسياً مرموقاً.
لقد كان “مل” بحق الأب الشرعي للإصلاح الديموقراطي، وقد كتب كتباً كثيرة، من أبرزها “الحرية” و”الحكومة البرلمانية”.
وفي كتابه “الحكومات البرلمانية” انتقد بشدة الديموقراطية القائمة في عصره، واعتبرها ديموقراطية ناقصة، ودعا إلى إصلاحها بتوسيع نظام الانتخاب، ودافع عن حقوق المرأة في المشاركة السياسية وحقها في الانتخاب، كما دعا إلى ضرورة إصلاح البرلمان والعمل التشريعي وتحديد مكانة مجلس اللوردات. ويعتبر كتاب “مل” الحكومات البرلمانية، الأساس الفكري الذي بنيت عليه تطورات الموجة الثانية، والكتاب، إلى اليوم، يعد من كلاسيكيات الفكر الديموقراطي والمرجع الأساسي الذي بني عليه الإصلاح الديموقراطي (6).
إن “مل” لم يكن مجرد فيلسوف نظري، بل كان، بمعنى ما، أحد رجال الدولة، فقد كان عضواً بمجلس العموم البريطاني الذي شهد خطبه ومداخلاته الداعية للإصلاح، وما من شك أن كتاباته الفكريةن على الأقل، كانت من العوامل المؤثرة في تطور ديموقراطية القرن التاسع عشر.
ولم تقتصر الموجة الثانية على التطور النوعي للديموقراطية، بل صاحب ذلك تطورها الأفقي بالامتداد لبلدان جديدة في أوروبا في النصف الثاني من القرن بشكل تزامن مع ظهور “الدولة القومية”، فقد أسهم هذا التطور الجديد مع التقدم العلمي والوعي السياسي الذي صاحبه في زيادة مساحة الديموقراطية وتعمقها، فالديموقراطية التي بدأت بـ 4% من سكان العالم ارتفعت في مستهل القرن العشرين إلى 10%، لتصل في نهايته إلى نحو 40% من سكان العالم (7).
تبدأ الموجة الثالثة للديموقراطية في القرن العشرين عشية نهاية الحرب العالمية الثانية بعد التحرر من النازية والفاشية والاستعمار، فمع تشكل خريطة العالم الجديدة واندفاع الأمم المستقلة للساحة الدولية ازداد التوسع الديموقراطي الذي بلغ ذروته في سبعينيات القرن الماضي بثورة “القرنفل” في البرتغال، ثم امتدادها لليونان وإسبانيا، بحيث شملت الديموقراطية معظم دول أوروبا الغربية ثم بعض دول أمريكا اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل والبيرو… إلخ. كما شملت بعض الدول الآسيوية والإفريقية مثل كوريا الجنوبية والفلبين وتايلاند والسنغال… إلخ، وبذلك ارتفع عدد الدول الديموقراطية إلى أكثر من خمسين دولة (8).
فور سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991م، زادت مساحة الديموقراطية بشكل ملحوظ، مما دفع البعض إلى الاعتقاد بوجود موجة رابعة للديموقراطية، فقد اتجهت الدول المنسلخة عن الاتحاد السوفيتي، بما في ذلك روسيا، ودول حلف وارسو، اتجهت نحو الديموقراطية النيابية وقد استمر هذا الزخم ليشمل دولاً أخرى بما في ذلك دول إفريقيا والشرق الأوسط التي ضربتها هذه الموجة أيضاً، وهكذا فلم تعد الديموقراطية النيابية حكراً على الدول المنتمية للحضارة الأوروبية، بل عمت وامتدت إلى دول تنتمي إلى مختلف الحضارات والثقافات والأماكن الجغرافية، وبحسب تقييمات “بيت الحرية” فإن مائة وعشرين دولة دخلت حظيرة الديموقراطية، وإن كان ذلك بمستويات نوعية متباينة.
تلك هي قصة الديموقراطية المعاصرة، فعلى امتداد قرنين ونصف اتسعت رقعتها، ومع كل حدث دولي كبير ازداد التحول نحو الديموقراطية.
إن هذا الانتشار الأفقي المتزايد ترافق معه الكثير من التذبذب في مستوى الديموقراطية صعوداً وهبوطاً، فبعد البدايات المتواضعة في المحتوى في القرن الثامن عشر، ازدهرت الديموقراطية لعقود طويلة باتساع مساحات الحرية، وتطور مفهوم المواطنة ليشمل معظم السكان، وزاد الإقبال على المشاركة في الانتخابات العامة، وتم بناء الثقة في المجالس والحكومات، وهو ما انعكس صداه في الدساتير الحديثة التي دبجت لتتجاوب مع النداء الديموقراطي، إذ احتوت هذه الدساتير المزيد من التنظيم المؤسسي المبني على أفكار جديدة لا تخلو من الإبداع في المجالات السياسية والإدارية، بما في ذلك توسيع المشاركة وتقلص المركزية، وفي هذه الأجواء الفسيحة من الحرية ازدهرت المجادلات الفكرية عن الديموقراطية تحت قباب المجالس وفي أروقة الجامعات وعلى صفحات الجرائد والمجلات وعبر أثير الإذاعات المسموعة والمرئية، وهو ما انعكس على المستوى العالمي لتغدو الديموقراطية قضية عالمية كبرى ووعداً قريباً من التحقق.
منعطف الديموقراطية
يمكن أن يقال، بكثير من الاطمئنان، إن زخم الديموقراطية المتصاعد قد استمر إلى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فرغم مناخ الحرب الباردة وما صاحبها من مؤثرات وحروب وأجواء الدعاية والتشكيك، فإن الديموقراطية شقت طريقها بثبات، أما بعد هذا التاريخ فقد بدأت الديموقراطية في استنفاد طاقتها، ليس في دول الديموقراطيات الناشئة، بل في معاقل الديموقراطية الراسخة.
وهناك اليوم، ما يشبه الإجماع عند النخب الفكرية الغربية بأن الديموقراطية انحدرت نحو أدنى المستويات، وبين يدي عشرات الكتب والأبحاث الغربية التي تؤكد انحدار الديموقراطية منذ سبعينيات القرن الماضي، فرغم الحفاظ على المظهر الخارجي للديموقراطية، كالانتخابات وحريات الرأي والتعبير والاعتراف بالتعدد، إلَّا أن الميزات الأساسية للديموقراطية، كالمشاركة السياسية النشطة والحقوق الفردية والثقة في المؤسسات الدستورية والطبقة السياسية وحيوية المجتمعات… إلخ، قد تراجعت تماماً، وهو ما يعكسه تنامي حركات الاحتجاج والتمرد والمظاهرات الساخطة والاستنكاف عن المشاركة حتى في المظهر الشكلي للديموقراطية.
إن هناك من يذهب إلى أن الديموقراطية قد ماتت تماما (9) بسبب تحولات بنيوية في الديموقراطية، أدت إلى الانقطاع التام بين الشعوب ومجالس التمثيل النيابي وفقدان الثقة في الحكومات والطبقة السياسية بشكل عام، فقد فقدت الديموقراطية روحها وتحولت إلى مجرد “آلية لاختيار الحكام واستبدالهم”، وهم حكام أصبحوا “قياصرة بالانتخاب”، وهو ما دفع الفرنسي “جاك رانسيير” إلى القول بظهور ما يسميه “كراهية الديموقراطية الجديدة” في كثير من المجتمعات الغربية التي صبت اهتمامها على الشكل وأهملت القيم الجوهرية للديموقراطية وروحها وغاياتها، الأمر الذي جعل هذه المجتمعات تعيش فيما يسميه “دولة القانون الأوليغارشية” (10).
إن وصف “رانسيير” ليس بعيداً عن الدقة، فقد أصبحت الديموقراطية نظاماً للأقلية الغنية وليس لعامة الناس، فالأقلية الغنية وحدها هي القادرة على مواجهة التمويل وأعباء الحملات الانتخابية، ومنذ زمن بعيد كتب أستاذ القانون الدستوري الفرنسي “إندريه هوريو” أن عضوية مجلس النواب أو مجلس الشيوخ في أمريكا تتطلب صرف مليون دولار على الأقل، أما اليوم فإنها تتطلب عشرات الملايين، وإذا أضيف إلى ذلك سيطرة هذه الطبقة على وسائل الإعلام ومؤسسات العلاقات العامة وأجهزة توجيه الرأي العام والدور الذي تلعبه قوى الضغط والشركات الكبرى، فإن الأمر يتضح تماماً، بأن الديموقراطية ليست غير نظام أوليغارشي منتخب. إن ما يجب أن تلتفت إليه أنظار المفكرين والمثقفين هو (الزحف المباشر لرأس المال على السلطة)، فإلى وقت قريب كان رأس المال يعتمد على وكلاء يوصلهم إلى السلطة بأمواله ليحكموا باسمه ووفق مصالحه، فهو يمول حملاتهم الانتخابية ويتعهد برعايتهم الدائمة بشرط خضوعهم لتوجيهاته، لكن هذا الحال بدأ في التبدل، فلم يعد رأس المال يكتفي بذلك، بل بدأ في الزحف المباشر ليتولى السلطة بنفسه، سواء في مجالس التشريع أو في قمة السلطة التنفيذية، وليست ظواهر (دونالد ترامب) في الولايات المتحدة الأمريكية أو (سيلفيو برلسكوني) في إيطاليا، إلا نماذج لهذه الظاهرة، ولا يشذ عن ذلك ما يجري في الوطن العربي، فإن هذه النماذج واضحة تماماً، وفي كل دول الديموقراطيات الشكلية تقفز العائلات الغنية إلى السلطة وتورثها للأبناء جيلا بعد جيل عن طريق الانتخابات الشفافة النزيهة!! وهو ما بدأ يشير إلى ظهور نوع جديد من الديموقراطية هو (الديموقراطية الوراثية).. ولسنا في حاجة إلى تسمية الدول أو العائلات التي تحكمها بالديموقراطية الوراثية!!
إن هذا البحث لا يتسع لاستدعاء كل الكتابات الغربية ذات الطابع الموضوعي والفكري التي تنبه إلى الخلل الكبير في الديموقراطية الليبرالية الغربية، وهي كتابات كثيرة، ونشير هنا إلى نماذج منها:
• أموري. د. رينكور (القياصرة قادمون)
في ستينيات القرن الماضي كتب الأستاذ (أموري. د. رينكور) وهو أستاذ جامعي ومفكر أمريكي، كتاباً سماه (القياصرة قادمون)، حذر فيه من تحول الديموقراطية الأمريكية إلى النظام القيصري، وينطوي هذا الكتاب على تحليلات فكرية شيقة مستمدة من التطور التاريخي للديموقراطية، وخلاصة الكتاب، وهي مدعومة بالأدلة الفكرية والتاريخية، أن النظام الديموقراطي الأمريكي، بسبب تطورات بنيوية، سيبدأ التحول نحو الحكم الفردي (القيصري)، فالنظام الذي أرساه دستور القرن الثامن عشر، القائم على الفصل بين السلطات وتوازنها، والذي أعطى الكونجرس صلاحيات واسعة للحد من الفردية التي يقوم عليها النظام الرئاسي، هذا النظام بدأ في التغير لمصلحة الرئيس الذي سيغدو قيصراً لأسباب كثيرة لا تعود إلى التنظيم الدستوري غير الدقيق، بل تعود لأسباب واقعية تعود للتحول البنيوي في المجتمع الأمريكي، وبمراجعة التاريخ، فإن المجتمع الأمريكي في القرن الثامن عشر كان مجتمعاً متوازناً وهو ذو طبيعة زراعية، تشكل (الطبقة الوسطى) معظم تكوينه، ومن المعروف أن الطبقة الوسطى الواسعة هي أداة الديموقراطية ومن عوامل نجاحها، وذلك ما جعل الديموقراطية معتدلة وفعالة (11)، لكن هذا الحال بدأ في التغير بعد تحول المجتمع الأمريكي إلى مجتمع صناعي وبروز طبقة غنية مهيمنة بأذرعها الصناعية والتجارية، وهو ما جعل المجتمع مجتمعاً طبقياً حاداً، ومن الضروري أن ينعكس ذلك على التركيب السياسي والدستوري للدولة، ومع الزمن، فإن النظام سينقلب بطريقة (بطيئة وغير مقصودة وغير محسوسة) إلى النظام القيصري.
إن هذا التغير البطيء، يعود إلى نظرية (تحول الأنظمة)، سنعرضها لاحقاً، وقد ذهب رينكور إلى أن مقاليد الحكم الحقيقية ستصبح في يد الرئيس بطريقة دستورية مع تهميش متزايد للكونجرس الذي سيقع – هو نفسه – بين أيدي المركب الصناعي العسكري. ويذهب رينكور إلى أن التاريخ سيعيد نفسه فيما يتعلق بقصة الديموقراطية، فبعد تحليل شيق لتاريخ الديموقراطية، يذهب إلى أن الديموقراطية القديمة، بدأت في الحضارة اليونانية، لكنها انتكست في الإمبراطورية الرومانية، فالديموقراطية التي بدأت بسيطة صافية في اليونان في شكل ديموقراطية مباشرة يتولاها الشعب في (دولة المدينة) انتكست على يدي الإمبراطورية الرومانية في (الدولة القارة)، فرغم أن الرومان، استلهموا في وقت ما، بعض أفكار أسلافهم الإغريق باستحداث المجالس الديموقراطية، إلَّا أن حكمهم أصبح قيصرياً خالصاً بسبب التوسع والفتح وحاجات الإمبراطورية إلى السلطة الحازمة، وكما حدث في قصة الإغريق والرومان، فإنه سيحدث في العصر الحديث بين أوروبا وأمريكا.
إن الديموقراطية، في نظر رينكور، هي إبداع الحضارة الأوروبية، وبصرف النظر عن الجهد الأمريكي الحديث، فإن الديموقراطية بأفكارها ومؤسساتها من إنتاج عصر النهضة الأوروبي بفلاسفته الكبار وتجاربه السياسية الطويلة، ولقد بدأت الديموقراطية، صافية وبسيطة في أوروبا، كما كانت في اليونان، ولكنها ستتحول إلى قيصرية في أمريكا كما كانت في روما (12).
إن كتاب رينكور، يذكر بالخطاب الوداعي للرئيس “إدوايت إيزنهاور” عام 1961م، وهو خطاب حذر فيه من خطورة المركب العسكري الصناعي على الأمة والديموقراطية الأمريكية، ومما جاء فيه أننا “نريد للديموقراطية أن تبقى على قيد الحياة لجميع الأجيال القادمة، لا أن تصبح شبح الغد المفلس”.
لقد أصبحت الديموقراطية الأمريكية بالفعل نظاماً قيصرياً، ورغم ما يقال نظرياً عن دولة المؤسسات وأهمية الكونجرس والمحكمة العليا، إلَّا أن معظم السلطة أصبح بيد الرئيس. إن هذا الاستنتاج، يمكن تأكيده بفحص حجم الصلاحيات التنفيذية و(التشريعية) التي أصبحت بيد الرئيس، فلم يعد الرئيس الأمريكي مجرد رئيس للسلطة التنفيذية كما تصوره من وضع الدستور، بل أصبح حاكماً شبه مطلق، وباعتباري أستاذاً للقانون الدستوري، فقد تتبعت صلاحياته في الدستور والقوانين والأعراف والتقاليد الأمريكية، ووجدته لا يقل عن قيصر روماني، ومن المحتمل أن شخصية الرئيس السابق (دونالد ترامب) عكست صورة هذا القيصر بتعاليه على كل شيء بما في ذلك الكونجرس الذي هتك أستاره علانية وسراً (13).
• مايكل بارنتي.. ديموقراطية للقلة..
الدكتور مايكل بارنتي، أستاذ أمريكي مرموق في عدد من الجامعات الأمريكية والكندية والأوروبية أحياناً، يكتب ويحاضر بعمق عن الديموقراطية الليبرالية بشكل تحليلي واسع، وهو يعتبر أن الرأسمالية تتناقض تناقضاً تاماً مع الديموقراطية، وله آراء كثيرة في تشريح الديموقراطية وكيفية إصلاحها.
في عام 2002م أصدر أشهر كتبه (ديموقراطية للقلة) وهو كتاب عميق وشامل يقع في ترجمته العربية في أكثر من خمسمائة وخمسين صفحة، وهو في اعتقادي من أفضل الكتب الصادرة في هذا القرن عن أزمة الديموقراطية، ومع أنه من الصعب جداً تلخيص الكتاب في الأبحاث القصيرة إلَّا أن العنوان نفسه يعكس خلاصة نظرته للديموقراطية الحديثة، وهو على مدى ثمانية عشر فصلاً يشرح ويحلل مدى التناقض بين الأطروحات النظرية للديموقراطية الموجودة في الكتب التي يتلقاها الطلاب والواقع الحقيقي لنظام الحكم، ويفند، بطريقة مفصلة، حجج السياسيين المدافعين عن نظامهم، ويختتم الكتاب بفصل سماه ديموقراطية للقلة يقدم خلاصة كتابه وينفي فيه مزاعم (التعددية) في المجتمع الأمريكي الذي أصبحت تعدديته محصورة في النخبة الحاكمة والطبقة السياسية، فلم تعد التعددية بمعناها العام، أي وجود مجموعات متوازنة تمثل كل المصالح المهمة في داخل المجتمع مع وجود حكومة تقف فوق هذه المجموعات وتتجاوب مع التوجهات المتعددة، بل أصبحت التعددية صورية وانعكاساً للطبقة الحاكمة (14).
من بداية الكتاب، الذي أعيد طبعه سبع مرات، يعلن بارنتي اتباعه لمنهج جديد لا يقوم على الوصف والتحليل لهيكل المؤسسات، فأهمية الحكومة لا تكمن في تركيبها الهيكلي، بل فيما تفعله وكيفية تأثير سياساتها على الناس في داخل البلاد وخارجها، فهو سيركز هدفه على محاولة تبيان حقيقة أن الديموقراطية الليبرالية تتنافى – في الأساس – مع الرأسمالية القائمة في الوقت الراهن، وأن النظام الاجتماعي الرأسمالي إنما ينتهك الديموقراطية على نحو مستمر.
لم يلجأ بارنتي في كتابه إلى المنهج الوصفي الذي يتبعه – عادة – شراح القانون والسياسة بوصف هياكل السلطة وطريقة عملها، بل لجأ للتحليل العميق بربط الديموقراطية بالنظام الاقتصادي الذي يشكل الدعامة الأساسية للنظام السياسي، وذلك بحكم العلاقة الواضحة بين القوة الاقتصادية والسلطة السياسية، وفي كل الكتاب لا يمل من إبراز الحجج على تعفن النظام ومؤسساته وصورية الديموقراطية القائمة على الخداع والكذب والغش والتزييف.
وإذا كان (رينكور) يذهب إلى استنتاج مشابه بتحول الديموقراطية البطيء وغير المقصود وغير المحسوس وينفي فكرة المؤامرة التي يمكن أن تقف وراء هذا التحول، فإن بارنتي يذهب على العكس من ذلك، ويلح على أن الديموقراطية الليبرالية قامت منذ البداية على (المؤامرة) والخداع، فالذين وضعوا الدستور الأمريكي هم من بدأ المؤامرة بوضع دستور ونظام حكم لخدمة هدف واحد وهو (تكريس سلطة الأغنياء) من البداية وضمان حمايتها بالدستور والقوانين، ولإثبات ذلك فإنه يرجع إلى المرحلة التاريخية التي صاحبت وضع الدستور والمجادلات الفكرية والسياسية في ذلك الوقت ليثبت أن المؤامرة موغلة في القدم، وبينما يذهب كثير من الكتاب إلى أن المجتمع الأمريكي لم يكن طبقياً عند وضع الدستور ويتشكل من طبقة متوسطة متقاربة، فإن بارنتي يؤكد أن المجتمع الأمريكي كان طبقياً يخلو من المساواة، فقد كانت أقلية لا تزيد على خمسمائة شخص يسيطرون على أعمال التجارة والبنوك والشحن والتعدين والصناعة في الشاطئ الشرقي في القرن الثامن عشر، وأن عدة أشخاص كانوا يملكون ثلاثة أرباع الأراضي في نيويورك ومعظم الأراضي الزراعية في ولاية فرجينيا، أما المناقشات التي صاحبت الدستور فقد تركزت على كيفية إيجاد شكل ومظهر لحكومة تحظى بالدعم الشعبي، ولكنها لا تمس الهيكل الطبقي القائم، ويسرد “بارنتي” أطروحات (ماديسون) عند وضع الدستور، ففي الورقة العاشرة من الأوراق الفيدرالية يكتب ماديسون “أن أكثر مصادر الشقاق والنزاع شيوعاً واستمراراً هو ذلك التنوع في التوزيع غير المتساوي للملكية، فأولئك الذين يملكون وأولئك الذين لا يملكون كانوا يمثلون دائماً مصالح متباينة ضمن المجتمع، وأن الهدف الأول للحكومة هو حماية السلطات والصلاحيات المختلفة وغير المتساوية الناشئة عن حيازة الثروة”، وقد كان رأي واضعي الدستور أن الديموقراطية هي “أسوأ الشرور السياسية جميعاً”، وأن مشكلات البلاد ناجمة عن “فتن وحماقات الديموقراطية”، أما رئيس المؤتمر الدستوري “جورج واشنطن” وهو الرئيس الأمريكي الأول فقد كان يحث المندوبين على عدم إصدار وثيقة هدفها، مجرد إرضاء الناس (15).
إنني أعرف، أن مفهوم الديموقراطية كان غامضاً مشوشاً في ذلك الوقت، فقد كان ذهن آباء الدستور ينصرف إلى المعنى الإغريقي للديموقراطية المباشرة، ففي الأوراق الفيدرالية يتم التأكيد على استبعاد الديموقراطية واللجوء إلى الحكم (الجمهوري) الذي كان يعني في ذهنهم النظام النيابي، وهكذا فقد أسسوا ديموقراطية من نوع آخر أقرب ما تكون للنظام الروماني، وهو مما لا يجعلنا نجاري بارنتي في الذهاب نحو نظرية المؤامرة المقصودة، ومن المرجح أن تحليل رينكور أكثر واقعية بتحول النظام الأمريكي من الديموقراطية إلى القيصرية بشكل بطيء وغير مقصود. ومع كل ذلك، فإن كتاب “ديموقراطية للقلة” يعد من الكتب العميقة في تشريح الديموقراطية، وهو لا يتوقف عند حصر المثالب، بل يتحدث عن طرق الإصلاح، وهي طرق يجب أن تبدأ بإصلاح النظام الاقتصادي الذي يشكل المحتوى الحقيقي للديموقراطية، وبغير ذلك لا يمكن الهداية نحو العصر الديموقراطي (16).
• سايمون تورمي.. نهاية السياسة التمثيلية..
تورمي هو أستاذ إيرلندي مختص في النظرية السياسية، وهو عميد كلية العلوم الاجتماعية والسياسية في أستراليا، وله عدة مؤلفات من بينها كتاب عنونه بـ “نهاية السياسة التمثيلية”، وهو عنوان ينطوي على نوع من الجزمية تجاه الديموقراطية التمثيلية التي تكاد تصل إلى نهايتها، وليس لتورمي نفسه آراء عميقة، وإنما تكمن قيمة كتابه في تلخيص عشرات الكتب والأبحاث والمقالات التي ركزت على كشف أزمة الديموقراطية الليبرالية وما صاحب هذه الأزمة من ظواهر، مثل تنامي الشعبوية، وفقدان الثقة في الطبقة السياسية، وظهور الأحزاب الصغيرة المنبعثة من ردات الفعل الغاضبة التي لا تقوم على رؤية فكرية أو أيديولوجية متماسكة أو برامج منظمة أو حتى تمرد النخب الغنية التي لا تعاني الاضطهاد الفردي كالفنانين والمشاهير. ومن بداية الكتاب يقدم تورمي عشرات الأسماء للحركات والشخصيات المناهضة للديموقراطية الليبرالية، فكتابه عبارة عن دراسة لما يتخلق، وقد يمهد للانتقال نحو بعض الأشكال الجديدة للديموقراطية، وهي الديموقراطية الرقابية أو ما يسميه عالم الاجتماع الإنجليزي “كولن كراوتش” (ما بعد الديموقراطية)، أي البحث عن نظام جديد ينطوي على هياكل أخرى لصنع القرار والحوكمة الجماعية بصورة أكبر من تلك الموجودة في الديموقراطية المعاصرة. ويذهب تورمي إلى أن الديموقراطية النيابية تعاني أزمة حقيقية، وهي أزمة تعكسها أربعة مظاهر واضحة هي، انخفاض المشاركة الانتخابية، تدني الانتماء للأحزاب السياسية، انعدام الثقة في السياسيين، وتراجع الاهتمام بالسياسة (17). ولقد أصبحت ظاهرة انخفاض المشاركة الانتخابية، وهي أشد وضوحاً في الدول الراسخة في الديموقراطية التي تشهد القليل من الإقبال، وباستثناء الانتخابات الرئاسية التي تصاحبها المعارك المثيرة وحملات الإعلام المكثفة، فإن الانتخابات على مستوى البرلمانات أو المجالس المحلية تتدنى باستمرار، وعلى العكس من ذلك فإن دول الديموقراطية الناشئة تشهد إقبالاً أكبر لأسباب ترجع إلى التلهف للديموقراطية عقب الاستبداد أو بسبب الحماس الظرفي الناشئ عن تصورات وهمية، لكن ذلك يتراجع فيما بعد بسبب خيبات الأمل المتكررة، أما الانتماء للأحزاب فقد بدأ في التراجع لأن الأحزاب فقدت جاذبيتها، ويقدم تورمي إحصائيات مريعة، فقد كانت الأحزاب في الدول الديموقراطية تضم ما بين 20- 30% من الناخبين وقد تدنت اليوم إلى 1% مما يضعف الأحزاب إضعافاً كبيراً.
إن الأحزاب في الأنظمة الديموقراطية هي المحرك الحيوي للمؤسسات الديموقراطية باعتبارها الأداة الرئيسية لبلورة الأفكار الفردية وتصميم البرامج والخطط السياسية، وهي تعتمد في قوتها ودورها على حجم قواعدها، وحين تفقد هذه القواعد فإنها تفقد فاعليتها، وتطرح مسألة التدني هذه مشاكل مركبة ذات تأثير بالغ في العمل الديموقراطي، وفي مقدمة ذلك (ارتماء الأحزاب في أحضان الشركات الكبرى)، ذلك أن تدني الانتماء يضعف التمويل مما يجعل الأحزاب في حاجة إلى ممول، وهو من يصنع سياستها ضرورة.
إن هذا التدني أصبح ظاهرة عامة شملت الأحزاب ذات الطابع اليساري، فهذه الأحزاب التي تقوم عقيدتها – في الأصل – على مقاومة الظلم وطغيان الأغنياء، فقدت بريقها وجاذبيتها أيضاً، وهناك اليوم تحول ملحوظ نحو الحركات الاحتجاجية، مثل حركة “النجوم الخمسة” في إيطاليا، أو حركة “احتلوا وول ستريت” الأمريكية التي أصبحت حركة عالمية في سنوات قصيرة، أو حركة “انهض” في أستراليا. وتعاني الديموقراطية الليبرالية من فقدان الثقة في الطبقة السياسية، بسبب الفشل والفساد والخداع الذي تمارسه هذه الطبقة، وقد وصل الأمر اليوم إلى جعل الشخصية السياسية شخصية محتقرة، فقد حل الاحتقار محل الاحترام الذي كان يحظى به السياسي إلى وقت قريب، ولأن الطبقة السياسية هي الجسم الوسيط بين الشعب ومؤسسات الديموقراطية، فإن العداء وانعدام الثقة انعكسا على فاعلية المؤسسات، وكل ذلك قد قاد إلى الظاهرة الرابعة، وهي فقدان الاهتمام بالسياسة، وفقدان الديموقراطية لأحد أهم أركانها وهو المراقبة والمساءلة فلا تنتعش الديموقراطية إلا بوجود ثقافتها الإيجابية الهادفة، وهي تتراجع وتموت في ظل الفتور واللامبالاة وعدم الاكتراث.
• جون كين.. حياة الديمقراطية وموتها..
جون كين هو أستاذ معروف في جامعة سدني بأستراليا مختص في العلوم السياسية وأستاذ بارز في جامعة بكين ومؤسس مركز دراسة الديموقراطية في لندن، وهو أول مركز من نوعه في العالم، وعرف كين بكتاباته الإبداعية حول الديموقراطية، وحاصل ومرشح لنيل جوائز عالمية بسبب مساهماته العميقة في أبحاث الديموقراطية، وله كتب منشورة بمختلف اللغات، ومن أهمها كتاب “حياة الديموقراطية وموتها” وهو كتاب ضخم جداً، يزيد عدد صفحاته على 1200 صفحة، وقد صدر الكتاب باللغات الصينية والإسبانية والبرتغالية والكورية، ودخل اللغة العربية مؤخراً عام 2021م.في عام 2009م، وبعد سلسلة من الكتابات حول الديموقراطية، أصدر كين كتاب “حياة الديموقراطية وموتها”، وهو كتاب يصعب تلخيصه بسبب كثرة الأفكار وتنوع التجارب المعروضة فيه والتناول التاريخي الطويل للديموقراطية منذ إبداعها في العصور القديمة حتى اليوم، وبصرف النظر عن أفكار كثيرة تستحق التأمل والتعليق، ومن بينها نفي أسطورة نشوء الديموقراطية المباشرة في بلاد اليونان التي سبقتها – كما يقول – ديموقراطيات الشرق في مصر والهند وبلاد الرافدين، بصرف النظر عن ذلك، فإن أهم ما يذهب إليه هو الاعتراف بهشاشة الديموقراطية الليبرالية اليوم ودخولها في المنعطف الأخير والحاجة إلى نظام جديد وهو نظام “ما بعد الديموقراطية” الذي يطلق عليه اسم “الديموقراطية الرقابية”.
في هذا الكتاب، يستعرض كين تاريخ الديموقراطية التي بدأت موجتها الأولى في أمم الشرق واليونان، وهي الموجة الإبداعية الأولى على صعيد البحث عن أسس جديدة لنظم الحكم خارج نظم الاستبداد المألوفة، فهي المرة الأولى في التاريخ التي يقام فيها نظام حكم يعيد السلطة والسيادة للشعب الذي ينغمس بصورة كلية ومباشرة في ممارسة السلطة، وهو النظام الذي استمر عدة قرون قبل أن ينتكس لأسباب عملية تتعلق بالتغيرات البنيوية في طبيعة الدولة، أما الموجة الثانية فهي “الديموقراطية التمثيلية” التي ولدت مع عصر النهضة الأوربية وازدهرت نحو قرنين من الزمان، لكنها اليوم تعيش عصر أزمتها الحادة، وهو يسخر من دعاة نظرية نهاية التاريخ التي تروج بأن هذه الديموقراطية، بشكلها الحالي، تمثل نهاية المطاف، إن هذه الديموقراطية، في نظرة، مكتوبة على الرمال وليست منقوشة في الصخر كما يزعمون، فهي نظام تسري عليه قوانين الكون وفي مقدمتها قوانين التغير والزوال، ورغم اعترافه بأهميتها وأهمية قيمها الخالدة، إلا أنها مصابة اليوم بالعقم، وهي مثل الديموقراطية الكلاسيكية سيجرفها تيار الزمان.
إنه يشارك غيره من المفكرين والمثقفين الغربيين في الاعتراف بأزمة الديموقراطية الليبرالية الحديثة، وهي الأزمة التي يعكسها فقدان الثقة من شعوبها في أداء وشكل الحكومات وتعفن المؤسسات والسيطرة الكلية لأقليات محدودة على دفة الحكم، مما جعل الديموقراطية تتلاشى تدريجياً، وهناك حاجة إلى ديموقراطية “ما بعد التمثيل” لمعالجة ما يسميه “ديموقراطية وستمنستر” الآفلة.
إن ديموقراطية وستمنستر كما يسميها، أصبحت مثل موقد على الجليد غير قابلة للاشتعال، وبعد أن يستعرض تجارب أخرى للديموقراطية من خارج العالم الغربي مثل الهند واليابان.. إلخ، فإنه يستنتج الحاجة إلى تطوير الديموقراطية، وهو مع عمق تحليلاته لواقع الديموقراطية ومعضلاتها، فإنه يطرح ما يسميه “الديموقراطية الرقابية” لعلاج الأزمة.
إن ما يسميه الديموقراطية الرقابية هي بمثابة “كلاب المساعدة وكلاب النباح” التي تساعد فاقدي البصر ورعاة القطعان في تلمس الطريق وتحسس الأخطار، فالنظام التمثيلي السائد أصبح مشابهاً للعميان، وهناك حاجة لمساعدته على السير عن طريق الديموقراطية الرقابية التي تقوم على إدماج عناصر جديدة كمنظمات المجتمع المدني وأجهزة مراقبة السلطة ولجان النزاهة ومجالس المواطنين وبرلمانات الأقليات والنشاط القضائي والمساءلة العامة المستقلة.. الخ.
يدعو كين بصورة ما إلى إيجاد سلطة “فوق البرلمانية” لانتشال الديموقراطية، فهو مع إدراكه لتعثر النظام التمثيلي، إلا أنه يعترف بضرورته باعتباره ركناً من أركان الديموقراطية، لكنه لم يعد كافياً، وحده، لضمان إصلاح الديموقراطية، ورغم جدية تحليله وأطروحاته النقدية، إلا أنه، كغيره من المفكرين الغربيين، يقف حائراً عند البحث عن البدائل، فهو على أي حال، ما زال مؤمناً بالنظام التمثيلي، ولم يمد بصره إلى أبعد من ذلك، فالواقع أن الفكر الغربي في مجمله، مصاب بالحيرة، عندما يتعلق الأمر بالإصلاح، ولا يقدم غير وصفات تلفيقية لن تعالج – على الأرجح – صعوبات الديموقراطية المزمنة (18).
خلاصة
هناك اليوم مئات الكتب والأبحاث والمقالات الصادرة في الغرب التي بدأت تنوح على الديموقراطية وتتذكر عصورها الذهبية، وهي أعمال لا يمكن حصرها ومتابعتها، وليس من هدف هذه الأعمال الشماتة والنقد الهدام، بل غايتها الإصلاح قبل فوات الأوان، لأن الديموقراطية بدأت تفقد روحها وحيويتها وتستنزف أسسها الأخلاقية.
ولم يعد النواح على الديموقراطية حبيساً في الدوائر الأكاديمية التي قد لا تدرك ضرورات الدولة ومتطلباتها الأمنية، بل امتد للطبقة السياسية نفسها التي بدأت تعترف وتتحسر على ضياع، ليس مؤسسات الديموقراطية، بل قيمها الأساسية، وعلى سبيل المثال، فإن الرئيس الأمريكي الأسبق “جيمي كارتر” كتب في شيخوخته أحد أهم كتبه “قيمنا المعرضة للخطر”، وينطوي العنوان، بصرف النظر عن المضامين، على حسرته الشديدة على قيم الديموقراطية التي كانت من مفاخر الأمة الأمريكية، وهو يعترف بكل وضوح بأن “الحرية” نفسها أصبحت في خطر، إذ ازدادت القيود بصورة غير معقولة في الولايات المتحدة الأمريكية وبحجة مكافحة الإرهاب، فإن القيود لم تقتصر على الأجانب، بل طالت المواطن الأمريكي الذي أصبح، وفقاً للقانون “الوطني”، عرضة للقبض والتفتيش والاحتجاز ومصادرة الممتلكات والاستيلاء على المعلومات الشخصية والكتب والمراسلات ومداهمة الأماكن والاستيلاء على السجلات، وذلك فضلاً عن الاعتقال والتعذيب والحرمان من حقوق الدفاع.. إلخ (19).
أما “فرانسيس فوكوياما”، وهو الذي بشر في التسعينيات بنهاية التاريخ معلناً بأن الديموقراطية الليبرالية، وعلى الأخص بنموذجها الأمريكي، شكلت نهاية التاريخ بحيث لم يعد للفلاسفة من حجة لمزيد من البحث عن أفضل أشكال الحكم، فقد بدأ في التراجع عن حكمه القطعي بسبب خيبات أمله في أداء الديموقراطية، سواء في الغرب أم في الدول التي تعيش على معتقداته، وفي عام 2006م كتب كتابه (أمريكا على مفترق الطرق)، وقد انطوى الكتاب على أفكار كثيرة، وما يهمنا منها أفكار ثلاث هي، تبرؤه من المحافظة الجديدة، وحاجة الديموقراطية الليبرالية لإعادة الهندسة بالتنمية السياسية والاقتصادية، وهو ما اسماه “الهندسة الاجتماعية”، وأخيراً اعترافه بخصوصية المجتمعات وحاجتها لديموقراطيتها الخاصة وعدم صلاحية النموذج الغربي للتعميم والفرض بالقوة (20).
الوجه الخارجي للديموقراطية
لعل أبشع وجوه الديموقراطية الليبرالية هو وجهها الخارجي الذي يعكس التناقض التام بين قيمها النظرية المطروحة وممارستها العملية البشعة، وبينما تطرح الديموقراطية قيمها النظرية باعتبارها نظاماً يقوم على الرحمة والتسامح واحترام التعدد وكرامة الإنسان وحقه في الحياة والحرية وسلامة الروح والجسد ونبذ العنف والإكراه والتعذيب والتعسف.. إلخ، فإنها من الناحية العملية نظام يتسم بالوحشية والعنصرية، فهي نظام عدواني من الدرجة الأولى عندما يتعلق الأمر بالغير من الأمم والشعوب الأخرى، وليس من المصادفات التاريخية تزامن ظهور الديموقراطية مع توسع الاستعمار وبلوغه ذروة الوحشية، فالقرن التاسع عشر الذي شهد ذروة ازدهار الديموقراطية وانتشارها في عموم دول الغرب، هو القرن نفسه الذي شهد اتفاق الدول الديموقراطية على التوسع الاستعماري واقتسام النفوذ، فبعد اكتمال ظهور الدول القومية وتحقق الوحدات الأوروبية وفي ظل البرلمانات المنتخبة والحكومات الديموقراطية، عقد مؤتمر برلين عام 1880م الذي أطلق المرحلة الوحشية للاستعمار، وتحت جناح هذه الديموقراطيات تم إبادة مئات الملايين من البشر واستنفدت موارد وخيرات الشعوب في عشرات الدول وسخرت هذه الخيرات لرفاهية الدول الغربية، وفي هذه المرحلة ابتكرت الدول الديموقراطية أبشع وسائل التعذيب، فمارست الإعدام الجماعي، وشيدت المعتقلات الجماعية الرهيبة، وعصفت بكافة حقوق الإنسان، فاعتقلت وعذبت وشردت ونهبت دون أي وازع ديني أو أخلاقي أو قانوني، ومع بزوغ القرن العشرين، فإن الديموقراطيات الغربية، انسجاماً مع خصائصها العدوانية، شنت الحروب الكبرى وقتلت وشردت – مرة أخرى – مئات الملايين دون رحمة، وليس هناك مقولة أكثر زيفاً من الادعاء بأن الديموقراطية لا تمارس الحروب العدوانية، فكل حروب الديموقراطية ذات طابع عدواني، لأن هذه الديموقراطية تنتج (الطغاة) كما يمكن أن تنتج القادة الحكماء، فهي التي انتخبت (أدولف هتلر) في ظل الدساتير الديموقراطية “دستور فايمر” وهي التي انتخبت (بنيتو موسوليني) في ظل الملكية الدستورية.
إن الديموقراطية، في الماضي والحاضر، صالحة لإنتاج (الطغاة) مثلها مثل نظم الاستبداد، بل إنها تضفي شرعية أكبر على طغاة الديموقراطية، وليس في هذا النظام أية ضمانة لإنتاج العقلاء، فالديموقراطية الأمريكية التي انتخبت “واشنطن ولنكولن وإيزنهاور” هي نفسها التي انتخبت “جورج بوش الصغير” “ودونالد ترامب” وهما من طغاة الديموقراطية في العصر الحديث، والديموقراطية الفرنسية التي انتخبت “شارل ديغول وجاك شيراك” هي التي انتخبت “ساركوزي” وهي من تفتح الأبواب أمام السيدة “ماري لوبان”. ولقد كان “جورج بوش الصغير” طاغية لا يرحم، وعلى جناح “الديموقراطية الوراثية” وصل لقمة سلطة أمريكا والعالم ليكتب في التاريخ صفحة من أشد الصفحات سواداً، فباسم الله قام بشن أشد الحروب وحشية في العراق وأفغانستان، وفي عهده سنت أبشع القوانين المقيدة للحرية والمشرعنة للتعذيب والاحتجاز والقتل وبنيت المعتقلات والسجون الأكثر ظلاماً، فقد وقع الرجل الأكثر خواءً بيد طغمة “المحافظين الجدد” لينتج معهم النسخة الأكثر تطوراً “للمكارثية” المتوحشة، ولقد كان بوش الصغير لا يمتلك من مقومات الحكم غير المجد العائلي والاستعداد للطاعة العمياء لمخططات المحافظين الجدد، وهم فئة لا تؤمن بغير القوة والعنف والقسوة المغلفة بالهرطقات الدينية الزائفة (21).
ولم يتوقف الوجه البشع للديموقراطية الغربية عند حلقة الاستعمار والحروب الكونية الكبرى، فسلوكها العدواني الوحشي ما زال مستمراً تنقله إلينا الأخبار كل صباح، حيث تمارس الدول الديموقراطية الغربية سياساتها العنصرية في كل مكان تصل إليه وتخطط سياسات الحروب والحصار والعمل على تغيير الأنظمة بالقوة والتآمر لإشعال الفتن تحركها الروح الأنانية والعدوانية، ومهما كان حجم دعايتها وقوة إعلامها، فإن النخب الواعية، على الأقل، لم تعد قابلة لخداعها.
الجوانب المعطوبة في الديموقراطية
إن الديموقراطية، في الأصل، منظومة واحدة متكاملة، ومع ذلك فإنها تتشكل من جوانب تتكامل مع بعضها البعض، ولكي يكون النظام ديموقراطياً، لابد من سلامة كل جانب من هذه الجوانب، وإذا أصيب أحدها بالعطب، فإن الديموقراطية تصاب بالاختلال، والواقع أن لأي نظام سياسي، بما في ذلك الديموقراطية، ثلاثة جوانب، هي القيم التي يقوم عليها، والمؤسسات التي تجسد هذه القيم، والمظاهر والإجراءات التي تكرسه وتدل على وجوده، وفي هذا البحث سنشير إلى هذه الجوانب بصورة موجزة جداً ومحاولة البحث في موطن الخلل الذي أصاب الديموقراطية المعاصرة.
أولاً: قيم الديموقراطية
قيم الديموقراطية، هي الهدف النهائي المرغوب في تحقيقه، وهي بهذا المعنى، الجانب الأكثر أهمية في الديموقراطية، فالواقع أن المؤسسات والإجراءات عبارة عن آلية لتجسيد القيم النظرية المجردة، وليس هناك اتفاق تام على (مصفوفة قيم الديموقراطية)، ولكن هذه القيم تدور حول فكرة جوهرية واحدة هي (ضمان العيش بحرية) في مجتمع تتضارب فيه مصالح الأفراد مما يدفعهم “للصراع”، وهكذا فإن الديموقراطية عبارة عن نظام لضبط الصراع وتقنينه ليدور بصورة سليمة مقبولة في ظل أقل ما يمكن من (القيود) على حرية الأفراد مما يصح معه القول إن الديموقراطية هي “نظام للحرية”، لكن هذا المعنى العام ليس كافياً، وهو ما دفع الفلاسفة والمفكرين إلى محاولة إيجاد مصفوفة، أكثر تفصيلاً لقيم الحرية والديموقراطية، وهي مصفوفة تتسع وتضيق بحسب نظرة الفيلسوف والمفكر، وقد حصرها “جون لوك مثلاً” في ثلاث، هي: “حق الحياة والحرية وطلب السعادة”، وتلك هي القيم التي استلهمها إعلان الاستقلال الأمريكي الصادر عام 1776م مستبدلاً “الملكية” بطلب السعادة، وهو النهج نفسه تقريباً الذي اتبعته الثورة الفرنسية عام 1789م حين رفعت شعار “الحرية والإخاء والمساواة”، وجسدته في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وذلك في أربعة حقوق، هي: “الحرية، الملكية، الأمن، ومقاومة الظلم والطغيان”، فتلك هي الحقوق الطبيعية. ومع الزمن وبتطور الديموقراطية، فإن قيم الديموقراطية بدأت التزايد في اتجاه الفضائل الإنسانية الكبرى، كالعدالة والمساواة والكرامة وحرمات الجسد والعقل وحريات التصرف والاختيار، وإذا كان من غير الممكن حصر قيم الديموقراطية الكثيرة، فإنه يمكن، إضافة إلى ما ذهب إليه “دايموند”، إدراج القيم الأساسية للديموقراطية في كونها تقوم على ما يلي:
• حرية واسعة تقوم على أقل ما يمكن من الحواجز القانونية، فإذا كانت الحرية المطلقة غير ممكنة، وأحياناً مضرة، فإن النظام الديموقراطي يجب أن يقوم على أوسع ممارسة للحرية لتشمل كل الحريات المنصوص عليها في الدساتير والمواثيق الوطنية والدولية، مثل حريات الاعتقاد والتعبير والمشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحقوق التملك والعمل والمعرفة والتنقل والانتماء للأحزاب والمنظمات… إلخ.
• المساواة بين المواطنين، واعتبار المواطنة هي القاعدة الأساسية للحقوق والحريات.
• العدالة التامة بين المواطنين وقيام النظام على التكافؤ الحقيقي للفرص.
• ضمان المشاركة السياسية الحقيقية والواسعة دون فوارق اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
• الاعتراف بالتعددية الفكرية والسياسية والعرقية والدينية.
• سيادة القانون وخضوع الحكام للمساءلة وتجسيد مبدأ التداول السلمي للسلطة.
• مضمون اقتصادي للدولة يحد من الفوارق ويمنع الأقلية من التحكم في الحياة السياسية.
• مصفوفة واسعة من الحقوق والحريات المضمونة بطريقة فعالة بالدستور والقوانين.
• مضمون أخلاقي للدولة باعتبارها هيئة جماعية غايتها تحقيق السلم والاستقرار والرفاه.
• تربية المواطنين على الروح الوطنية والولاء والاعتزاز بالدولة.
• رؤية إنسانية شاملة تقوم على احترام الآخر والرغبة في التعايش في مناخ السلام ونشر مبادئ الاعتدال والتسامح.
تلك هي معظم قيم الديموقراطية، وهي تتوسع باستمرار، فكلما ازدهرت الديموقراطية اتسعت مساحة الحرية في إطار الضوابط الأخلاقية والقانونية والإنسانية، وهي قيم كونية تتفق جميع الأمم على جوهرها، وقد ترسخت مع الزمن في وجدان الشعوب جميعاً، وهي ليست حكراً، كما يشاع، على الحضارة الغربية، والحق أن هذه الحضارة أسهمت في إضعافها أكثر مما أضافت إليها.
ثانياً: مؤسسات الديموقراطية
مؤسسات الديموقراطية هي “وعاء القيم”، وبدون المؤسسات الفعالة، تتحول القيم إلى شعارات خادعة، فالمؤسسات هي التجسيد الحي والمادي للقيم المجردة، ويعتمد نجاح الديموقراطية وازدهارها على قدرة المؤسسات على حمل قيم الديموقراطية والتعبير عنها، وينشأ الفشل الديموقراطي عند قصور المؤسسات أو عجزها أو عدم تلاؤمها مع قيم الديموقراطية.
وليس للديموقراطية، في الواقع، مؤسسات كثيرة التعقيد من الناحية النظرية، فهي تقوم على مؤسسات رئيسية محدودة وواضحة تماماً، تكملها مؤسسات فرعية تجعلها أكثر فاعلية، ورغم تنوع المؤسسات واختلافاتها الطفيفة من دولة إلى أخرى، إلا أنها مؤسسات تقوم فكرتها الرئيسية على تجسيد إرادة الشعب وضمان مشاركته في الشأن العام، وأول هذه المؤسسات هو وجود “نظام تمثيلي” يقوم على مجلس نيابي يختاره الشعب ويتولى الحكم بالتشريع نيابة عنه وحكومة خاضعة لتوجيهه ومراقبته، كل ذلك في إطار دستور مكتوب، يجب أن يكون واضحاً ودقيقاً، مهما كان شكله ومصادره، فالدستور، بمعنى ما، هو المؤسسة الرئيسية وحجر الأساس في بناء الدولة، ثم المجالس والحكومات باعتبارها العنصر الحيوي لتحريك الدولة.
إن هذه المؤسسات، في الديموقراطية الحقيقية، هي العنصر المادي المجسد لقيم الديموقراطية، وكلما كانت هذه المؤسسات قادرة على تجسيد القيم، فإن الديموقراطية تنمو وتزدهر، وكلما تباعدت عن ذلك فإن النظام يتحول نحو شكل آخر.
إن محنة الديموقراطية اليوم، كما كانت في كثير من الحقب، تكمن في عجز المؤسسات أو عدم صلاحيتها لتجسيد القيم، فالديموقراطية التي تقوم على قيمة (المساواة) تفقد معناها في المجتمعات الطبقية حين تتحول المجالس النيابية والحكومات إلى تمثيل الطبقة النافذة وليس الشعب السياسي في مجمله، وتغدو المشاركة المنصوص عليها في الدستور مجرد أطروحة نظرية، وهكذا تتحول الديموقراطية إلى عملية شكلية لأنها تغدو ديموقراطية للقلة (22).
إن الديموقراطية، كما يقول “بارنتي” أعمق بكثير من كونها “مجرد قواعد تحكم اللعبة السياسية” فالديموقراطية، دون مضامين اقتصادية، تتحول هي نفسها إلى لعبة، ولا يشفع في ذلك وجود حريات شكلية، مثل حرية التعبير والكلام، فالديموقراطية ليست “ندوة” للتعبير، ولكنها نظام حكم للشعب كله.
إن ما ينطبق على المساواة، ينطبق على غيرها من القيم، فالمشاركة السياسية والحريات والحقوق والعدالة، وغير ذلك من القيم، أصبحت في ظل الديموقراطية المعاصرة مجرد أوراق في لعبة الديموقراطية.
ثالثاً: المظاهر والإجراءات..
المظاهر جانب مهم في الديموقراطية، ومن أهم هذه المظاهر والإجراءات “وجود نظام انتخابي دقيق يتصف بالشفافية والنزاهة، ولأهمية الانتخابات في النظام الديموقراطي فقد أصبح يعتبر في نظر الكثيرين معياراً ودليلاً على وجود الديموقراطية، فلم تتوصل البشرية، بعد، إلى نظام آخر يشكل آلية عملية لاختيار القيادات السياسية وضمان تداول السلطة، ولأهمية الانتخابات في النظم الديموقراطية، فقد أصبحت ترتفع إلى مستوى القيم.
إن هذا المظهر المهم للديموقراطية لا ينطوي – في ذاته – على المعنى الديموقراطي في جميع الأحوال، حتى لو اتصف بالنزاهة والشفافية، وسواء في الديموقراطيات أو نظم الاستبداد، فإن الانتخابات تحولت، في كثير من الأحيان، إلى مظهر زائف لا يتجاوز دوره دور طبقة رقيقة من السكر تخفي ما تحتها من طعم شديد المرارة، وكثيراً ما تحولت الانتخابات إلى وسيلة لإخفاء الطابع الفردي والاستبدادي للنظم السياسية.
ورغم أهمية الانتخاب باعتبارها مظهراً وآلية لاختيار الحكام، فإن الشكوك تتزايد باستمرار حول ادعاءات الشفافية والنزاهة، وذلك ليس في العالم الثالث كما يظن، بل في معاقل الديموقراطية الغربية، ومن المشكوك فيه اليوم وجود نظام انتخابي نزيه وشفاف، فلم تعد العملية الانتخابية بتلك البساطة القديمة، إذ أصبحت عملية معقدة تتداخل فيها الأموال الفاسدة والرشاوى والتمويل والخداع والديماغوجية والوعود والضغوط والفضائح والصفقات، وإذا وضعت الانتخابات تحت المجهر فإن ما سيتكشف سيكون مفزعاً وغريباً، والواقع أن الزيف الانتخابي غدا أكثر وضوحاً في المجتمعات الغربية تتداوله وسائل الإعلام والمحاكم والرأي العام كما في انتخاب ساركوزي لرئاسة فرنسا أو ترامب في الرئاسة الأمريكية، ويمكن القول باطمئنان إن الانتخابات في النظم الغربية أصبحت أقل نزاهة وشفافية مما هي عليه في العالم الثالث.
إن إحدى أهم (الملاحظات) على الديموقراطية المعاصرة تتعلق بالتناقض المتزايد بين قيم الديموقراطية ومؤسساتها ومظاهرها، وأن ما يمكن تثبيته هو أن قيم الديموقراطية لا تزال سليمة لم تصب بالعطب، ومما يجدر ملاحظته “أن قيم الديموقراطية ذات طابع كوني” مستمدة ومقبولة من كل الحضارات والثقافات، أما العطب، فإنه يرجع – على الأرجح – إلى الخلل الكبير في المؤسسات والمظاهر التي لم تعد قادرة على تجسيد قيم الديموقراطية، وعلى هذه المؤسسات والمظاهر يجب أن ينصب الإصلاح.
عند دراسة الديموقراطية بأفكارها الكبرى ومؤسساتها السياسية يمكن التوصل إلى عشرات الاستنتاجات والملاحظات، بعضها إيجابي وبعضها سلبي، فعبر آلاف السنين تطورت أسس وأفكار الديموقراطية، وتقلب هذا النظام ليبلغ في بعض مراحل التاريخ ذروة الازدهار، ويتدنى في مراحل أخرى إلى أدنى المستويات، وفي هذا البحث سنتوقف عند الاستنتاجات والملاحظات الكبرى التي نعتقد أنها أكثر أهمية وأكثر فائدة في إصلاح الديموقراطية بشكل عام وفي الوطن العربي بشكل خاص، وهي استنتاجات وملاحظات يمكن البناء عليها في التخطيط لمحاولة بناء نموذج عربي للديموقراطية، وذلك على النحو التالي:
استنتاجات
أولاً: الديموقراطية عملية تاريخية كبرى
الديموقراطية، مثلها مثل التحولات التاريخية الكبرى، ليست “نزعة” أو رغبة تنشأ عند فرد أو جماعة بسبب قناعة فكرية أو بسبب الضغوط الداخلية أو الخارجية، بل هي عملية تحول تاريخي يرتبط باشتراطات موضوعية تهيئ لنجاحها، وعند فقدان هذه الشروط أو ضعفها فإن الديموقراطية تصاب بالفشل والتعثر.
إن العمليات التاريخية الكبرى مثل الحضارة أو النهضة أو التنمية ترتبط بشروط موضوعية، مادية ومعنوية، فلا يمكن لأمة أن تنتقل من البدائية إلى الحضارة أو من التخلف للنهضة أو من الفقر نحو التنمية إلَّا بتوافر شروط ذلك، وهكذا فإن الديموقراطية، مثلها مثل هذه التحولات التاريخية الكبرى، لا تستطيع شق طريقها دون توافر اشتراطاتها، وهي عملية ذات طريق طويل، فالأمم الديموقراطية القائمة اليوم، لم تصل إلى ما وصلت إليه في وقت قصير، فقد كانت رحلة الديموقراطية شاقة وبطيئة اعتمدت على الصبر والتراكم والتدرج والتحسن المستمر وفي ظروف لا تخلو من الصراعات والانتكاسات.
ويخطئ خطأً فادحاً من يظن أن الديموقراطية يمكن أن تنشأ بقرار سياسي أو رغبة جارفة، حتى وإن كانت صادقة.
نعم، إن الرغبة والعزيمة والمثابرة من لوازم الديموقراطية، وإن الجهد الإنساني الذي يقوم به الفلاسفة وأهل الفكر والسياسة، من شروط إقامة الديموقراطية ومن عوامل نجاحها، غير أن ذلك لا يعد كافياً وحده لإنجاز الديموقراطية.
وللديموقراطية شروط كثيرة، غير أن أهم شروطها – في نظري – يعود للعوامل الثقافية، فالديموقراطية ليست عملية سياسية أحادية الجانب، بل هي في الأساس عملية ثقافية مركبة تعود للبيئة التي تنشأ فيها والإنسان الذي ينهض بأعبائها.
ولقد قضيت سنوات من البحث والتأمل للبحث في شروط الديموقراطية الموضوعية، وقد استنتجت أن للديموقراطية خمسة شروط أساسية لا تنشأ ولا تزدهر إلا مع توافرها (23)، غير أن أهمها على الإطلاق هو (ازدهار الفلسفة والثقافة). وهو ما يتطلب بعض الشرح الموجز جداً.
قد يكون من أروع الكتب الباحثة في تاريخ الفلسفة، كتاب “ول ديورانت” (قصة الفلسفة)، وبصرف النظر عن أبعاد كثيرة في هذا الكتاب الملخص الشامل لتاريخ الفلسفة، فإن من أهم استنتاجاته، أن الفلسفة، طوال التاريخ الإنساني، مرت بثلاثة عصور زاهية، بلغت فيها الفلسفة ذروتها، من حيث النوع والكم، وهي عصور أعقبتها عصور أخرى من ذبول الفلسفة وانحطاطها، وقد لاحظ “ديورانت” أن هذه العصور ظهرت في ظل حضارات الغرب الأساسية وهي حضارة الإغريق والرومان والحضارة الغربية الحديثة، فقد ازدهرت الفلسفة والثقافة في ظل هذه الحضارات، وانتكست بانتكاسها. وفي دراستي لتاريخ الديموقراطية، فقد لاحظت أن الديموقراطية أيضاً، ازدهرت في التاريخ الإنساني في ثلاثة عصور أيضاً، هي نفسها عصور ازدهار الفلسفة والحضارة، مما دعاني إلى إطلاق مصطلح “الشقيقات الثلاث” لوصف هذه الحالة بسبب الترابط الوثيق بين هذه الظواهر.
لقد بدأت الحضارة اليونانية – على الأرجح – في القرن الثامن قبل الميلاد عام 776 ق.م. وبعد نحو قرن بدأت قصة الفلسفة المعروفة على يد “طاليس الملطي”، أما الديموقراطية (المنظمة والفعالة) فقد بدأت في القرن السادس قبل الميلاد على يد “صولون” وذلك عام 594 ق.م.
إن هذا الترابط ليس وليد الصدفة، بل إنه ينطوي على دلالة واضحة.
لقد كانت ولادة الفلسفة والديموقراطية متزامنة، أما الازدهار الديموقراطي فقد بلغ ذروته مع ازدهار الفلسفة والثقافة، فقد بلغت الفلسفة ذروتها في القرنين الخامس والرابع وهو عصر الفلاسفة العظام (سقراط وأفلاطون وأرسطو) وهو العصر نفسه الذي بلغت فيه الديموقراطية ذروتها (عصر بركليس)، وقد بدأت الديموقراطية في التهاوي عشية موت أرسطو عام 322 ق.م. وهذا هو الدرس الأول من دروس تاريخ الديموقراطية الذي سيتكرر بعد ذلك، وذلك جدير بالملاحظة.
لقد بلغت الفلسفة ذروتها الثانية في العصر الجمهوري الروماني (24) الذي ينقسم بدوره إلى عصرين الأول والثاني، والعصر الأخير هو الذي شهد ذروة الفلسفة، فبعد سقوط أثينا نهائياً، انتقلت الفلسفة على يد الرواقيين والإبيقوريين والكلبيين للدولة الرومانية، وبلغت ذروتها في عصر “ماركوس شيشيرون 106- 43 ق.م” و”لوكيوس سينيكا – 4 ق.م – 65م”، ومع أن الفلسفة الرومانية لم تكن ذات طابع أصيل مثل الفلسفة اليونانية، فهي مجرد امتداد لها وإعادة لكتابتها، إلَّا أنها أنتجت ديموقراطية تتناسب مع مستواها، وهي فكرة (الجمهورية) القائمة على نظام (التمثيل النيابي)، فقد عرفت الجمهورية نظام التمثيل والانتخاب على مستوى القناصل ومجلس الشيوخ الروماني وغير ذلك من الوظائف، كما عرفت الكثير من القيم الديموقراطية كالعدالة والمساواة والمشاركة السياسية، ولعل أهم ما أنتجته هذه الفلسفة فكرة (القانون الطبيعي) بما تنطوي عليه من عالمية، وهي الفكرة التي استلهمها شيشرون من الفلسفة الأفلاطونية ثم تغلغلت في ضمير رجال القانون الروماني. وليست الجمهورية، إلَّا تأويلاً جديداً للديموقراطية استلهمها الرومان لإيجاد نظام سياسي يتلاءم مع واقع الدولة الإمبراطورية الكثيرة السكان والواسعة المساحة، فإذا كانت الديموقراطية انعكاساً لدولة (المدينة) الصغيرة، فقد كانت الجمهورية انعكاساً للدولة الإمبراطورية، وهكذا انعكس مستوى الفلسفة وحجم الدولة على النظام الجمهوري الروماني بطابع لا يخلو من ديموقراطية وإن كانت محدودة.
بعد شيشرون وسينيكا، انهارت الفلسفة بصورة كلية تقريباً، وهو ما أدى إلى انهيار الجمهورية ودخلت الدولة الرومانية في عصرها الإمبراطوري الصارم الذي نظر للديموقراطية على أنها نظام مبتذل لا يصلح لإمبراطورية توسعية يقوم منهجها على الغزو والفتح واستعمار الشعوب (البربرية).
إن الغزو والفتح والتوسع، أدخل في سلطة الإمبراطورية شعوباً وأجناساً أخرى ليست مساوية لشعبها الأصلي، وهو ما غير – في الأصل – مفهوم المواطنة وانعكس على قيم المساواة والعدالة والمشاركة ونظام الحكم، وهكذا فإن تهاوي الفلسفة في العصر الإمبراطوري أدى إلى الاختفاء النهائي للديموقراطية لأكثر من ألف عام التي شكلت ظلام الفلسفة وظلام الديموقراطية على السواء، ولا يقدح في ذلك القول بأن زمرة من الفلاسفة المسيحيين ظهروا في العصر الإمبراطوري، من أمثال القديسين، بولس، جريجوري وأوغسطين، ذلك أن هؤلاء الفلاسفة تركزت فلسفتهم على القيم الدينية والدفاع عن المسيحية في ظل إمبراطورية كافرة، ولم يكن لهم، في الواقع، إسهام سياسي يذكر في ميدان الديموقراطية ونظم الحكم.
وهكذا تثبت صحة المعادلة، مرة أخرى، بين الفلسفة والديموقراطية، وللمرة الثالثة، يتكرر الدرس والملاحظة في العصور الحديثة، بالترابط بين الفلسفة والديموقراطية، فبعد ظلام الألف عام، ولدت الفلسفة من جديد في (عصر النهضة الأوروبية)، وبصرف النظر عن اعتبارات كثيرة، فإن عصر الفلسفة الحديثة بحسب “ول ديورانت” يبدأ مع “فرنسيس بيكون 1561- 1626م” الفيلسوف والسياسي الذي وضع أسس المدرسة التجريبية وهي أساس الديموقراطية، وقد بلغت الفلسفة ذروتها مع ظهور “توماس هوبز، جون لوك، جان جاك روسو، البارون منتسكيو… إلخ..”، فقد شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر، ليس ازدهار الفلسفة بشكل عام، بل ازدهار الفلسفة السياسية بصورة خاصة، وهكذا انبعثت الديموقراطية مرة أخرى وبصورة قوية تلائم مستوى الفلسفة ومستوى الدولة القومية أيضاً، وعلى صدى فلسفة العقد الاجتماعي وما تنطوي عليه من أفكار عظيمة عن الحرية والمساواة وحقوق المواطنة، بلغت الديموقراطية ذروتها بالثورات الكبرى، فدبجت الدساتير الحديثة وشيدت المؤسسات الديموقراطية، مما دفع “فردريك هيجل” إلى الصدح بمقولة نهاية التاريخ في مطلع القرن التاسع عشر.
وإلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين ظلت الفلسفة مشتعلة والديموقراطية في طور الازدهار، غير أن عصر الفلسفة بدأ في التهاوي منذ عدة عقود، وهو ما يعني، بالقياس التاريخي، بداية طور الانحطاط للديموقراطية.
يذهب رأي إلى اضمحلال الفلسفة في القرن العشرين الذي لم يشهد ظهور فلاسفة بالمعنى الكامل، فآخر الفلاسفة ولدوا في القرن التاسع عشر، ولعل آخرهم، كما يذهب “ديورانت”، (هنري برجسون، 1859- 1941م)، (وبنيتوكروتشي 1826- 1952م)، وفي أحسن الأحوال قد يضاف إليهما (برتراند راسل 1872- 1970)، أما بعد ذلك، فمن الصعب الحديث عن فلاسفة، رغم وجود من قد يجادل حول قيمة (سارتر في فرنسا، وسانتيانا وجيمس ودوي في أمريكا)، ومع ذلك، فإن قناعتي تذهب إلى أن هؤلاء مفكرون أكثر مما هم فلاسفة، فهم امتداد لغيرهم، والأرجح أنهم يتشابهون مع الرواقيين والإبيقوريين في العصر الهلينستي. وخلاصة الأمر، فإن ظلام الفلسفة الجديد يومئ بانحطاط الديموقراطية، فقد أثبت درس التاريخ التلازم بين الحضارة والفلسفة والديموقراطية، وهكذا فإن الديموقراطية، باعتبارها عملية تاريخية كبرى، بدأت في فقدان أحد شروطها ليخف إشعاعها وبريقها وهو بداية الذبول، وما لم تجد الفلسفة من ينتشلها من وهدتها، فإن الديموقراطية ستعاني المصير نفسه.
هذا على مستوى العالم، أما على المستوى العربي، فإن الأمر أشد وأدهى، ففي ظل العقم الفلسفي والفكري والقحط الثقافي يصعب الحديث عن ديموقراطية حقيقية حيوية وفعالة، وما لم يخضع (العقل العربي) للتجديد والانفتاح على الفلسفة والثقافة، فإنه سيكون عاجزاً عن إبداع الديموقراطية الملائمة لتكوين الأمة، وفي ظل الانكفاء الحالي المرير فإن الآمال تظل ضعيفة.
ثانياً: الديموقراطية عملية مركبة
تتسم الديموقراطية بطابعها الشامل، فهي ليست نظاماً سياسياً يعتمد على البعد السياسي وحده، بل هي عملية مركبة ذات أبعاد ثقافية واقتصادية واجتماعية وتاريخية، والواقع أن البعد السياسي لا يحظى بأهمية استثنائية، بل إنه مجرد انعكاس للأبعاد الأخرى.
ويخطئ كثيراً من يظن أن الديموقراطية يمكن أن تنشأ وتتطور بقرار سياسي يضع الدستور ويشيد المؤسسات ويخوض غمار الانتخابات، فما لم تتكامل للديموقراطية شروطها وتهيأ ظروفها فإنها تغدو شكلاً دون مضمون، ومن المرجح، في هذه الحالة، أن تفاقم الصراعات عوضاً عن تخفيضها.
تنبعث الشروط والعوامل الموضوعية المناسبة للديموقراطية من أوضاع اجتماعية واقتصادية وثقافية وتاريخية، هي التي تعمل لصالح الديموقراطية أو ضدها، فالتطور التاريخي لشعب ما وحجم تجربته السياسية ومستوى وعيه يلعب دوراً بارزاً في استعداده ومقدرته على إدارة الديموقراطية، كما أن بنيانه الاجتماعي ودرجة انسجامه القومي والديني يلعب دوراً مهماً، ففي المجتمعات البدوية القائمة على الولاء القبلي أو الجهري تواجه الديموقراطية صعوبات جمة، كما أن المجتمعات القائمة على التعدد القومي والديني المملوء بذكريات الصراع أقل قابلية للتطور الديموقراطي، وقد تصبح الديموقراطية نفسها أداة لتكريس الفرقة والانقسام وعدم الاستقرار.
إن أول ما تتطلبه الديموقراطية يستند على عوامل ثقافية تتعلق بتنشئة الشعب وتربيته على قيم الديموقراطية، ومن أبرز هذه القيم (الروح الوطنية) وزرع روح الاعتزاز والولاء للوطن الذي لا يعلوه أي ولاء آخر، ومنذ القدم اهتم مفكرو الغرب بظاهرة أطلق عليها (حس الدولة)، تتمثل في تعمق الاعتقاد بالأهمية الاستثنائية للدولة في وجدان المواطن وشعوره المستمر بأن الدولة هي (الإطار الأسمى) القادر على حمايته وإسعاده والاستجابة لآماله وطموحاته بشكل لا تنازعه أية عاطفة أخرى تنبعث من عوامل قومية أو إثنية أو دينية أو طائفية.
إن المجتمعات، بطبيعتها، مجتمعات مركبة ومتنوعة، ومن الطبيعي وجود نوع من الولاء لهذه التكوينات الاجتماعية أو الجهوية، غير أن هذا الولاء يجب أن يتوقف عند حدوده الطبيعية، أما إذا ارتفع هذا الولاء إلى درجة عالية فإنه يستنزف الروح الوطنية ويضعف الولاء للدولة ويدمر الروح الوطنية، وإذا حدث ذلك فإن حس الدولة يتلاشى، وتغدو الديموقراطية نفسها عبارة عن أداة للاستنصار على الآخر ولعبة لقهر شركاء الوطن.
إن ما تعانيه الديموقراطية في العالم الثالث بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص يعود إلى هذا العامل، فقد تغلبت العوامل الاجتماعية، القومية والدينية والطائفية، على العوامل السياسية، فلم ينشأ بعد حس الدولة، ولا يزال الولاء يعود للقبيلة والدين والطائفة، ومن الغريب، حقاً، أن بعض دساتير الدول العربية الأكثر تحضراً ووعياً، تكرس هذا الولاء وتدعمه، وهي من ابتكر أفكار (المحاصصة) التافهة لتعمق الفرقة والتشرذم وتغذي روح الصراع بين القوميات والأديان والطوائف.
إن الديموقراطية تقوم على (المشاركة) النبيلة وليس (المحاصصة) التافهة، فالمشاركة هي انعكاس حقيقي لقيمة (المساواة) جوهر الديموقراطية، وهي تجسيد لفكرة المواطنة، قاعدة الحقوق والحريات، أما المحاصصة فهي التجسيد الحي لنفي المساواة والمواطنة.
إن التنشئة الوطنية وتربية المواطنين على قيم الديموقراطية الحقيقية، هي الشرط الأهم لبناء الديموقراطية وضمان تطورها، ومنذ أفلاطون إلى آخر فلاسفة القرن العشرين، لا يوجد فيلسوف بحث الديموقراطية أو دعا إليها، إلَّا وأعطى أكبر اهتمامه لمسألة التربية، وقد ردد أفلاطون مراراً في كتابه الجمهورية (أن بناء الديموقراطية يتطلب بناء الإنسان الديموقراطي)، والواقع أن كتاب الجمهورية، كما قال عنه (روسو)، هو كتاب في التربية وليس في السياسة، أما روسو نفسه فقد كرس كتاباً تاماً للتربية هو كتاب (آميل أو في التربية) وذلك بعد أن فرغ من كتابة نظريته السياسية.
إن هذا المقام لا يسمح بالإفاضة في موضوع التربية والتنشئة الوطنية لارتباطها الوثيق بالديموقراطية، غير أن ما يجب التأكيد عليه هو الجانب الثقافي في الديموقراطية باعتباره أحد أركانها الرئيسية (25).
أما الركن الثاني، شديد الأهمية، فهو يتعلق بالمضمون الاقتصادي للديموقراطية.
يلعب الاقتصاد دوراً مهماً في الديموقراطية، وهناك من يذهب إلى حد المبالغة بالقول إن الديموقراطية – في الأصل – نشأت لأسباب اقتصادية، فهي في التحليل الأخير، نشأت بسبب الصراع على الثروة، فقد نشأت الديموقراطية باعتبارها الصيغة المثلى لإدارة موارد الدولة، فمهما كانت أعمال الحكومة، فإن أهم انشغالاتها تكمن في جمع الموارد وإنفاقها، وليس هيكل الدولة غير مؤسسات صممت لهذه الغاية، ومن الأصح القول إن الديموقراطية عبارة عن نظام سياسي واقتصادي، إذ يلعب الاقتصاد دوراً بارزاً في بناء الديموقراطية وتطورها.
ويشترط لنجاح الديموقراطية وجود نظام اقتصادي ملائم، وتذهب ملاحظتي، المنبثقة من تأمل تاريخ الديموقراطية، أن أفضل نماذجها وأزهى عصور ازدهارها تمت في ظل وجود مجتمع يقوم على العدالة الاجتماعية، وهو عادة، المجتمع الذي يتشكل في معظمه من (طبقة وسطى)، والواقع أن أغلب المجتمعات الناجحة في المضمار الديموقراطي هي المجتمعات التي تصادف قيام ديموقراطيتها في ظل وجود طبقة وسطى أو شهدت تدخلات (إصلاحية) عملت على إنشاء هذه الطبقة، ولقد تحدث أرسطو في كتاب (السياسة) عن أهمية إنشاء هذه الطبقة لبناء الديموقراطية.
إن الديموقراطية لا تنجح في نوعين من المجتمعات، هما المجتمعات الطبقية والمجتمعات الفقيرة، ففي المجتمع الطبقي، كما هو حال معظم المجتمعات الغربية، تتحول الديموقراطية إلى عملية شكلية، لأن التفاوت الطبقي، يضرب قاعدة المساواة، وهي أول قيم الديموقراطية، ورغم أن النظام يعترف من الناحية النظرية بمبدأ المساواة بين المواطنين في الترشح وتولي الوظائف القيادية، إلَّا أن هذا المبدأ يتحول إلى مجرد شعار، فتؤول السلطة فعلياً للأقلية الغنية، وتغدو الديموقراطية عبارة عن (أوليغارشية) دستورية.
إن هذا الاستنتاج ينسحب على المجتمعات الفقيرة، فالواقع أن الفقر من آفات الديموقراطية، وتصاب الديموقراطية في المجتمعات الفقيرة بثلاث علل كبيرة هي:
• تدني الوعي السياسي.
• ارتفاع مستوى الصراع.
• القابلية للاختراق الخارجي.
ومع هذه العلل، فإن الديموقراطية في المجتمعات الفقيرة، تتحول إلى عملية شكلية تكتفي بالمظاهر، كالانتخابات، دون أن يكون لها أي مضمون حقيقي.
إن آفة الديموقراطية في المجتمعات الغربية اليوم، هي زحف رأس المال نحو السلطة، فالواقع أن ديموقراطية الغرب ذات طابع طبقي، فهي ديموقراطية للأغنياء وحدهم.
في ثمانينيات القرن الماضي، أصدرت مجلة تايم الأمريكية عدداً خاصاً عن الديموقراطية، ووضعت على غلاف العدد صورة رئيس الوزراء الإسباني “فيليب غوانزليس”، وكان عنوان العدد (عصر الوسامة)، وتحت هذا العنوان كتبت مقالات عديدة، يذهب محتواها إلى أن الانتخابات أصبحت تنتج السياسيين الأكثر وسامة وليس الأكثر نبلاً، وذكرت أنه بافتراض عودة قادة مثل (إبراهام لنكولن أو المهاتما غاندي) إلى العمل السياسي اليوم، فإنهم سيفشلون في الانتخابات بسبب افتقارهم للوسامة حتى مع نبل القضايا، فالعصر أصبح عصراً للوسامة، والواقع أن هذا الاستنتاج كان صحيحاً بسبب طغيان وسائل الإعلام وقوة تأثير الصورة والمظهر والطلة البهية التي أنتجت رؤساء الوسامة من نمط رونالد ريغان وبيل كلنتون وباراك أوباما وطوني بلير… إلخ.
ومن المحتمل أن عصر الوسامة بدأ في التراجع لمصلحة (عصر الثراء)، فما هي مزايا رئيس مثل (دونالد ترامب) في الولايات المتحدة الأمريكية، أو غيره الكثيرين تحت قباب الكونجرس؟ أما الوطن العربي، فيقدم أمثلة لا تخطئها العين عن زحف الثراء نحو قمة السلطة بلا مؤهلات وبلا قضية!!
والخلاصة، فإن الديموقراطية لا تبنى ولا تزدهر في ظل المجتمعات الطبقية ولا المجتمعات الفقيرة، وفي الوطن العربي لا يمكن بناء ديموقراطية حقيقية دون حركة إصلاحية اقتصادية تصنع (الطبقة الوسطى)، فهذه الطبقة هي التي تمنح الديموقراطية الفاعلية والاعتدال، وذلك هو جوهرها.
ثالثاً: الديموقراطية والسلام
من الثابت تاريخياً أن الديموقراطية لا تنشأ ولا تزدهر إلَّا في مناخ الاستقرار والسلام، فهي وإن كانت نظاماً لتقنين الصراع وتهذيبه، إلَّا أن تفاقم الصراعات وبلوغها درجات عليا يدمر الديموقراطية.
تنشأ الديموقراطية عادة بعد فترات التوتر والصراعات، لكنها لا تزدهر إلَّا في مناخ الاستقرار، فقد بدأت الديموقراطية في أثينا عام 594. ق.م على يد صولون بعد صراعات مريرة كادت تؤدي إلى حرب أهلية طاحنة، فكانت الديموقراطية هي الحل، وبلغت هذه الديموقراطية ذروتها في عهد “بركليس” في القرن الخامس بعد نهاية حروب “البلوبينز”، ونشأت الجمهورية الرومانية بعد سلسلة من الصراعات بسبب تحولات بنيوية في المجتمع، أما الديموقراطية الحديثة فقد نشأت بعد سلسلة من الحروب والثورات، وقد بدأت إرهاصاتها بعد نهاية حرب الثلاثين سنة (1618- 1648) بين البروتستانت والكاثوليك، فظهرت “الدولة القومية” في أوروبا التي هيأت المناخ لنمو الفكر الديموقراطي، وقد توج ذلك بالثورة الفرنسية التي نشرت في أوروبا أفكار التنوير وظهور العصر الجمهوري.
بلغت الديموقراطية الحديثة ذروتها في القرن التاسع عشر وذلك بسبب مناخ السلام النسبي الذي هيمن على القارة الأوروبية.يوصف القرن التاسع عشر بالقرن الدبلوماسي فما بين عامي 1815- 1914م شهدت أوروبا حالة من الهدوء، فرغم الصراعات والحروب المحدودة، إلَّا أن القرن الدبلوماسي اتسم بالسلام العام فقد كانت الدبلوماسية أكثر فاعلية من المجابهات.
لقد ازدهرت الديموقراطية في القرنين التاسع عشر والعشرين لأسباب متنوعة، كان من بينها – بلا شك – غزارة الإنتاج الفلسفي وشيوع السلام، وبدأت الديموقراطية في فقدان زخمها مع اندلاع الحروب والصراعات، فمنذ الحرب العالمية الأولى بدأت رحلة الانهيار بظهور الفاشية والنازية ثم الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، ففي هذه المناخات بدأ ضعف الديموقراطية، ويمكن أن يقال إن الحرب الباردة وجهت ضربة مؤلمة للديموقراطية.
إن الديموقراطية، حتى في البلدان الراسخة، تتعرض لهزات عنيفة في أوقات الحروب والأزمات، ففي هذه الأوقات تظهر الديموقراطية باعتبارها نظاماً ينقصه الحزم، إذ تتطلب الأزمات والحروب وجود سلطة قوية وحازمة وسريعة التصرف وتطفو على السطح مزاعم الحفاظ على الأمن القومي فتتراجع الحريات والحقوق ويضعف أداء المؤسسات التشريعية ويتنامى بشكل مخيف تسلط الحكومات، وبذرائع الحاجة لاتخاذ القرارات السريعة والحازمة لمواجهة مواقف لا يمكن مواجهتها بسلطات مبعثرة، فمن طبيعة القرارات، في هذه الأوقات، أن تتسم بالسرية والسرعة، فلا يمكن إخضاع قرارات الحرب والسلام للنقاشات الواسعة والعلنية التي يتصف بها النظام الديموقراطي.
إن الديموقراطية الحديثة تتعرض اليوم لهذه المحنة، ومن أسباب ذبولها مناخ الحروب والصراعات الذي خلقته الدول الديموقراطية نفسها.
إن السبب الرئيسي لضعف الديموقراطية اليوم هو مناخ الحروب والصراعات الذي خلقته الولايات المتحدة الأمريكية، فهي بسبب سيطرة أقلية على مؤسساتها الديموقراطية وتوجيهها لهذه المؤسسات في اتجاه افتعال الأزمات والحروب، أدخلت الديموقراطية في أحد مآزقها التاريخية.
إن هذا الحال، يعيد للأذهان تحذير “رينكور” من أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعيد سيرة الإمبراطورية الرومانية التي دمرت الديموقراطية في العصور القديمة وأنتجت القياصرة، والأرجح أن يكون موت الديموقراطية في العصر الحديث على يد الإمبراطورية الأمريكية.
إن هذا الاستنتاج بدأ يظهر بوضوح من خلال انتكاس الديموقراطية في أمريكا، فهي بحجة محاربة الإرهاب ومزاعم مقاومة الاستبداد ونشر الديموقراطية، بدأت، منذ عقود، في تضييق مساحة الحرية وتهميش دور المؤسسات التشريعية وإضعاف حيوية المجتمع المدني… إلخ، ولن يمر وقت طويل حتى تتحول هي نفسها، بصورة غير محسوسة، نحو الاستبداد، وستكون إحدى المفارقات التاريخية، أن الدولة المدمرة للديموقراطية هي نفسها التي تتعالى مزاعمها بالدفاع عن الديموقراطية.
وخلاصة الأمر، فإن مناخ السلام والاستقرار هو ما يناسب الديموقراطية، أما مناخ الأزمات والصراعات والحروب فهو البيئة المناسبة لإنتاج الاستبداد، وفي هذا المناخ الذي يضعف الديموقراطية، فإن آليات الديموقراطية نفسها ستنتج أسوأ الزعماء، فرغم أن الديموقراطية – نظرياً – هي نظام لإنتاج أفضل القادة، فإنها، في مراحل انحطاطها تتحول إلى نظام لإنتاج “الطغاة” والرجال الأقل كفاءة، وتلك، كما يقول “هاملتون”، من حماقات الديموقراطية.
رابعاً: الديموقراطية والقابلية للتحول
قد تكون نظرية “تحول الأنظمة” واحدة من أصدق وأفضل نظريات أفلاطون، فقد أثبت هذا الفيلسوف العظيم، أن كل نظام سياسي يتحول مع الزمن إلى نظام سياسي آخر، وهناك، في نظره، صيرورة حتمية للأنظمة، وذلك بسبب عوامل موضوعية تلعب دوراً غير محسوس، فيتحول النظام، بصورة بطيئة، من نظام إلى آخر هو نقيضه التام.
إن هذه الملاحظة الفكرية في غاية الأهمية، وهي الملاحظة الأكثر منطقية في تفسير ذبول الديموقراطية في الوقت الحاضر.
إننا في هذا البحث لن نقدم غير خلاصة موجزة لنظرية أفلاطون ومن جاء بعده، وهي قد لا تغني عن الرجوع إليها في مصادرها الأصلية (26)، ولكن هذه الخلاصة كافية لإعطاء فكرة واضحة عن صيرورة الأنظمة وتقلبها.
وخلاصة نظرية أفلاطون، أن الأنظمة السياسية، بما فيها الديموقراطية، تتحول وتتقلب ويؤدي كل نظام سياسي إلى ولادة نظام سياسي آخر بعد أن يستنفد النظام الأول طاقته بعد أن يضعف وتختفي القيمة الأساسية التي قام عليها النظام وظهور قيمة أخرى أكثر فاعلية تؤدي إلى تحول النظام، وهو ما يتكرر مع النظام الجديد بعد أن يستنفد طاقته فينتج النظام الثالث، وهكذا تتحول الأنظمة وتتعاقب في دائرة حلزونية مستمرة.
إن هذا الاستنتاج الأفلاطوني يقوم على “حقيقة” “ومعادلات” تؤدي إلى هذا التحول والتقلب، أما الحقيقة، فهي أن لكل نظام سياسي وجهين، وجهه الحسن والآخر السيئ، فالنظام، في العادة، يبدأ بوجهه الحسن، لكنه مع الزمن ينقلب إلى وجهه السيئ، تمهيداً لتحول النظام نحو نقيضه، أما المعادلة فهي أن لكل نظام “قيمة” يقوم عليها و”إنساناً” يؤمن بهذه القيمة و”مؤسسات” صالحة لتفاعل القيمة والإنسان وتجسيد النظام لإنتاج وجهه الحسن، أما حين يختل أحد عناصر المعادلة بتبدل القيمة أو تغير “نوع” الإنسان أو “فساد” المؤسسات، فإن النظام يتحول من شكله الأصلي نحو شكل آخر.
يقسم أفلاطون أنظمة الحكم إلى خمسة أنواع هي: الأرستقراطية، التيموكراسية أو الحكم الطموحي، الأوليغارشية، الديموقراطية، الاستبدادية. أما القيم التي تقوم عليها هذه الأنظمة فهي “الحماس والشرف” للنظام الأرستقراطي، و”الحرية والمساواة” للنظام الديموقراطي و”الخوف” لنظم الاستبداد.إن النظام السياسي، كي يضمن الديمومة والاستقرار، يربي مواطنيه على القيم والفضائل التي يقوم عليها، فالنظام الاستبدادي يربي مواطنيه على “الخوف” فينشر الرعب والقسوة والعقاب، وهو ما يدفع الشعب للاستسلام للاستبداد حتى زوال الخوف، أما النظام الأرستقراطي فيربي مواطنيه على الحماس والشرف، ولا يتبدل النظام إلَّا مع تبدل هذه الفضائل.
تقوم الديموقراطية على فضيلتين أساسيتين هما “الحرية والمساواة” ووجوب تربية المواطنين على هذه القيم وتشييد المؤسسات الصالحة لخلق التفاعل بين القيم والإنسان، وعندما يحدث ذلك فإن الديموقراطية تظهر بوجهها الحسن، بشرط فهم الحرية والمساواة وفق فضيلة “الاعتدال”.
الاعتدال، هو ما يعطي الديموقراطية وجهها الحسن، فتغدو نظاماً مستقراً مسؤولاً، فتنتج أفضل القادة وأخلص المواطنين، غير أن الديموقراطية تنقلب نحو وجهها السيئ بالإسراف في الحرية والمساواة أو بإفراغ هذه القيم من مضامينها بسبب عجز المؤسسات عن تجسيد هذه القيم فيتحول النظام نحو “النظام الغوغائي” فيكون ديموقراطياً في الشكل وغوغائياً في المضمون، وذلك هو الوجه السيئ للديموقراطية، وعندما يتحول النظام إلى الغوغائية يبدأ التحول نحو الاستبداد، فالديموقراطية بوجهها السيئ هي صانعة الاستبداد.
إن غياب “الاعتدال” في فهم الحرية والمساواة، يحول الديموقراطية، في نظر أفلاطون، إلى “جمهورية فوضوية”، فالإسراف في الحرية، وهي خير الديموقراطية الأعظم، يحول المواطن إلى إنسان فوضوي، لأنه صنيعة حرية ليست منضبطة ولا مسؤولة، فيفعل ما يشاء ويقوم بما يشاء، وتنقلب الأدوار بين الناس، فيبدأ الأستاذ يهاب طلابه ويحتقر الطلاب مهذبيهم، ويغدو الأحداث يقارعون الشيوخ قولاً وفعلاً، ويسفل الشيوخ أنفسهم فيفرحون ويمرحون مثل الأطفال، وحتى البهائم فإنها تتمرد وتكثر الرفس في الأسواق، فتقضي الحرية الزائدة إلى العبودية في نهاية المطاف، ولا تخرج الدولة من حالة العبث والفوضى إلَّا على يد مستبد تسلمه مقاليدها يضع حداً للفوضى ويصنع بالقوة المسرفة مواطناً من نوع آخر فضيلته الخوف وليس الحرية (27).
تلك هي خلاصة لنظرية أفلاطون في تحول الأنظمة، وهي نظرية صالحة لتفسير التقلبات السياسية، وهي تركز على “نوع الإنسان” الذي تتغير قيمه مع الزمن بسبب “التربية”، وهو ما دعاه إلى تركيز كتاب الجمهورية على مسألة التربية، ذلك أن صلاحية النظام، تعتمد في المقام الأول، على نوع الإنسان، وعندما يتفسخ الإنسان يسهل تغيير قيمه وبالتالي نظامه السياسي، ورغم أن أفلاطون ينتهي في كتاب الجمهورية إلى أن أفضل أنواع الحكم هو ما يقوم على دستور مختلط يجمع فضائل الحرية والمساواة والحكمة والشرف والعدالة والعفة، فهو أفضل نظام يقوم على الاعتدال، إلَّا أن هذا النظام لا يمكن دوامه بغير تربية المواطنين على هذه القيم مجتمعة واستمرار هذه التربية، وبغير ذلك فإن هذا النظام نفسه سينزع نحو التحول والتقلب.
إننا لا يمكن أن نغادر هذا الموضوع دون الإشارة إلى الفيلسوف العربي الكبير “ابن رشد” في كتابه “تلخيص السياسة” الذي أعاد الحياة لنظرية أفلاطون في تحول الأنظمة، فقد كرس الفصل الأخير من هذا الكتاب لنظرية تحول الأنظمة وفنائها، فهو يسير على المنوال نفسه، ومن المرجح أن هذا الكتاب كان سبباً لمحنته وحرق كتبه، وكان من بينها تلخيص السياسة (28).
إن نظرية تحول الأنظمة تنطبق تماماً على ما آلت إليه الديموقراطية الغربية المعاصرة، فقد بدأت هذه الديموقراطية بوصفها نظاماً معتدلاً للحرية في القرن الثامن عشر، فقد قامت على فضيلتي الحرية والمساواة، قامت على الحرية بعد قرون طويلة من حكم أنظمة الاستبداد والطغيان والمساواة بين المواطنين في “دولة قومية” بعد قرون من الخضوع لإمبراطوريات متعددة الأقوام لا يشعرون بالمساواة بين القوميات أو في ظل إمارات إقطاعية تنقسم إلى سادة وعبيد، وهكذا وفي ظل الدولة القومية والمناخ الفكري الملائم والثورات الكبرى ولدت الديموقراطية، وفي أجواء الاستقرار والسلام ازدهرت الديموقراطية وانتشرت، ومع الزمن وبسبب تبدلات في “نوع الإنسان” بدأت الديموقراطية في الاضمحلال، فهي في أغلب الدول اليوم عبارة عن نظام غوغائي، فقد انقلبت نحو وجهها السيئ، وما ظاهرة “الشعبوية” المسيطرة اليوم على المشهد السياسي في الدول الغربية إلا تجسيد للغوغائية، فلم يعد الانتخاب آلية لإنتاج القادة العظام، بل آلية لاختيار أكثر الزعماء غوغائية وشعبوية، فأنجح الساسة اليوم هم الأكثر تملقاً للجماهير ممن يدغدغون العواطف ويرفعون شعارات التعصب القومي والديني ويبيعون الأحلام الزائفة للمواطنين اليائسين، وما لم يعد للديموقراطية اعتدالها الأصلي، فإن عصر الغوغائية يزحف حثيثاً ليصنع عصراً آخر من عصور الاستبداد.
خامساً: عمر الديموقراطية
تظهر التجربة التاريخية للديموقراطية أن عمرها ليس طويلاً، وهو في العادة يدور بين قرنين وثلاثة قرون، فهو العمر الذي عاشته الديموقراطية اليونانية قبل أن تبدأ في الذبول والاضمحلال، فقد بدأت في القرن السادس قبل الميلاد، وبلغت ذروتها في القرن الخامس، وانتكست نهائياً في القرن الرابع، وخلال هذه الرحلة أنتجت أرقى الحضارات، وعرفت أضخم إنتاج للفلسفة والفكر والفن، وسطرت أعظم الانتصارات، ومنحت البشرية قاطبة موروثاً لا يزال فاعلاً إلى اليوم في العقل الغربي، وذلك ما حدث أيضاً للجمهورية الرومانية، فعلى مدى قرنين من الزمان تقريباً، ازدهر الفكر الجمهوري وبسطت روما سيادتها، لكنها بعد ذلك انتكست نحو الحكم الإمبراطوري المستبد الذي صنع أبشع عصور الظلام، فعاشت أوروبا ظلام العصور الوسطى الذي اتسم بالخرافات والهرطقة نحو ألف عام حتى بلوغ عصر النهضة.
وإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإن الديموقراطية الغربية، بعد ما يزيد على قرنين، بدأت استنفاد طاقتها وحيويتها، ومنذ القرن الثامن عشر وإلى اليوم، قدمت الديموقراطية للغرب أزهى عصوره في شكل حضارة متفوقة قامت على الفكر والعلم الذي يكاد يبلغ ذروته بالسيطرة على كوكب الأرض والتطلع للسيطرة على الفضاء والوصول إلى عصر الرفاهية بجودة الإنتاج وغزارته، أما في المجال السياسي فقد بلغت الدولة ذروة التنظيم الدستوري والقانوني، ووصلت الحرية إلى أعلى مراتبها ممارسة وتعبيراً، فازدهرت الأروقة والمنابر وشاعت المعرفة والعلم وتراجعت الأساطير والخرافات وتعمقت الثقة في العقل وانطلق الإبداع والابتكار، ومع بلوغ الذروة، فإن الديموقراطية بدأت الانحدار بعد نحو قرنين من الزمان، هو، غالباً، عمر الديموقراطية في التاريخ. ومع ذلك، فإن عمر الديموقراطية قد يطول إذا عاد للغرب تعقله، ومنذ زمن طويل ذكر “فريدريك هيجل” أن التاريخ عبارة عن تطور نحو العقلانية، بمعنى أن الإنسانية تواصل باستمرار البحث عن أفضل المبادئ والأفكار والمؤسسات لتنظيم حياتها، ورغم أن التاريخ ينتكس أحياناً ويعود للوراء لتعيش الإنسانية في ظل أفكار فاسدة أو مهجورة، إلَّا أن الإنسانية والتاريخ سرعان ما يعودان للتطور نحو العقلانية، لأنها الحالة الطبيعية، وما من شك أن الوصول إلى الديموقراطية الليبرالية كان من أعظم المكتشفات العقلانية التي يجب أن تقود إلى ما هو أكثر عقلانية من المبادئ والأفكار والمؤسسات، وفي الحد الأدنى فإن الإنسانية مطالبة بالحفاظ على الديموقراطية وهي في أعلى درجاتها، ولكن من المؤسف أن يلاحظ أن التاريخ يبدو وكأنه، من هذه الناحية، في مرحلة انتكاس، فما من شك أن الديموقراطية تعيش مرحلة تراجع بعد أكثر من قرنين من الزمان لهذه التجربة الثرية، وهو ما يطرح مجموعة من الأسئلة من نوع: هل استنفدت الديموقراطية الحديثة طاقتها وانقضى عمرها الافتراضي كما كان الحال في الديموقراطية الكلاسيكية اليونانية والجمهورية الرومانية؟ وما أسباب الضعف الديموقراطي؟ وهل يعود ذلك إلى التغير البنيوي الاقتصادي في المجتمعات أم يعود إلى أسباب ثقافية تتعلق بتربية المواطنين وميلهم الشديد “للفردية” التي أضعفت “حس الدولة” والروح الوطنية وغير ذلك من الأسباب؟
إنَّ رأينا يذهب إلى أن هذه الأسباب مجتمعة قادت إلى ما نحن فيه، رغم أن هناك في الغرب من يذهب إلى التركيز على العامل البنيوي المتعلق بالدولة القومية، فقد ظهرت الديموقراطية الليبرالية وازدهرت في ظل الدولة القومية وهي دولة تتصف بانسجام التكوين الاجتماعي وتناغم المصالح الاقتصادية والمشاعر القومية ووحدة الطموح والحماس الوطني والرغبة الجامعة في العيش في مناخ الاستقرار والسلام، أما اليوم، وفي عالم القرن الحادي والعشرين، وفي ظل العولمة وظهور الفضاءات الكبرى، كالاتحاد الأوربي، وظهور الشركات الكبرى وعولمة الاقتصاد وتشابك مصالح الدول بصورة غير مسبوقة، فإن الدولة القومية، وعاء الديموقراطية، بدأت في التهشم والانهيار، فلم تعد السياسة نفسها معنية بما يجري داخل الحدود، بل امتدت نحو آفاق عالمية.
ورغم أهمية هذا العامل، إلَّا أن هذا التفسير الأحادي لا ينطوي على الإقناع، فالواقع أن الديموقراطية ضحية لأسباب كثيرة تضافرت لصناعة محنتها، وعلى الإنسانية مجتمعة التفكير في كيفية علاج هذا المأزق.
إن الديموقراطية، مثلها مثل الشجرة، تتطلب تربة صالحة لغرسها ثم تسميدها وريها ورعايتها بصورة مستمرة بتهذيبها من حين لآخر وإزالة الحشائش الضارة من حولها، لتعطي ثمارها وتستمر في الحياة، وبغير ذلك فإنها تذبل وتموت في نهاية المطاف. ورغم أن للظواهر زمانها وأعمارها، فإن عمر الديموقراطية يمكن أن يطول بالتدخل الفكري المستمر والتطوير المؤسساتي المتلاحق، فما يصلح لزمن لا يصلح لكل الأزمان، وليس على الأحفاد ارتداء قمصان أجدادهم.
خاتمة
ليس من السهل تقييم الديموقراطية الحديثة والحكم عليها بصورة جازمة، لأنها، ببساطة، ما زالت النظام الأفضل، فلم يوجد، بعد، ما ينافسها، فهي، بالرغم من بعض العيوب والإخفاقات، لا تزال تؤكد شرعيتها بإنجازاتها في مجال الحرية التي يتسع فضاؤها باستمرار، وذلك هو جوهر الديموقراطية وقيمتها الأساسية، ورغم ما يحيط بها من شكوك، إلَّا أن هذه الشكوك والمخاوف لا تتعلق بالقيم الخالدة، بل تتعلق بالمؤسسات القابلة للتطوير، وهو ما يعطي الأمل في إمكانية تجاوز المحنة.
وإن من حسن الحظ، أن الديموقراطية ليست ذات طابع أيديولوجي صارم يقوم على “دوغمات” غير قابلة للتغيير، وهو ما أعطاها واحدة من أهم خصائصها، وهي القابلية للتكيف مع متغيرات الأزمان والأجيال، وهو الذي يضمن الديمومة والاستمرار، فالديموقراطية نشأت باعتبارها نظاماً عملياً أوجدته الحاجة، فهي ليست صنيعة فيلسوف أو مفكر يتمسك بماهيتها وأصول تطبيقها، وهكذا فإنها على مر الأجيال استطاعت التطور، غير أن هذه الخاصية، القابلية للتكيف، قد تتوقف، إذا ساد الاعتقاد بأن الديموقراطية بلغت ذروتها كما يذهب دعاة نهاية التاريخ.
ومن خصائص الديموقراطية أيضاً قابليتها للتنوع، فهي برغم وحدة القيم التي تقوم عليها، فإنها قابلة للتنوع المؤسساتي، فالديموقراطية في أمريكا ليست هي الديموقراطية السويسرية أو الفرنسية أو الإسكندنافية أو البريطانية، فلكل نموذج مزاياه وخصائصه المؤسساتية، ولا أحد يطالب إنجلترا بإلغاء العرش الملكي أو مجلس اللوردات لأنها تخدش الديموقراطية، ولا تطلب سويسرا مثلاً من غيرها تبني نظام الاستفتاء أو حكومة الجمعية، فلكل بلد ظروفه التاريخية وتكوينه الخاص وطبيعة شعبه.
إنَّ بحثنا في الديموقراطية لا تنصرف غايته إلى تقييم هذا النظام في بلدانه، بل الغاية منه، محاولة استكشاف ما يلائمنا من قيمه ومؤسساته، فالجهد يجب أن ينصب على محاولة البحث عن صيغة عربية للديموقراطية، وتلك هي رسالة المفكرين والمثقفين في الوطن العربي.
إن هذه الرسالة، لا تزال معطوبة، بسبب وقوع الفكر العربي في أحد المأزقين، الاستلاب الكلي أو الرفض القاطع، وكلاهما خطأ فادح. ففي المشهد الفكري العربي، هناك حالة واضحة للاستلاب والإعجاب الأعمى بالديموقراطية الغربية، وتسيطر على الكثير من المثقفين العرب فكرة استيراد الديموقراطية الغربية ونقلها للوطن العربي كما هي عليه في بلدان الغرب بحجة أن هذه الديموقراطية هي المسؤولة عن النهوض والتقدم، وذلك، في ظني، ينطوي على الكثير من السطحية، فليست الديموقراطية إلَّا عنصراً تفاعلَ مع غيره لإنتاج حالة التقدم، فقد بدأت الحضارة الغربية قبل الديموقراطية بقرون، وانخرطت أوروبا في عصر النهضة والعلم والصناعة وهي في ذروة الاستبداد. وفي المقابل فإن اتجاهاً آخر، يرفض بصورة قطعية فكرة الديموقراطية بدعوى أنها تتعارض مع قيم خالدة أنتجت في يوم ما حضارة عظمى، ويغوص في التاريخ لعله يجد مفاتيح هذه الحضارة، وفي كلتا الحالتين تخسر الأمة.
إننا في حاجة إلى تجديد العقل العربي، بعيداً عن الاستلاب والرفض، فذلك هو الطريق الوحيد للإبداع والابتكار، وفيما يخصني، ومن خلال دراسات طويلة، أظنها كافية، فإن استنتاجي يذهب إلى أن العائق الكبير يتعلق بمؤسسات الديموقراطية وليس بقيمها، فالوطن العربي والعالم الإسلامي يشتركان مع غيرهما في قيم الديموقراطية، بل وليس من التعسف القول إنه السبَّاق إلى اكتشاف هذه القيم، فلا يوجد من وضع قاعدة للحرية قبل عمر بن الخطاب بمقولته الشهيرة “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، أما على صعيد المؤسسات، فإننا في حاجة إلى البحث والتأمل للوصول إلى المؤسسات المناسبة للدولة العربية، مؤسسات تلائم التكوين الاجتماعي والسياسي والتطور التاريخي للوطن العربي، وبغير ذلك، فإننا سننتقل من تجربة فاشلة إلى أخرى.
إن طريق الديموقراطية ليس قصيراً، وهي مهمة شاقة، ولكنها ممكنة ومرغوبة، بشروط وجود العزيمة والمثابرة والمصابرة الطويلة.
1- لاري دايموند – روح الديموقراطية – ترجمة عبد النور الخراقي – الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت – ط1 – 2014م – ص35 وما بعدها.
2- ينظر في ذلك د. عصام فاهم العامري – المأزق العالمي للديموقراطية – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – قطر، ط1 – 2016م، ص44 وما بعدها.
3- تشارلز تيللي- الديموقراطية – ترجمة محمد فاضل طباخ – المنظمة العربية للترجمة – مركز دراسات الوحدة العربية – ط1 – بيروت – 2010، ص13 وما بعدها.
4- لاري دايموند – مرجع سبقت الإشارة إليه- ص42.
5- إن اختلاف المنابع الفلسفية والموروث الفكري بين الثورتين الأمريكية والفرنسية قد أثر بصورة كبيرة في مسيرة الثورتين بعد وقت قصير، وعلى الأرجح، فإن رد الفعل العنيف من الثورة الفرنسية، هو ما أدى لانتكاسات مبكرة والعودة للإمبراطورية، وعلى العكس، فإن الواقعية التي اتسمت بها الثورة الأمريكية قادت نحو الاستقرار والتطور الديموقراطي الأكثر هدوءاً، وقد عرضنا بعض تفاصيل ذلك في كتابنا (شروط الديموقراطية) مكتبة الوحدة، طرابلس – ليبيا – 2022م.
6- يراجع كتابه – الحكومات البرلمانية – ترجمة أميل الغوري – دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر – دمشق – بدون تاريخ، وخاصة الفصول من الخامس إلى العاشر ص97 وما بعدها، كذلك كتابه “الحرية” ترجمة عبد الكريم أحمد – المركز القومي للترجمة – القاهرة – 2018م.
7- عصام فاهم العامري – المأزق العالمي للديموقراطية – ص9.
8- لاري دايموند – روح الديموقراطية – ص74.
9- على سبيل المثال – سايمون تورومي – نهاية السياسة التمثيلية – ترجمة حسام نايل – المركز القومي للترجمة – القاهرة – ط1 – 2019 م – ص257 وما بعدها.
10- عصام فاهم العامري – المأزق العالمي للديموقراطية – ص25.
11- هذا ما يذهب إليه (الكسيس دوتو كفيل) في كتابه (الديموقراطية في أمريكا)، فهو يذهب إلى أن المجتمع الأمريكي في بداياته كان مجتمعاً زراعياً متوازناً، يتشكل معظمه من طبقة وسطى هي سر ديموقراطيته وازدهاره، وهو ما جعله يتنبأ بأن أمريكا ستصبح أعظم دولة في العالم، ومن المعروف أنه كتب كتابه عام 1830م حين كانت أمريكا أمة عادية وأقل تطوراً من دول أوروبا. والكتاب من ترجمة – أمين موسى قنديل – عالم الكتب – القاهرة – ط3 – 1991م.
12- أموري. د. رينكور – القياصرة قادمون – ترجمة أحمد نجيب هاشم – الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر – القاهرة 1965م.
13- ولمن يريد مراجعة حجم السلطات الفعلية المقننة للرئيس الأمريكي، فيمكن مراجعتها في كتابنا – الوسيط في القانون الدستوري – دار الكتاب الجديد المتحدة – بيروت – ط1 – 2000م، ص 316 وما بعدها. أما الصلاحيات غير المنظورة، فإنها أكثر من أن تحصر وتعد.
14- مايكل بارنتي – ديموقراطية للقلة – ترجمة حصة المنيف – المشروع القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة… 2005م، ص 533 وما بعدها.
15- بارنتي – المرجع السابق – ص88.
16- إن كتاب بارنتي بشكل عام مهم للغاية، ومع ذلك فإنه يمكن مراجعة الفصول 3، 4، 5، 7، 9، 13، 14، 18، فهي من أكثر الفصول تناولاً للموضوع بصورة مباشرة.
17- سايمون تورمي – نهاية السياسة التمثيلية – ترجمة حسام نايل – المركز القومي للترجمة – القاهرة – ط1 – 2019م – ص51 وما بعدها.
18- جون كين– حياة الديموقراطية وموتها – ترجمة محمد العزير – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – قطر – 2021م
19- جيمي كارتر – قيمنا المعرضة للخطر (أزمة أمريكا الأخلاقية – ترجمة محمد محمود التوبة – منشورات العبيكان – السعودية – ط1 – 2007م – ص 131 وما بعدها.
20- فرنسيس فوكوياما – أمريكا على مفترق الطرق – ترجمة محمد محمود التوبة – العبيكان – السعودية- ط1 – 2007م، ص 153 وما بعدها.
21- يروي الأستاذ محمد حسنين هيكل قصة انتخاب بوش الصغير وأسبابها التي تعود لخواء شخصيته وسهولة السيطرة عليها وتوجيهها لتنفيذ مخططات المحافظين الجدد، فقد كان الرجل سكيراً مدمناً ليس فيه ما يلمع غير تاريخ والده وتجربة محدودة في حكم تكساس، وبعد أن استبعدت جماعة المحافظين الجدد معظم مرشحيها للرئاسة وجدت ضالتها فيه، وما كتب هيكل يستحق التأمل في مقالة “إمبراطور من تكساس” وهو منشور في كتابه (الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق) منشورات دار الشروق – القاهرة – ط8 – 2009م – ص148.
وجماعة المحافظين الجدد، هي جماعة سياسية يهودية متطرفة تعمل من أجل الكيان الصهيوني وضمان انتصاره النهائي وقيام إسرائيل الكبرى تمهيداً لظهور المسيح، ولتفاصيل أكثر يمكن الاطلاع على كتابنا “المحافظون الجدد، قادتهم وأفكارهم والأطروحات المضادة لأفكارهم” مكتبة طرابلس العلمية العالمية – طرابلس – ليبيا – ط1 – 2018م.
22- وجماعة المحافظين الجدد، هي جماعة سياسية يهودية متطرفة تعمل من أجل الكيان الصهيوني وضمان انتصاره النهائي وقيام إسرائيل الكبرى تمهيداً لظهور المسيح، ولتفاصيل أكثر يمكن الاطلاع على كتابنا “المحافظون الجدد، قادتهم وأفكارهم والأطروحات المضادة لأفكارهم” مكتبة طرابلس العلمية العالمية – طرابلس – ليبيا – ط1 – 2018م.
23- لقد شرحت هذه الشروط في كتابي (شروط الديموقراطية) وذلك بالتفصيل والحجج والبراهين المستخلصة من تاريخ الديموقراطية وتجاربها المتنوعة، وتكمن هذه الشروط في ازدهار الفلسفة والثقافة، تربية المواطنين، القيادة الديموقراطية، المحتوى الاقتصادي ووجود الطبقة الوسطى، وأخيراً مناخ السلام والاستقرار.
24- ينقسم التاريخ الروماني إلى ثلاثة عصور سياسية مختلفة، وهي العصر الملكي من القرن الثامن إلى القرن السادس ق.م، والعصر الجمهوري من القرن السادس إلى القرن الثاني ق.م، ثم العصر الإمبراطوري الذي يمتد حتى زوال الإمبراطورية.
25- من يريد تفاصيل أهمية التربية في الديموقراطية، يمكن مراجعة كتابنا (شروط الديموقراطية) فقد خصصنا لهذا الموضوع عدة فصول تبين أهمية التربية، خصوصاً الفصلين التاسع والعاشر ص181- 226.
26- يمكن مراجعة تفاصيل هذه النظرية في كتابنا (شروط الديموقراطية) ص 181 وما بعدها.
27- يراجع في نظرية أفلاطون عن تحول الأنظمة كتاب “الجمهورية” خصوصاً، الكتاب الرابع والسابع والثامن، وهو من ترجمة حنا خباز – المؤسسة المصرية للطبع والنشر والتوزيع – القاهرة – 2012م.
28- لقد كان كتاب “تلخيص السياسة” من بين ما أحرق من كتب، وحتى اليوم لا وجود لأصله المكتوب باللغة العربية، وهو لم يعد للغته العربية، إلّا بعد ترجمته من العبرية إلى اللاتينية والإنجليزية بعد قرون، ومن حسن الحظ أن مترجماً يهودياً ترجمة إلى العبرية هو “شموئيل بن يهودا” ثم إلى الإنجليزية عن طريق “إرفن روزنتال”. يراجع – ابن رشد – تلخيص السياسة، ترجمة حسن مجيد العبيدي، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع – سوريا – ط2 – 2011
قائمة أهم المراجع
- أ.د إبراهيم أبو خزام “الوسيط في القانون الدستوري”، دار الكتاب الجديد المتحدة- بيروت، ط 1- 2000م.
- أ.د إبراهيم أبو خزام “شروط الديموقراطية”، مكتبة الوحدة- طرابلس، ط 1 – 2022م.
- ابن رشد “تلخيص السياسة” ترجمة حسن مجيد العبيدي – دار الفرقد، سوريا 2011م.
- الكسيس دوتوكفيل “الديموقراطية في أمريكيا” ترجمة أمين موسى قنديل، عالم الكتب– القاهرة ط 1991م.
- أموري د رينكور، “القياصرة قادمون”، ترجمة أحمد نجيب هاشم– الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1970م.
- أفلاطون “الجمهورية” ترجمة خباز المؤسسة المصرية للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة 2012م.
- تشارلز تيللي “الديموقراطية” ترجمة محمد فاضل طباخ، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية– ط 1، بيروت 2010م.
- جان جاك روسو “العقد الاجتماعي” ترجمة عادل زعيتر، دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة 2015م.
- جان جاك روسو “أصل التفاوت بين الناس” ترجمة عادل زعيتر، مركز المحروسة للنشر، القاهرة 2015.
- جون ستيوارت مل “الحكومات البرلمانية” ترجمة أميل الغوري، دار اليقظة العربية، دمشق، ترجمة عبدالكريم احمد– المركز القومي للترجمة، القاهرة 2018م.
- جون ستيوارت مل “الحرية” ترجمة عبدالكريم أحمد، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2018م.
- جون كين “حياة الديموقراطية وموتها” ترجمة محمد العزير، المركز العربي للأبحاث، قطر 2021م.
- جيمي كارتر “قيمنا المعرضة للخطر” ترجمة محمد محمود التوبة، منشورات العبيكان، السعودية، ط1 2007م.
- سايمون تورومي “نهاية السياسة التمثيلية” ترجمة حسن نايل، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط 1 2019م.
- عصام العامري “المأزق العالمي للديموقراطية”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط1 2016م.
- فرنسيس فوكوياما “أمريكا على مفترق الطرق” ترجمة محمد محمود التوبة، العبيكان، السعودية، ط1 2007م.
- لاري دايموند “روح الديموقراطية” ترجمة عبدالنور الخراقي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط 1 2014م.
- مايكل بارنتي “ديموقراطية للقلة” ترجمة حصة المنيف، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008م.
- محمد حسنين هيكل “الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق”، دار الشروق، القاهرة، ط8، 2009م.
تحميل الورقة العلمية
ورقة الدكتور حكيم بن حمودة
كيف يخرج العرب من فخ البلدان المتوسطة الدخل؟ – ملاحظات حول دور التكنولوجيا ومجتمع المعرفة في التنمية
- جامعي وخبير في الشؤون المالية والاقتصادية – تونس
- وزير الاقتصاد والمالية السابق – تونس
لماذا تقدمت كوريا والبلدان الآسيوية وتراجعت البلدان العربية؟ يثير هذا السؤال الكثير من الأرق والقلق عند الكثير من الإقتصاديين العرب. ولا تقتصر الحيرة من هذا السؤل على جموع الاقتصاديين الباحثين في مجال التنمية، بل تمتد إلى الكثير من الناشطين السياسيين والفاعلين الاقتصاديين، وحتى من الناس العاديين.
فالأرقام الرسمية والسردية والدراسات الاقتصادية والتاريخية تشير إلى أن البلدان العربية كانت لها نفس مستوى النمو والتطور الاقتصادي لكوريا الجنوبية في بداية الستينات. إلا أن هذه الصورة انقلبت رأسا على عقب حيث أصبحت كوريا إحدى القوى الاقتصادية الصاعدة وعضوا في مجموعة العشرين للقوى الاقتصادية الأكثر نفوذا في العالم بينما تراجعت أغلب البلدان العربية بطريقة كبيرة لتصبح سجينة ما يسميه الاقتصاديون» بفخّ البلدان المتوسطة» أو (Middle income trap) أي غير قادرة على مواصلة ديناميكية التنمية والتحول الاقتصادي لدخول نادي البلدان ذات المداخيل العالية والمتقدمة.
شكّل هذا العجز عن مواكبة نسق التنمية الذي عرفته كوريا ومن بعدها العديد من بلدان شرق آسيا كتايلند وماليزيا واندونيسيا ثم الصين وفيتنام موضوع قلق وحيرة عند الكثير من العرب، خاصة وأن ظروف الانطلاق كانت متشابهة. وبالرغم من أهمية هذا التساؤل ومركزيته لفهم أسباب تراجع البلدان العربية وعدم قدرتها على الخروج من «فخّ» النمو الضعيف والهش إلا أن ذلك لم يلق الاهتمام الكافي من قبل المفكرين والباحثين، واقتصرت بعض الدراسات القليلة في هذا المجال على جوانب قطاعية دون إعطاء إجابة ضافية وشاملة.
وسنحاول في هذه المحاضرة تقديم بعض الملاحظات حول هذه المسارات المختلفة وتراجع البلدان العربية مقارنة بالنمور الآسيوية. وفي هذا المجال تشكّل مسألة التأخير في الإستثمار في التكنولوجيا ومجتمع المعرفة أحد أسباب “الفشل العربي” مقارنة بـ”النجاح الآسيوي”.
الأزمات الاقتصادية وصعوبات التنمية في البلدان العربية
تعيش أغلب البلدان العربية أزمات إقتصادية مختلفة، فقد تراجعت تجارب التنوع الاقتصادي ومحاولات الخروج من النظام الريعي بفضل بناء أنماط تنمية متنوعة ترتكز على الصناعات وتطوير القطاع الزراعي والخدمات الجديدة. وقد ساهم هذا الفشل في تراجع القدرة التنافسية للاقتصاديات العربية ودورها ومكانها في الاقتصاد الدولي لتخسر فرصة البروز كأنظمة اقتصادية فاعلة وناجعة .
لقد ورثت الدول الوطنية عند الاستقلال أنظمة اقتصادية تابعة للاقتصاد الاستعماري ترتكز أساسا على استخراج المواد الأولية وتصديرها للمركز الاستعماري وفتح أسواقها لصادرات الشركات الكبرى. وعملت أغلب هذه البلدان على القطع مع أنماط التنمية الموروثة من الحقبة الاستعمارية من خلال تحديث الهياكل الاقتصادية وتنويعها بالتسريع في الصناعة وتنمية الزراعة إلى جانب القطاعات الأخرى. ونجحت أغلب البلدان العربية في هذا المجال لتعرف أغلبها طفرة تنموية كبيرة ساهمت في تدعيم العقد الاجتماعي وبناء دولة الرفاه .
إلا أن هذا المشروع عرف أزمات متعددة منذ بداية ثمانينات القرن الماضي مع أزمة المديونية مما جعلها تخسر على مرّ السنوات قدرتها التعبوية. وعادت الأنظمة الاقتصادية في أغلب البلدان العربية إلى الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على استخراج المواد الأولية أو على يد العمل الرخيصة. وزاد الفساد وتنامي الرشوة والمحسوبية من تيه الاقتصاد العربي وتصاعد صعوباته وأزماته.
وكانت لجائحة الكوفيد 19 انعكاسات كبيرة على البلدان العربية التي عرف أغلبها انكماشاً كبيراً في سنة 2020. إلا أن أغلب البلدان العربية لم تعرف الانتعاشة التي عرفتها أغلب بلدان العالم في السنتين الأخيرتين، حيث لم يتجاوز معدل النمو في عام 2022 3.7%.
ورغم هذه التحديات والأزمات عجزت اغلب البلدان عن تحديد برامج ورؤى اقتصادية كبرى تضع العالم العربي على طريق الإصلاح والخروج من الاقتصاد الريعي وبناء أنماط تنمية جديدة مستدامة تهدف إلى تحقيق الاندماج الاجتماعي.
• تنامي الفوارق والتهميش الاجتماعي وانهيار العقد الاجتماعي
كانت أزمة دولة الرفاه منذ بداية ثمانينات القرن الماضي وراء انخرام العقد الاجتماعي وتصاعد البطالة والفوارق الاجتماعية في أغلب البلدان العربية.
وقد تدعمت هذه البطالة مع ظهور بطالة أصحاب الشهادات وتصاعدها لتصبح من أهم عوامل عدم الاستقرار السياسي في المنقطة.
بالرغم من السياسات النشيطة التي تم تطبيقها في أغلب بلدان المنطقة للحدّ من البطالة ودفع التشغيل بقيت البطالة عالية ومستوياتها ظلت مرتفعة. وأصبح مطلب التشغيل أحد المطالب الرئيسية التي رفعها الشباب في الثورات العربية.
وقد فتحت هذه الثورات ومشاريع التغيير السياسي بشكل عام في منطقة العربية باب الأمل في إمكانية بناء أنماط تنمية جديدة تعيد الأمل وتدفع التشغيل. إلا أن هذه الآمال خبت بعد مدة ليعود الوضع الاجتماعي إلى قتامته ويتواصل التهميش والحيف الاجتماعي في اغلب البلدان .
وتشير الأرقام والمؤشرات الأخيرة إلى تواصُل الأزمة الاجتماعية وانخرام أرقام التشغيل والفقر في أغلب البلدان العربية. ففي مستوى البطالة وصل المعدل العام حسب آخر إحصائيات الإسكو إلى %11.8 سنة 2022. إلا أن هذا المعدل يخفي نسبا مرتفعة في عديد البلدان العربية الأخرى وصلت إلى مستويات مخيفة.
فقد بلغت نسبة البطالة في 2021 في الجزائر إلى %17.4 وفي تونس %17.5 وفي الأردن %21.1 وفي لبنان %43.5 وفي العراق %19.4.
إلى جانب ارتفاع نسب البطالة في عديد البلدان العربية عرفت المنطقة بقاء نسب الفقر في مستويات مرتفعة ليبلغ المعدل العام للفقر في المنطقة حسب آخر إحصائيات الإسكوا %26.9 سنة 2021. ويخفي هذا المعدل العام نسباً أعلى في عديد البلدان العربية الأخرى والتي تجاوزت مستويات الفقر فيها المعدل العام في المنطقة.
فقد كانت نسبة الفقر في مصر سنة 2021 بمستوى %28.62، وفي لبنان %73.4، وفي السودان %32.52، وفي سوريا %63.24.
وتشير هذه الأرقام والنتائج إلى عمق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها المنطقة العربية مع تصاعد البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي. وقد ساهمت هذه الأوضاع الاجتماعية في حالة الارتباك والقلق الذي يعيشه العالم العربي أمام انفراط حبات العقد الاجتماعي للدولة الوطنية، وعَجْزَنَا عن بناء عقد اجتماعي يضمن الأمن الاجتماعي والثقة في المستقبل.
• العرب و”فخ البلدان المتوسطة”
ظهرت فرضية “فخ الدول المتوسطة” أو “Middle income trap” في تقرير قام بإنجازه البنك الدولي سنة 2006 حول التجارب الآسيوية بعنوان “An East Asian Renaissance Ideas for Economic Growth”، وقد عرف هذا المفهوم شيوعاً كبيراً في دراسات التنمية لفهم أسباب تراجع أو فشل التجارب التنموية مقارنة بالنمور الآسيوية. وقد قمت بعديد الدراسات لقراءة أسباب سقوط العرب في فخ البلدان المتوسطة. وحاولنا تحديد أسباب ريادة التجربة التنموية عند النمور في آسيا مقارنة بالتجارب العربية.
وفي هذا المجال نريد الإشارة إلى ثمانية عناصر أساسية ساهمت في تفوق تجربة التنمية في آسيا بالرغم من ضعف الإمكانيات المالية مقارنة بالبلدان البترولية.
وأول هذه العناصر وجود رؤية ومشروع تنموي تشاركي من خلال الخطط التنموية التي تم تحديدها منذ السنوات الأولى للاستقلال. وقد صاحبت هذا التصور الاستراتيجي للتنمية مؤسسات الدولة الحديثة التي كانت قادرة على تطبيقها وانجازها.
أما العنصر الثاني الذي لعب دوراً مهما في نجاعة مسار التنمية في آسيا يهم استقرار التوازنات الاقتصادية الكبرى، والحذر الذي صاحب السياسات الاقتصادية لتفادي الأزمات الكبرى.
ويهم العنصر الثالث المستوى الكبير للاستثمار في رأس المال البشري، مما أعطى فرصاً كبيرة للمساواة والعدالة. وقد شكّلت الاستثمارات في مجالي الصحة والتعليم والدور التعديلي للدولة أسس العقد الاجتماعي للبلدان الآسوية.
إلى جانب هذه العناصر يمكن إضافة عنصراً رابعاً مهماً ساهم في صلابة التجربة التنموية في العقود الأولى للاستقلال وهي الاستثمارات الهامة في البنية التحتية. وإلى جانب دورها في النمو كان لهذه الاستثمارات دور في تنمية الإنتاجية عند النمور الآسوية.
أما العنصر الخامس الذي ساهم في الديناميكية التي شهدتها عملية التنمية فيَهُم الدفع الذي تحصلت عليه آسيا من الانخراط والانفتاح على الاقتصاد العالمي منذ الستينات .
ويمكن أن نضيف عنصراً سادساً لعب دوراً مهما في العملية التنموية ويهم آليات توزيع الموارد المحدودة بين الاولويات وقدرة الدولة على تعديلها بطريقة سلسة.
أما العنصر السابع فيهم الحقوق والواجبات والتي يعتبرها الاقتصاد المؤسساتي حجر الزاوية في بناء نظام اقتصادي شفاف يحمي الأفراد والمؤسسات. يمكن أن نشير في هذا المجال إلى حماية حقوق الملكية والمساواة بين الرجل والمرأة .
وقد ساهمت جملة هذه العناصر في دعم العملية التنموية في بلدان آسيا لتجعل منها تجربة رائدة في العالم جعلتها تتبوأ مواقع متقدمة في الاقتصاد العالمي مقارنة بالبلدان العربية.
ويخص العنصر الثامن الطابع المحدود لمسك التكنولوجيا وتحويلها في بلداننا. اذ لم تكن البلدان العربية قادرة على ضبط سياسة قوية وجريئة في هذا المجال مما جعلنا نعاني من التبعية في هذا المجال .
وبالرغم من تأكيد الاقتصاديين مثل Marshall وShumpeter وأغلب النظريات الاقتصادية على أهمية التكنولوجيا ومجتمع المعرفة في دفع النمو وتحسين انتاجيته فإن البلدان العربية بقيت متأخرة في هذا المجال. فقليلة هي البلدان العربية التي بنت استراتيجيات فعالة وطموحة في ميدان التكنولوجيا والمعرفة وخاصة لنقلها من البلدان المتقدمة.
وتبقى الإمكانيات التي تخصصها بلداننا للبحث لا تتجاوز 1,3% من جملة المصاريف العالمية في هذا المجال، بينما تتبوأ الولايات المتحدة المركز الأول ب 36.2%، وتليها أوروبا بـ24.15، واليابان 13.5%، والصين 9.16% سنة 2021.
وتشهد البلدان العربية نفس التأخير في مجال براعات الاختراع، حيث لا تبرز في المجموع العالمي بينما تأتي أوروبا على رأس القامة بنسبة 42.5% من المجموع العالمي تليها الولايات المتحدة بـ26.6%، واليابان بـ17.1%، والصين ب 5% سنة 2021.
كما نجد نفس التأخير الكبير للبلدان العربية في مجال النشر العلمي، حيث لا تبرز بلداننا في الترتيب العالمي أين تحتل أوروبا المركز الأول ب 32.5% من المجموع العالمي والولايات المتحدة بـ24.4% والصين بـ9.8% واليابان بـ6.8%.
تشير هذه الأرقام والمؤشرات إلى التأخير الكبير الذي تعرفه البلدان العربية في مجال التكنولوجيا ومجتمع المعرفة مما ساهم في تراجع تجاربنا التنموية وسقوطنا في فخ البلدان المتوسطة.
• أي مستقبل للتنمية في عالم ما بعد العولمة
مكنت هذه القراءة المتأنية للتجارب التنموية المقارنة بين المنطقة العربية بشكل عام وبلدان شرق آسيا التي نجحت في التخلص من فخ البلدان المتوسطة، من الوصول إلى نتائج مهمة تهم نظرية التنمية ومستقبلها في عالم اليوم.
ويمكن لنا في هذه المداخلة الوقوف على عديد الدروس من هذه التجارب المقارنة. وسأشير في هذا المقال إلى خمس مسائل أساسية علينا أخذها بعين الاعتبار.
المسألة الأولى تهم علاقة السياسي بالاقتصادي: فالتنمية تبرز من خلال هذه القراءة التاريخية للتجارب المقارنة كمسار معقد يلتقي فيه السياسي بالاجتماعي والاقتصادي. لقد أثبتت هذه التجارب أن المشاريع التنموية تشترط وجود حد أدنى من المشاركة والانفتاح على حركة المجتمع والحوار معه ليكون فاعلا في انجاز البرامج والاختيارات المجتمعية.
أما المسألة الثانية فتهم ضرورة وجود قيادات تاريخية وسياسية قادرة على تحديد التصورات الكبرى والرؤى التي تفتح المجال لتجارب جمعية جديدة تساهم في إعادة بناء الأمل في فترات الشك والأزمات الكبرى.
أما المسألة الثالثة فتخص العلاقة التي نجحت تجارب شرق آسيا في ربطها بين دور الدولة والسوق والقطاع الخاص. وقد أثبت الجانب البراغماتي لهذه العلاقة ضرورة الخروج من الجانب الإيديولوجي في التعاطي مع دور الدولة أو السوق في التجارب التنموية. وقد ارتكزت هذه العلاقة على التعاطي السلس والتعامل البراغماتي بين طرفي المعادلة الأساسية من دعم وحماية من جهة ومنافسة وانفتاح من جهة أخرى لدفع النمو ودعمه.
أما المسالة الرابعة- والتي لا تقل أهمية- فترتبط بقدرة مؤسسات الدولة على التغيير والتحول من اجل مواكبة التطورات والتحولات العالمية الكبرى .
أما المسألة الخامسة فتهم الدور الأساسي والمحوري للتكنولوجيا ومجتمع المعرفة في دعم تنافسية الاقتصاد ودعم تطوره وتنوعه.
قدّمَت عديد التحاليل قراءات للإجابة على السؤال الذي ارّقنا لعقود طويلة حول سبب تراجعنا أمام تقدم بلدان شرق آسيا؛ وتشكل هذه التحاليل والفرضيات نقطة انطلاق لنقاش جدي حول سبل الخروج من أزماتنا الاقتصادية، وكل ما نتمناه أن يحين الوقت قريبا للانطلاق في هذا النقاش الجدي والحقيقي القادر على فتح آفاق جديدة لتجربتنا التنموية .
تحميل الورقة العلمية
ورقة البروفسور رياض الدباغ
دور المؤسسات التعليمية في بناء مجتمع المعرفة – الوطن العربي انموذجا
- خبير بيئي – العراق
- رئيس سابق لجامعات المستنصرية و الموصل وديالي- العراق
لقد شهد العالم ومازال يشهد تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية لم يسبق لها مثيل حجماً وعمقاً واتجاهاً وسرعةً بحيث اضحى التغيير، نتيجة ذلك، حقيقة الحياة وجوهرها بعد ان كان عرضاً من اعراضه وهذا التغير فرض نفسه على التربية عموماً وعلى التعليم الجامعي على وجه الخصوص لانه المسؤول (علمياً وحضارياً) عن استيعاب هذا التغيير في حركته التطورية.
, وفي السابق كانت قوة الدول تعتمد على كثافتها السكانية وماتمتلكه من موارد طبيعية، الا ان العلم اصبح المتغير الجديد والمهم لانه اصبح مصدر القوة والثروة، فهنالك دول عديدة لا تمتلك موارد طبيعية وارضها قاحلة وليست لديها كثافة سكانية ولكنها اعتمدت العلم (كاليابان) فامتلكت القوة والثروة.
تكميم التعليم
لقد كان من اكبر الاخطاء التي وقع فيها مخططو التعليم في الاقطار العربية هو انهم انشغلوا بمد الحاضر إلى المستقبل حتى بدا الواقع وكأنه الانموذج الذي ينبغي أن يمدوه إلى المستقبل كما انهم انشغلوا بـ (تكميم) التعليم بارقامه وحساباته بدلاً من ان ينشغلوا بـ(عقلنة) التعليم وإرساء أسس علمية حصينة لمحتواه وهياكله.
لاشك ان هناك توسعاً في التعليم الجامعي، ولكن استقراء المحصلة في مجموعها قد لا يبعث على الرضا فمازال هناك تباين واضح بين التطور الكمي والتخلف النوعي وان هناك اتساعاً في الثغرة بين النظام التربوي (ومنه التعليم الجامعي) وبين مجتمع ينتزع من المؤسسة التربوية احتكار نشر المعرفة وينمي عن طريق وسائل الاتصال علاقات جديدة بين الانسان والعالم.
كيف نقيم تعليماً جامعياً للمستقبل
كيف نقيم تعليماً جامعياً للمستقبل ، يلبي احتياجات المستقبل ذلك المستقبل الذي قد لايكون امتداداً للحاضر بما يحمله من مفاجئات او تحديات بل نتوقع انه مستقبل يختلف (نوعياً) عن (مستقبل الحاضر) انه مستقبل له تحدياته التي تعصف بكل ركود او جمود وتحرك كل ساكن او خامل ويدعونا الى مزيد من الانتباه والاهتمام به والتهيؤ له .
وبهذا الاعتبار فاننا لا نريد (تعليماً في المستقبل) بل (تعليماً للمستقبل)
إن بناء تعليم جامعي بجودة مطلوبة وعلى وفق قاعدة فكرية رصينة ورؤية تربوية اجتماعية عقلانية، يتطلب النظر في المستقبل (وإطالة النظر فيه) مثلما يتطلب النظر (وانعام النظر) في الحاضر، ولكن باعطاء (الأولوية) للمستقبل في النظر إذا كان لابد من اولوية، الامر الذي يعني إن مثل هذا النمط أو الإسلوب في بناء التعليم الجامعي أكثر حرصاً من التخطيط التقليدي في استطلاع المستقبل (ضماناً) لسلامة التحرك اليه.
إن المستقبل كما يصوره اصحاب الدراسات المستقبلية هو تعبير عن اكبر ثورة يشهدها الجنس البشري منذ ان كان له تاريخ، إنها صورة لا نملك في الحاضر إلا لقطات عنها، ومن هذه اللقطات إن ثورة المعلومات التي عمادها التكنولوجيا الحديثة ومعطيات وخدمات الاقمار الصناعية التي تجاوزت آثارها بتراكم هندسي آثار الثورة الزراعية والثورة الصناعية وهما الموجتان اللتان سبقتا الموجة الثالثة وهي ثورة المعلومات .
إن هذه الثورة قادتها الجامعات أو مراكز البحوث فيها ومازالت تقودها، وإنها تعد من أكبر التحديات لجامعات أخرى لو لم تتدارك موقعها منها لغدت وقوداً لها.
إذاً ماذا علينا ان نفعل لكي نقوم (بتحريك) حاضر جامعاتنا إلى مستقبل هذا المجتمع
علينا أن نعيد صياغة التعليم من خلال مناقشة جريئة لحيثيات التعليم الجامعي وعناصره (الطالب، الاستاذ، المنهج) ويدرس دراسة ناقدة لاختناقات هذا التعليم ومكامن النهوض فيه، واستلهام المستقبل لإعداد الجيل للعيش فيه وصنع الحياة فيه وقيادته، وكيف نرقى بمحتوى التعليم الجامعي من محتوى تابع إلى محتوى دافع ومن مناهج منقادة إلى مناهج قائدة تؤصل التعبير عن المجتمع في حاضرة ومستقبله، وأن نبدأ اليوم قبل الغد في إعادة النظر في سياستنا التعليمية لأن من هم في مقاعد الدراسة الآن هم بناة المجتمع بعد سنوات معدودات.
عصر الموجة الثالثة، عصر انتاج المعرفة
إن المطلوب ليس أي تعليم بل تعليمٌ من نوع جديد يهئ الفرد والمجتمع لعصر متغير سريع هو عصر الموجة الثالثة، عصر إنتاج المعارف وعصر الاعتماد على العقل البشري ومنتجاته من الإلكترونيات الدقيقة وحيث إن الجامعات هي مواقع بناء هذه العقول، فإن المعول عليها أن تكون مراكز اشعاع حقيقية تنير للمجتمع السادر في حاضره دروب مستقبله. ولقد كان لاطلاق الشيخ محمد بن راشد ال مكتوم نائب رئيس الدولة، ورئيس الوزراء، مبادرته الرائعة في قمة المعرفة والتي اطلق عليها “بوابة المعرفة “، لتحفيز ريادة الأعمال من خلال دعم برامج الابتكار والبحث والتطوير. لأن انتاج المعرفة هو المفتاح الرئيسي لأية نهضة، والتي تؤدي بالمحصلة إلى حالة التكامل بين المعرفة والابتكار ومسارات البحث والتعليم.
كما إننا لا نريد تطويراً (أي تطوير) أو إدخال تحسينات أو تجديدات أو مستحدثات او تجارب قد تصيب وقد تخيب أو إضافة (رتوش) على ماهو قائم مع بعض التعديل أو الاضافة .
ولكننا نريد تعليماً وتعلماً يكون ركيزة تعلم عصري ينسجم مع مطالب مجتمع ينشد التقدم ومع حاجات ابنائه ومستقبل حياتهم، ليتحول التعليم بذلك إلى قوة فاعلة في صنع الإنسان الجديد المنتج للمعرفة الذي يشارك في صنع المجتمع أو في إعادة صياغة مستقبله .
سيستمر الانفجار الاعلامي الذي لا يعرف الحدود السياسية القائمة، ولا تقوى عليه وسائل الرقابة التقليدية، بفضل وسائل الاتصال المتسارعة في تنوعها وتطورها واستثمار الاقمار الصناعية في مثل هذه الخدمات .
إن مثل هذا الانفجار يحتاج إلى التهيؤ له بتعليم جامعي ذي نظام متميز فضلاً عما يستدعيه من اجهزة ومستلزمات تكرس الابداع وتوظف العقل البشري وتنمي الفكر العلمي، وبالمستوى نفسه يقوم بتحصين الطالب من آثار هذه الثورة الاتصالاتية.
إننا نتوقع إن الجامعات ستنتبه إلى أن من الخطأ أن تستمر في سياساتها التعليمية ومنطلق احتياجات المجتمع في المستقبل وكأنها احتياجات اليوم، إذ لابد وأن تضع الجامعات سياستها التعليمية على أساس النظر إلى المستقبل وتلبية احتياجاته ومن ثم النظر إلى الحاضر (لدراسة واقعه) وبعد ذلك التفكير في كيفية تحريك هذا الحاضر إلى ذلك المستقبل. وعلى سبيل المثال فان التوجه العالمي هو لزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة فهل أعددنا العدة لتهيئة مهندسين متخصصين بالطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أو الطاقة المائية أو الطاقة النووية أو طاقة الوقود الحيوي أو طاقة خلايا الهيدروجين التي ستكون طاقة المستقبل الرئيسية أو طاقة الامواج, أو اختصاصات اخرى كهندسة الاستدامة البيئية وهندسة الروبوتات وعلوم الفضاء التي ستصبح المصدر الرئيسي للطاقة والغذاء للعالم.
سيجد التعليم التقليدي نفسه في عزلة تامة، فهو إما أن يتطور أو أن (يرحل)، وستجد مؤسسات التعليم العالي نفسها محاصرة إذا لم تستجب لحاجات المجتمع المتجددة، وسيطغى دور المؤسسات الصناعية والإدارية والتجارية في إعداد كوادرها وفنييها في حالة قصور الجامعات عن تلبية مستويات المهارة المطلوبة في تلك المؤسسات .
إن رسالة الجامعة أولاً وأخيراً هي بناء الخريج الفاعل المنتج المبدع، ولن يتحقق هذا إلا بتنشئة روحية وخلقية مستمدة من تراثنا إلى جانب تزويده بالعلم النافع المفيد .
وإذا كان الوطن يأمل في أن يكون شباب الجامعة قادة المسقبل فان من البداهة إن القادة لا يصنعهم إلا قادة، ولهذا فإن الأستاذ الجامعي مربٍ ومعلم وقائد في آن واحد.
الخلاصـة
وأخيراً فإن هذا العمل يشبه الوثوب من موقع ومن واقع إلى واقع أكثر تعبيراً والتصاقاً بالمستقبل، و إن الوثوب يحتم الإقعاء وهي حركة تسبق الوثوب، وحركة الاقعاء هنا مطلوبة لدراسة الواقع بما فيه ودراسة المستقبل بما ينبغي أن يكون فيه وذلك بعد النظر بعيداً إلى المستقبل أولاً لتكون الرؤية للواقع أكثر إنارة و إثارة لاستنهاض الهمة وتدارك الهوة ولرسم معالم الخطوة الأولى التي تبدأ بها المسيرة.
تحميل الورقة العلمية
ورقة الدكتور عمر عتيق
دور اللغة في إنتاج المعنى وبناء الإنسان – هل اللغة مكتسبة أم خلق وإبداع؟ ومتى تكون اللغة اكتسابا؟ ومتى تكون خلقا وإبداعا؟
- حاصل على درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها (علم البلاغة)
- أستاذ دكتور في جامعة القدس المفتوحة/ فلسطين
ليس من اليسير قبول ما اتفق عليه علماء اللغة أن الإنسان يكتسب اللغة من أسرته ومن محيطه الاجتماعي قبولا مطلقا؛ لأن اللغة في مرحلة الطفولة تختلف عن لغة الإنسان في مراحل النضوج العقلي، فالطفل يحتاج إلى تعلم آلية النطق ومعرفة دلالة الألفاظ على المسميات، ولكن مرحلة النضوج لا تقتضي هذا الأمر.
وتسعفنا نظرية التوليد والتحويل التي انبثقت عنها الكفاية والأداء عند تشومسكي في تعليل رفض قبول اكتساب اللغة اكتسابا مطلقا، إذ يرى تشومسكي أن القدرات العقلية والفسيولوجية لدى الإنسان قادرة على توليد اللغة وخلقها والتعبير عن الأفكار دون الحاجة إلى الاكتساب والتعلم من الآخرين، فاللغة عند تشومسكي غير مكتسبة ولا موروثة. وأطلق تشومسكي على القدرات الفسيولوجية والعقلية الباطنية الخلاقة مصطلح التوليد، وعلى التعبير عن الفكر (كتابة أو شفويا) مصطلح التحويل الذي يمّكن المتكلم من التعبير عن أفكاره بطرائق تركيبية كثيرة، وسمى المصطلح الأولى (البنية العميقة)، والمصطلح الثاني (البنية السطحية)، والبنية العميقة هي الكفاية، والبنية السطحية هي الأداء. ويمكن تعزيز نظرية تشومسكي بالتراكيب اللغوية المبتكرة التي يعبر بها شخص ما دون أن يسمع التراكيب نفسها من غيره، سألني صديق حينما التقيته بعد غياب طويل: (أشبت؟)، أجبت: (هذا زهر الانتظار)، لم أفكر مسبقا بهذا التركيب ولم يخطر في ذهني من قبل ولم أسمعه من أحد. ومن المرجح أن تشكيل صورة فنية مبتكرة لشاعر دليل ثان على القدرة الخلاقة المبتكرة في التعبير. وكذلك الفكر الخلاق المبتكر الذي يضيف للمعرفة الإنسانية رؤى جديدة، فالفكر المبتكر لا ينفصل عن اللغة المبتكرة. عطفا على الرؤية السابقة فإن الإنسان قادر على ابتكار اللغة والفكر دون الحاجة إلى الإفادة من الآخرين.
ينبثق عما تقدم السؤال المحوري القادم
ما التحديات التي تواجه الخلق اللغوي، والإبداع الفكري؟
أعتقد أن حرية التفكير والبعد عن المؤثرات السلبية تضمن إنتاج اللغة المنشودة والفكر التنويري التجديدي. ولكن في مجتمعنا العربي قلما تتوافر الحرية المطلقة في التفكير أو التعبير عن الرأي بسبب خطاب السلطة المركزية للخطاب الديني (السلفي) والسياسي (الدكتاتوري) والاجتماعي (الموروث السلبي). هذه المعيقات السلفية والسياسية والاجتماعية تؤثر سلبيا على وظيفة اللغة في بناء الإنسان وتنمية المجتمع، لأن هذه السلطات الثلاث تمتلك معجما لغويا مثقلا بالمصطلحات والتعبيرات والشعارات التي ترفض ظهور أي بدائل لغوية.
ويتوزع موقف الإنسان العربي من الخطاب اللغوي للسلطة المركزية على ثلاثة أنماط؛ النمط الأول: الرفض والمواجهة، إذ يستمر المجددون في توليد خطاب لغوي فكري تجديدي تنويري متحملين تبعات رفضهم فإما أن يُشتم ويُعنف، أو يتهم بالانحراف والزندقة والتكفير من أقطاب الخطاب السلفي أو يتهم بالتخوين من السلطة السياسية أو يتهم بالانحراف الأخلاقي من أوصياء الموروث الاجتماعي. والنمط الثاني: الاستلام ورفع الراية البيضاء أمام هجمة خطاب السلطة الأبوية الفكرية المركزية التي تسبب الخوف والرعب اللذين ينجمان عن إرهاب فكري يعطّل إنتاج اللغة الخلاقة والفكر التنويري، ومن البدهي أن الإنسان الخائف لا يستطيع توليد لغة وفكر، وتبقى القدرة التوليدية التحويلية للغة والفكر معطلة مرهونة بمعيقات السلطة الأبوية الفكرية. والنمط الثالث: الاستجابة السلبية لأطروحات فكرية لأقطاب السلطات الثلاث (الدينية والسياسية والاجتماعية)، فيصبح المستجيب متلقيا سلبيا، ومستهلكا وجامدا ومسوّقا لفكر سلبي ظلامي، وتتعطل قدرته اللغوية والفكرية التوليدية، كما تتقزم قدرته اللغوية التحويلية، لأنه يصبح عبدا للنقل محروما من نعمة العقل.
كيف يؤثر الأسلوب اللغوي للسلطة الأبوية في إجهاض الخلق اللغوي والإبداع الفكري؟
أكاد أجزم أن الجسارة اللغوية والانزياح في التعبير عن المعيار اللغوي الأبوي هو السبب في اتهام المبدعين (شعراء ومفكرين) في عصور زمنية مختلفة بالكفر والزندقة، وهو السبب في قتلهم أو سجنهم، إذ إن خروج أبي العلاء المعري عن المنظومة اللغوية الأبوية في مجتمعه أدى إلى تشكل أفق فكري فلسفي في شعره تجاوز الفهم العام للمجتمع الأبوي في زمنه، فاتهموه بالزندقة ؛لأنهم عجزوا عن تفكيك البناء اللغوي، والوصول إلى البنية الفكرية العميقة. إن الذائقة السمعية أو القرائية في زمن المعري لم ترتق إلى المستوى الفكري \ الفلسفي لشعره.
وامتد سلطان المؤسسة الدينية إلى مدى لم تبلغه المؤسسة الأكاديمية؛ فلاحقت المؤسسة الدينية الكلمة والجملة والفقرة والنص وما بين السطور. وسعت إلى إخراج مجموعة الجمل التراثية الثقافية من الخدمة نحو (أهل الاختصاص\ أهل الصنعة\ وأصحاب المعرفة)، وأتبعت ذلك بإحياء جمل مضادة نحو (حاطب ليل\ يرمي الكلام على عواهنه\ لكل ساقطة لاقطة) وتسليط هذه الجمل على الدراسات التراثية التي تعزز حرية الإبداع وخروجه من سلطة الدين والأخلاق، ثم تبع ذلك ما هو أنكى وأشد نحو التهم التي تُوجه للكتّاب والنقاد (في دينه رقة\ في دينه ضعف\ ليس من أهل الصلاح والتقوي(. (1)
ويعي أرباب السياسة وأقطاب الفكر السلفي، وسدنة الطائفية وزعماء القبلية أن منظوماتهم اللغوية وما تشتمل عليه من شعارات ومقولات تضمن لهم الاستمرارية، والقبول لدى عامة الناس، ولهذا يحرصون على أن تكون “اللغة الأبوية لغة مناسبات وطقوس لا لغة بحث وحوار، إنها أداة تجويد وغناء، تخلق في نفس السامع حالة من الطرب او الحماسة، من الفرح او الغضب، ونادرًا، حالة من التفكير الهادئ والعودة إلى الذات. إنها بذلك لغة جماعية تنفي الفرد والوعي الذاتي وتستبدلهما بالوعي الجماعي. إنها انعكاس السلطة الأبوية والوعي البطريركي.” (2)
ومن السهل تعزيز ما تقدم برؤية هشام شرابي حينما يتحدث عن انعكاس الواقع الثقافي الاجتماعي النفسي الذي يتبنى الفكر الأبوي الخانق الذي يرفض كل تغيير في اللغة والفكر، ولا يرضى إلا بما هو مقبول أو موروث. (3)
وتكمن خطورة التجديد اللغوي في خلخلة الأسس الفكرية للسلطة اللغوية الأبوية، فلا يخفى أن اللغة حامل ومحمول، أو دال ومدلول، و”للغة دور مهم في الانتقال من خطاب تقليدي إلى خطاب نقدي، وهذا ما يمهد له النقد الحضاري على صعيد اللغة، وذلك أن نقد اللغة السائدة يعني نقد الأساس الذي تنبني عليه الأيدولوجيا القائمة، في حين أن البقاء ضمن النسق التعبيري السائد يتيح الفرصة لاستمرار الأيدولوجيا المرتبطة بذلك النسق. (4) ولا يمكن مجابهة الواقع السياسي والثقافي المهيمن في المجتمع الأبوي مجابهة حقيقية من داخله من ضمن إطاره الفكري والسياسي ومن خلال لغته التقليدية، فالمجابهة الحقيقية لا تحدث إلا بالخروج من الأطر الأبوية وباستعمال لغة تختلف عن لغة السلطة وتكون بذلك قادرة على خلخلة الفكر المهيمن وإقامة أسس وعي جديد.(5)
بات جليا أن المواجهة بين اللغة الأبوية وما تُضمره من بنى فكرية، واللغة الجديدة وما تبشر به من تغيير مطلب حاسم من أجل التخلص من الكبت الفكري، والظلم الاجتماعي، والقهر السياسي، والتسلط الديني السلفي؛ لأن “كل إرادة تتجه إلى نقل المجتمع من حال إلى حال تجد نفسها في مواجهة النسق اللغوي القائم، ويكون عليها نقدُه كجزء من الوضع الشامل الذي تسعى إلى تغييره. ولا غنى عن نقد اللغة التي يعتمدها النظام الأبوي كجزء من النقد الشامل لهذا النظام، كما أن الانتقال من النظام الديمقراطي يتطلب لغة جديدة” (6). ويتساءل هشام شرابي في صميم هذه المواجهة اللغوية: “هل يمكن الدخول في الحداثة بواسطة لغة غير حديثة، لغة مازالت في مرحلة ما قبل الحداثة، بمفاهيمها ومصطلحاتها وأطرها الفكرية؟” (7)
يرى بعضهم أن أول عشر كلمات تمتلك القدرة على التأثير والإثارة على المتلقي، وتضاعف يقظته الفكرية في متابعة الخطاب المقروء أو المسموع، وسواء كانت عشر كلمات أو أكثر فإن التقنية اللغوية لاستهلال أي خطاب ترتبط بمدى تهيئة المتلقي وانجذابه أو عزوفه وخموله. ومن المعلوم أن تكرار الاستهلال في أي نص أو خطاب يُحدث مللا وضجرا وفتورا لدى المتلقي، لأن النفس الإنسانية مطبوعة على التجديد والتغيير لتقبل المضمون الذي يلي الاستهلال أو التمهيد، فالتجديد في الاستهلال هو المؤثر الرئيس في استجابة المتلقي للخطاب.
يلتزم دعاة الخطاب السلفي بالتحميدات الدينية في كل خطاب سواء كان الخطاب في مقام العبادة أو الموعظة أو المناسبات الاجتماعية أو غيرها، فالتحميدات قوالب لفظية جاهزة محفوظة عن ظهر قلب لا تجديد في مضمونها منذ مئات السنين، ولم تختلف في جوهرها الدلالي عن فن التحميدات التي أنشأها عبد الحميد الكاتب في القرن الثاني الهجري في العصر الأموي قبل أكثر من ألف ومئتي سنة. وتهدف هذه التحميدات إلى تهيئة المتلقي ذهنيا ونفسيا وعصبيا للاستجابة، وأزعم أن معظم المتلقين يسمعون التحميدات دون وعي وإدراك لمضمونها بسبب التكرار والاجترار، ولهذا تعد التحميدات بصفاتها السابقة فضاء لغويا يؤدي إلى سبات التفكير وتعطيل حوافز الإدراك والوعي، لأنها تفتقر إلى أدنى مقومات التفاعل بين المتلقي والخطاب.
انتقلت تلك التحميدات من الخطاب الديني السلفي إلى الخطاب الثقافي لدى فئة واسعة من الباحثين والأكاديميين الذين يبدؤون في كتاباتهم ومداخلاتهم الشفوية بتحميدات لا علاقة لها بالموضوع العلمي الذي يتحدثون عنه. أنا لست ضد التحميدات بذاتها، ولكني ضد الفصل بين محتوى التحميدات ومضمون الخطاب الفكري.
قلت سابقا إن القدرة التوليدية والتحويلية لا تحتاج إلى مؤثرات خارجية مكتسبة، ولكنها حتما بحاجة إلى مثيرات ومحفزات ذهنية، لأن القدرات التوليدية التحويلية كامنة في أعماقنا تحتاج إلى التحريك والتحفيز والإثارة والثوير، فهل تملك التحميدات هذه المثيرات والمحفزات؟
بعد التحميدات يأتي مضمون الخطاب السلفي مثقلا– في الغالب– بعبارات لغوية موروثة نحو: (أجمعت الأمة، أجمع العلماء، أجمع جمهور العلماء، أجمع السلف الصالح، أجمع التابعون) لمنع التفكير في صحة الكلام، وتعزيز الفكرة المطروحة، وتثير دلالة الفعل (أجمع) في هذه القوالب اللفظية الجاهزة عددا من الأسئلة الموضوعية؛ عن أي أمة يتحدثون؟ وكيف يمكن تصديق إجماع الأمة على أمر أو قضية خارج التشريع العقائدي والمقاصد الربانية؟ هل جرى استفتاء للأمة الإسلامية في قضية فكرية سلوكية؟ ومن جمهور العلماء؟ هل اتفاق نفر من العلماء في زمن محدد وفي بيئة جغرافية محددة يعد إجماعا للعلماء؟ ومن السلف الصالح؟ وهل يوجد سلف صالح وسلف غير صالح؟ إن خطورة لفظ الإجماع في العبارات اللغوية الموروثة تؤدي حتما إلى تعطيل العقل والتفكير والتدبر، لأن الخروج عن الاجماع المزعوم يعد خروجا عن الدين وإثما عظيما. كيف يمكن بناء فكر تجديدي وإعادة بناء الإنسان، والاسهام في تنمية المجتمع أمام هذا السيل اللغوي الجارف الذي يهدم أية محاولة في التفكير خارج إطار الإجماع؟ كلما تذكرت كلام القرطبي إن الحديث النبوي ينسخ (يلغي) آية من القرآن الكريم يصيبني الذهول والسخط من لغة الخطاب السلفي، يقول حرفيا: (وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة).
عطفا على التشكيل اللغوي في الخطاب السلفي فإن الخطاب السياسي يقارب الخطاب السلفي في تقنيات الاستهلال، ووطأة الحمولة الدلالية في المضمون، فالخطابان السلفي والسياسي يتفقان في الغاية والهدف ويختلفان في المضمون والأسلوب، أما الهدف فهو تحديد الفضاء النفسي والفكري للمتلقي داخل وهج تعبيرات وطنية تجسد الالتزام الأخلاقي والثقافي بقدسية الأرض، والشهداء، وحتمية العلاقة الوجودية بين الشعب والدولة، فلا يملك المتلقي قدرة على التفكير خارج فضاء الاستهلال المثالي الذي يكرر أيقونات الوفاء والتضحية والأرض والشهداء… الخ. يختار الخطاب السياسي بعناية فائقة أساليب لغوية للتعبير عن المواطنة والمعتقلات ملأى بسجناء الرأي، وسواحل البحار مثقلة بجثث المواطنين الراغبين بالهجرة من الوطن الذي يصفق له أتباع المؤسسة الحاكمة.
ينقل إلى الأمام كيف تؤثر اللغة في تعزيز السلم الأهلي وازدهار النسيج الاجتماعي؟
يتوزع سلوك الإنسان على ثلاثة أساليب للرد على الطرف الآخر حينما ينشب خلاف حول أمر ما، الأول: الرد المادي العنيف بالضرب الجسدي أو باستعمال السلاح. والثاني: الرد اللغوي العنيف بالشتائم والألفاظ النابية. والثالث: الرد اللغوي الهادئ الواعي الذي يندرج في ثقافة الحوار.
لماذا يكثر الرد العنيف المادي واللغوي، ويقل الرد اللغوي الهادئ المتزن؟ هل يسهم المخزون اللغوي في تحديد أسلوب الرد على الطرف الآخر؟ للإجابة عن هذا السؤال المركزي ينبغي أن نعي أن الرد المعلن مسبوق برد مضمر، إذ إن الأساليب الثلاثة تبدأ بانفعالات نفسية نحو التوتر والغضب وغيرهما، وبتغيرات فسيولوجية نحو الانقباض وارتفاع الضغط أحيانا، وتحتاج هذه الانفعالات النفسية والفسيولوجية إلى أسلوب للتعبير عنها، فإذا كان المخزون اللغوي وافرا غنيا متنوعا، وكانت القدرة على صياغة الأساليب اللغوية لافتة وكافية للرد والإفحام والإقناع، فإن الإنسان يكتفي– في الغالب- بالرد اللغوي الهادئ، لأن وقع كلماته وتأثير أساليبه تتيح له أمرين؛ الأول: الرضا عن نفسه والثقة بقدرته على الرد. والثاني: تأثير الرد اللغوي في إسكات الخصم والنيل منه.
كلما كانت اللغة غزيرة متنوعة، والأساليب متعددة استطاع المتكلم اختيار الكلمات المناسبة والأساليب الفاعلة، فالقدرة على الاختيار هي التي تميز شخصا عن غيره وفق نظرية دي سوسير التي تفرق بين اللغة والكلام، فاللغة هي مخزون الكلمات والأساليب في الدماغ. والكلام هو الممارسة اللغوية، فحينما تكون اللغة المخزونة ناضجة متنوعة فإن المتكلم قادر على اختيار اللغة والأساليب المناسبة للرد. أما إذا كانت اللغة المخزونة في الدماغ قليلة أو ناجمة عن بيئة ثقافية نمطية مغلقة فإن الرد سيكون لفظيا جارحا أو ماديا مؤذيا.
هل تستطيع اللغة مواجهة المخرجات الثقافية الظلامية والسلوكية العنيفة الناجمة عن الخطاب السلفي؟
حينما نملك المفاتيح اللغوية في قراءة القرآن الكريم نفهم المقاصد الربانية في الأحكام الشرعية، وماهية العلاقات الاجتماعية، وعلاقة الفرد بالجماعة، وواجبات الجماعة تجاه الفرد، نفهم كل ما تقدم دون الحاجة إلى رجال دين يمتهنون الفتوى في شؤوننا الشخصية وعلاقاتنا الاجتماعية، ويصطنعون فتاوى تُرضي السلطان بعيدا عن رضا رب السلطان. إن الفقيه الذي لا يتقن أسرار اللغة العربية لا يجوز أن يكون فقيها شرعيا؛ لأن القرآن الكريم إعجاز لغوي، ومعانيه في لغته، ومضامينه في تراكيبه، ومقاصده في سياقه اللغوي الكلي، ومن المعلوم أن كثيرا من العرب آمنوا بالقرآن الكريم بسبب لغته.
لسنا بحاجة إلى فتاوي المذاهب الأربعة لفهم القرآن الكريم إذا امتلكنا ناصية اللغة، وأمسكنا بزمام السياق اللغوي. ولم تستند الفتاوى التي تبيح سفك الدم لأسباب طائفية أو مذهبية أو فكرية على لغة القرآن الكريم الذي يحرص على حرمة الدم واستقرار المجتمع والسلم الأهلي، إنما استندت على اجتهاد وقياس، أليست لغة القرآن الكريم هي الدستور الرباني؟
ما دور اللغة في إنهاء التعصب الديني والطائفي؟
ما تعريف الإسلام؟ ومن المسلم؟ ومتى بدأ الإسلام؟ وهل بدأ الإسلام بالرسالة المحمدية ونزول القرآن الكريم؟
أسئلة شائكة وإجابة سهلة، شائكة بسبب الموروث الفكري المؤسس على النقل وتغيب العقل. وسهلة لأن القرآن الكريم يجيب عنها بوضوح تام. وأعيد طرح السؤال المركزي: هل بدأ المفهوم العقائدي للإسلام برسالة محمد عليه السلام؟.
يُسهم فهم لغة القرآن الكريم في تطهير التلوث الثقافي لدى فئات واسعة من المسلمين تعتقد أن المسلم أفضل من غيره من أتباع الديانات الأخرى، لهذا ينبغي أن نبدأ بمعنى كلمة الإسلام في المعجم، فالإِسْلامُ والاسْتِسْلامُ: الِانْقِيَادُ. والإِسْلامُ مِنَ الشَّرِيعَةِ: إِظهار الْخُضُوعِ وإِظهار الشَّرِيعَةِ وَالْتِزَامُ مَا أَتى بِهِ النَّبِيُّ، ﷺ، وَبِذَلِكَ يُحْقَنُ الدَّمُ ويُسْتَدْفَعُ الْمَكْرُوهُ، ويُقَال: فُلَانٌ مُسْلِمٌ َفِيهِ قَوْلَانِ: أَحدهما هُوَ المُسْتَسْلِمُ لأَمر اللَّه، وَالثَّانِي هُوَ المُخْلِصُ للَّه العبادةَ، مِنْ قَوْلِهِمْ سَلَّمَ الشيءَ لِفُلَانٍ أَي خَلَّصَهُ، وسَلِمَ لَهُ الشيءُ أَي خَلَصَ لَهُ.
هل توجد ديانات سماوية مختلفة؟ هل دين الأنبياء جميعا هو الإسلام؟ هل يعني الإسلام الإيمان بوحدانية الله عز وجل؟
يؤكد التدبر في الآيات القرآنية التي ترد فيها ألفاظ ( الإسلام ومسلم ومسلمين ومسلمون) ما يلي:
1- كان إبراهيم عليه السلام مسلما بدليل قوله تعالى (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(132 البقرة) وقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ 6 ﴾آل عمران
2- كان موسى عليه السلام مسلما بدليل قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴿84﴾ يونس
3- كان المسيح عليه السلام مسلما بدليل قوله تعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿آل عمران 52﴾ وقوله (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴿المائدة 111﴾
4- كان يعقوب وابناؤه مسلمين بدليل قوله تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴿البقرة 133﴾
5-كان يوسف عليه السلام مسلما بدليل قوله تعالى: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿101﴾ يوسف
6- نفر من الجن مسلمون بدليل قوله تعالى مخبرا عن الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14 الجن)
ألا تثبت لغة الآيات السابقة أن معنى الدين عند الله هو الإسلام أن القرآن الكريم رسالة مكملة وخاتمة الديانات السابقة؟
الا يؤكد ما سبق أن الاختلاف ببن الديانات من صنع البشر؟
وتأسيسا على الآيات الكريمة التي تؤكد حرية المعتقد الديني فإن قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿أل عمران 19﴾) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿آل عمران 85﴾، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا (3 المائدة) يحتاج مراجعة في مفهومه ودلالته، لأن المعنى المراد لا يخص المسلمين أتباع رسالة محمد عليه السلام، وإنما المراد كل من انقاد واستسلم لرب العالمين، واعتمادا على هذه الحقيقة نستطيع الإجابة عما يلي: لماذا لم يقل رب العالمين يا أيها المسلمون أو يا أيها الذين أسلموا؟ ولماذا خاطب القرآن الكريم أصحاب الرسالة المحمدية المباركة بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا)؟ إن الفهم القاصر الذي يربط معنى الإسلام بالرسالة المحمدية يؤدي حتما إلى قطع الصلة الدينية الزمنية بين المسلمين أتباع سيدنا محمد والمسلمين قبل سيدنا محمد.
وفي هذا السياق نطرح السؤال الآتي: ما معنى الإسلام خاتم الرسالات ومحمد عليه السلام خاتم الأنبياء؟
واعتمادا على المعنى اللغوي للفظ الإسلام، والسياق اللغوي الذي ورد فيه لفظ الإسلام في القرآن الكريم فإن الدين هو الخلاص والسعادة للإنسانية جمعاء. ولكن ليس الدين الذي يتحدث فيه رجال الدين في الديانات الثلاثة. وإنما الدين الذي جاء في وصايا موسى وتعاليم المسيح ورسالة محمد عليهم السلام. إنه دين المنظومات الأخلاقية التي توحد الناس جميعا. والعبادات والشعائر التي تميز أتباع الديانات الثلاثة. ولهذا جاء الإسلام خاتم الرسالات السماوية ومحمد عليه السلام خاتم الأنبياء لأن رسالة السماء قد اكتملت بتراكم المنظومات الأخلاقية من زمن نوح عليه السلام إلى زمن محمد عليه السلام. فكل نبي أضاف جانبا معرفيا وعقائديا وأخلاقيا. ولم يعد الإنسان بحاجة إلى نبي جديد لأن الإنسان أصبح يمتلك أداة المعرفة وهي العقل ويمتلك القدرة على التمييز. ولهذا جعل رب العالمين الإنسان خليفة في الأرض.
عطفا على ما تقدم من الصعب أن نصدق ما نسب إلى الرسول عليه السلام: (أمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ) ( متفق عليه)، لأن عددا من الآيات القرآنية تؤكد حرية المعتقد الديني وتنفي مضمون الحديث السابق كما في قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256] وقوله (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (29 الكهف) وقوله (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس99) .
هل تسهم اللغة في مواجهة طغيان السلطة الذكورية وتحقيق العدالة الاجتماعية؟
يتوهم عامة الناس أن رب العالمين فضل الرجل على المرأة، حينما يسلخون قوله تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) من سياقه وحاضنته اللغوية. ولو كان عامة الناس يفقهون في علم البلاغة وفي الأصول البسيطة للتشبيه، لما استشهدوا بالآية على تفضيل الرجل على المرأة، لأن دلالة أركان التشبيه تؤكد أن المرأة أفضل من الرجل في قوله تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)، فالمشبه الرجل، والمشبه به المرأة، ومن المتفق عليه بلا خلاف أن المشبه به أقوى وأفضل وأعلى من المشبه، ففي قولنا: وجه فلان كالقمر، فصفة الإضاءة والإشراق في المشبه به القمر أوضح وأقوى وأفضل من صفة الإضاءة في المشبه (الوجه)، وهكذا في أي تركيب لغوي يفيد التشبيه.
نحتاج إلى السياق اللغوي الكلي لإثبات أن المرأة أفضل من الرجل في قوله تعالى: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ)
حار المفسرون في تفسير الآية((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى))، فريق منهم قال: إن الآية من كلام أم مريم امرأة عمران، وفريق قال: إن الآية من كلام رب العالمين. وفي القولين تأكيد أن الأنثى أفضل من الذكر في الآية، أما الفريق الأول فبعضهم قرأ قوله تعالى: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) بضم التاء أي َلَيسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبْتُهُ وَرَجَوْتُهُ مِثْلَ الْأُنْثَى الَّتِي عَلِمَهَا الله وَأَرَادَهَا وَقَضَى بِهَا. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأُنْثَى تَكُونُ خَيْرًا مِنَ الذَّكَرِ، إِذْ أَرَادَهَا اللَّهُ، سَلَّتْ بِذَلِكَ نَفْسَهَا. وَبَدَأَتْ بِذِكْرِ الْأَهَمِّ فِي نَفْسِهَا، وَإِلَّا فَسِيَاقُ الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: وَلَيْسَتِ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، فَتَضَعُ حَرْفَ النَّفْيِ مَعَ الشَّيْءِ الَّذِي عِنْدَهَا، وَانْتَفَتْ عَنْهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ لِلْغَرَضِ الْمُرَادِ.
وقرأ الفريق الثاني (وضعتْ) بسكون التاء، فالمعنى إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِي وَضَعَتْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالْإِعْلَامُ بِمَا عَلِقَ بِهَا وَبِابْنِهَا مِنْ عَظِيمِ الْأُمُورِ، إِذْ جَعَلَهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ. وَوَالِدَتُهَا جَاهِلَةٌ بِذَلِكَ لَا تَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا. ينظر: البحر المحيط، ج3، ص105.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا وَضَعْتِ، بِكَسْرِ تَاءِ الْخِطَابِ، خَاطَبَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ أَيْ: إِنَّكِ لَا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذِهِ الْمَوْهُوبَةِ، وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِظَمِ شأنها وعلوّ قدرها. ينظر: البحر المحيط ، ج3 ، ص105
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كذلك: أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ مِنْهَا بِنَفَاسَةِ مَا وَضَعَتْ، وَأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ مُطْلَقِ الذَّكَرِ الَّذِي سَأَلَتْهُ. ويضيف ابن عاشور وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي رَغِبَتْ فِيهِ بِمُسَاوٍ لِلْأُنْثَى الَّتِي أُعْطِيَتْهَا لَوْ كَانَتْ تَعْلَمُ عُلُوَّ شَأْنِ هَاتِهِ الْأُنْثَى. ابن عاشور، ج3، ص 233
يقول الشعراوي: إن الحق يقول لها: لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى، إن هذه الأنثى لها شأن عظيم. الشعراوي ج3، ص 1436
لا يخفى أن المعاينة السياقية واللغوية والبلاغية لقوله تعالى ((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)) تنفي الفهم الشائع أن رب العالمين فضل الرجل على المرأة . وبهذا الفهم تتحقق العدالة الاجتماعية، وتعزز دور المرأة في تنمية المجتمع.
ينتزع الخطاب السلفي جزءا من آية من سياقها اللغوي، ويستعملونها سلطة لغوية طاغية لتعزيز تسلط الفكر الذكوري في المجتمع والسيطرة على المرأة، نحو قوله تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ…) ليوهموا عامة الناس أن سلطة الرجل على المرأة تفويض رباني يتيح للرجل طمس شخصية المرأة وحبسها في بيتها، ومنعها من أبسط الحقوق الاجتماعية والإنسانية، ولا يخفى أن ربط الآية السابقة بسياقها ينفي السلطة المطلقة للرجل على المرأة في قوله تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)، فقوامة الرجل على المرأة مشروطة بالإنفاق، لأن الباء في (بِما أَنْفَقُوا) سببية، فالرجال قوامون على النساء بسبب إنفاقهم المال وتحمل مسؤولية العمل وتوفير احتياجات الأسرة. وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا كَانَ لَهَا فَسْخُ الْعَقْدِ لِزَوَالِ الْمَعْقُودِ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ النِّكَاحُ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ على ثُبُوتِ فَسْخِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
ويحمل لفظ القوامة معنى حماية الرجل للمرأة والدفاع عنها وتوفير احتياجاتها المادية، ففي المعجم (فلان قائِمٌ بكذا إذا كان حافظا له متمسكا به. وقَيِّمُ المرأَةِ: زوجها لأَنه يَقُوم بأَمرها وما تحتاج إليه). وذهب ابن عاشور إلى أن قِيَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ هُوَ قِيَامُ الْحِفْظِ وَالدِّفَاعِ، وَقِيَامُ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْتَاجِ الْمَالِيِّ، فَالتَّفْضِيلُ هُوَ الْمَزَايَا الَّتِي تَقْتَضِي حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الذَّبِّ عَنْهَا وَحِرَاسَتِهَا. كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
يَقُتْنَ جِيَادَنَا وَيَقُلْنَ لَسْتُمْ بُعُولَتَنَا إِذَا لَمْ تَمْنَعُونَا
لا يُحسن عامة الناس فهم جملة (فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الآية السابقة، ويتوهمون أن التفضيل يقتصر على تفضيل الرجل على المرأة، ولكن الدلالة اللغوية تؤكد أن التفضيل يشمل الرجل والمرأة، أي فضل الله رجالا على نساء، وفضل الله نساء على رجال، وهذا التفسير اللغوي ينسجم مع العدالة الربانية، وماهية العقل البشري، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْأَوَّلِ الرِّجَالُ، وَبِالثَّانِي النِّسَاءُ. فَرُبَّ أُنْثَى فَضَلَتْ ذَكَرًا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْفَضْلِ لَا بِالتَّغَلُّبِ وَالِاسْتِطَالَةِ البحر. المحيط ج 3، ص 623.
ونبه صاحب تفسير البحر المحيط أن الْمُرَاد بِالرِّجَالِ هُنَا مَنْ فِيهِمْ صَدَامَةٌ وَحَزْمٌ، لَا مُطْلَقُ مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ. فَكَمْ مِنْ ذِي لِحْيَةٍ لَا يَكُونُ لَهُ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: رَجُلٌ بَيِّنُ الرُّجُولِيَّةِ وَالرُّجُولَةِ. وَلِذَلِكَ ادَّعَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ إِنْ كَانُوا رِجَالًا. البحر المحيط ج 3، ص 623.
ينتصر الآلوسي في تفسيره روح المعاني لتفضيل المرأة على الرجل في الآية بقوله: وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية، وقيل: للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال روح المعاني. ج 2، ص 23
لماذا جاء الفعل (أَنْفَقُوا) بِصِيغَةِ الْمَاضِي ولم يأت بصيغة المضارع؟ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مُنْذُ الْقِدَمِ، كان الرِّجَالُ هُمُ الْعَائِلُونَ لِنِسَاءِ الْعَائِلَةِ مِنْ أَزْوَاجٍ وَبَنَاتٍ. وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ (مِنْ أَمْوالِهِمْ) لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْ شَأْنِ الرِّجَالِ منذ عُصُورِ الْبَدَاوَةِ بِالصَّيْدِ وَبِالْغَارَةِ وَبِالْغَنَائِمِ وَالْحَرْثِ. ينظر: ابن عاشور، ج5، ص 38 ومن البدهي أن نخلص إلى النتيجة الآتية: إن كانت المرأة هي العاملة التي تملك المال، والقادرة على الإنفاق فيما يتعلق بشؤون البيت وتربية الأولاد، والزوج في هذه الحالة عاطل عن العمل، لا يملك مالا ينفقه، فلا فضل للزوج أو الرجل في القوامة. وإن كان الاثنان الزوج والزوجة يعملان وقادرين على الانفاق، فإن القوامة تصبح مشتركة، ويعتمد هذا الفهم اللغوي الدلالي على باء السببية في قوله تعالى (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)، لأن الإنفاق يصبح مسؤولية مشتركة، ويصبح المال لهما، وليس (لهم) أي الرجال وحدهم.
ولا يصح أن تأخذ «قوام» على أنها السيطرة؛ لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يتولى شئونهن. وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلا بد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكناً له، وهذه فيها تفضيل للنساء أيضاً. الشعراوي، ج 4، ص 2192
أعتقد جازما أن الأخذ بالسياق غير اللغوي أي ما يسمى أسباب النزول للآية الخاصة بقوامة الرجل يتنافى مع المقصد الرباني وفق التفسير اللغوي الذي لا يخفى على مَنْ يفهم أبسط دلالة اللغة وقواعدها وفق ما تقدم بيانه، قيل إن قوله تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وامْرَأَتِهِ حَبِيبَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ فَلَطَمَهَا، فَانْطَلَقَ أَبُوهَا مَعَهَا إِلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَفْرَشْتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَقْتَصَّ مِنْ زَوْجِهَا»، فَانْصَرَفَتْ مَعَ أبيها لتقتصّ منه فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْجِعُوا هَذَا جِبْرِيلُ أَتَانِي بِشَيْءٍ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا، وَالَّذِي أَرَادَ اللَّهُ خَيْرٌ»، وَرَفَعَ الْقِصَاصَ. البغوي، ج1، ص 611
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نساؤنا يَأْخُذن مِنْ أَدَبِ الْأَنْصَارِ فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَن أراجعك فو الله إِن أَزوَاج النَّبِي لِيُرَاجِعْنَهُ وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ فَرَاعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْهُنَّ ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيءَ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ» الْحَدِيثَ. ابن عاشور، ج 2، ص 397
أما قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ () فيحفظ أنصار الفكر الذكوري المتسلط الجزء الثاني (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) من الآية ويمثلون بها، ويغفلون الجزء الأول (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تِلْكَ الدَّرَجَةُ إِشَارَةٌ إِلَى حَضِّ الرِّجَالِ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالتَّوَسُّعِ لِلنِّسَاءِ فِي الْمَالِ وَالْخُلُقِ. البحر المحيط ، ج2، ص 461
وَفِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِثْلُ الَّذِي لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الْآخِرِ، وَبِالْعَكْسِ. وَكَانَ الِاعْتِنَاءُ بِذِكْرِ مَا لِلنِّسَاءِ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى الرِّجَالِ، وَتَشْبِيهِهِ بِمَا لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ لِأَنَّ حُقُوقَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ مَشْهُورَةٌ، مُسَلَّمَةٌ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ الْبَشَرِ، فَأَمَّا حُقُوقُ النِّسَاءِ فَلَمْ تَكُنْ مِمَّا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ أَوْ كَانَتْ مُتَهَاوَنًا بِهَا، وَمَوْكُولَةً إِلَى مِقْدَارِ حُظْوَةِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ زَوْجِهَا، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَامَهَا. وَأَعْظَمُ مَا أُسِّسَتْ بِهِ هُوَ مَا جَمَعَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ() لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يَتَوَقَّعُهَا السَّامِعُونَ، فَقُدِّمَ لِيُصْغِيَ السَّامِعُونَ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُخِّرَ فَقِيلَ: وَمِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ لَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِي هَذَا إِعْلَانٌ لِحُقُوقِ النِّسَاءِ، وَإِصْدَاعٌ بِهَا وَإِشَادَةٌ بِذِكْرِهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَلَقَّى بِالِاسْتِغْرَابِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَحَلَّ الِاهْتِمَامِ. ابن عاشور ج 2، ص 397
يقول سيد قطب: أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة. وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي! فتذهب إليه. وترده إلى عصمتها! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف. وهي درجة مقيدة في هذا الموضع، وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون، ويستشهدون بها في غير موضعها في ظلال القرآن، ج1، ص 246
ما دور الكتاب المدرسي في بناء الإنسان وتنمية المجتمع؟
تتوزع دلالة لغة الكتاب المدرسي على مستويين؛ مستوى سطحي معلن تطفو على سطحه الدلالات المعجمية البسيطة. ومستوى مضمر تستقر فيه الدلالات الثاوية في البنية العميقة. ويبدأ تأثير المعاني في ذاكرة الطالب تدريجيا، ثم يتحول المخزون المعلوماتي إلى مفاهيم وسلوك في مواقف محددة دون أن يعي الإنسان أن المفاهيم ومنظومات القيم تشكلت منذ كان تلميذا في المدرسة، وأن الكتاب المدرسي هو المؤثر الأول.
يقتضي اختيار نصوص الكتاب المدرسي وعيا بنيويا يعالج مقتضيات مرحلية وإستراتيجيات مستقبلية لبناء إنسان قادر على تغيير واقع وبناء مستقبل ، فاختيار مضمون الكتاب المدرسي ليس اختيارا عفويا أو ذوقيا انطباعيا.
من يختار موضوعات الكتاب المدرسي؟ هل تكفي الخبرة الزمنية التراكمية للمعلم أم يحتاج الكتاب المدرسي لمتخصصين وخبراء؟ ينبغي أن تتضمن موضوعات الكتاب المدرسي منظومات قيم عليا، نحو الحرية والمواطنة والعدالة واحترام الرأي الآخر. ولا يخفى أن بعض النصوص مثقلة بمعان ودلالات سلبية مضمرة، واللافت أن هذه النصوص تسمى “عيون الأدب العربي” وخاصة في شعر المديح الذي يضفى هالة من القداسة على الممدوح الخليفة والسلطان والأمير فشكل الخطاب المدحي المقديس نسقا ثقافيا مضمرا تسرب من الكتاب المدرسي إلى ذهن الطلبة، وأرى أن هذا الخطاب المقدس مسؤول عن ظاهرة النفاق السياسي في المجتمع العربي. وفي شعر الفخر يكمن نسق ثقافي مضمر مثقل بثقافة التعصب العرقي والقبلي والطائفي والمذهبي، وهو مسؤول عن مخرجات الصراعات العائلية والطائفية. فلغة المدح السياسي المعاصر هي امتداد للقصيدة المدحية في الشعر العربي؟ والنسق المضمر للنقاق السياسي وظاهرة التصفيق وتعليق صور الزعماء مرتبطا بغرض المدح في الشعر العربي؟ لا يخفى أن الشاعر العربي أساء إلى اللغة والقيم في مدح من لا يستحق. ويعد التعصب القبلي العشائري في الوطن العربي امتدادا لنسق ثقافي يشكل حضورا لافتا ومعيبا– برأيي- في غرض الفخر بالقبيلة. من السهل ملاحظة الترابط النسقي بين ظاهرة العربدة السياسية التي اتخذت مسميات عدة في الأقطار العربية (بلطجية والشبيحة وزعران النظام) من جهة ونسق ثقافي شائع في الشعر العربي نحو قول عمرو بن كلثوم:
لنَا الدُّنْيَا ومَنْ أمْسَى عَلَيْها ونَبْطِشُ حَيِنَ نَبْطِشُ قَادِرِينا
بُغَاةٌ ظَاِلَمينَ وَمَا ظُلِمْنَا وَلكِنَّا سَنَبْدَأُ ظَاِلِميِنَا
هل نبالغ إذا قلنا إن لغة التقزيم والألفاظ الجارحة النابية منتقاة من معجم شعر الهجاء وخاصة في ثقافة الحوار بين النقاد\ نقد النقد\ أحيانا؟ بعض الطيبين يخشى من توجيه ملاحظة لناقد أو شاعر أو كاتب خوفا من سلاطة لسانه لأنه من سلالة جرير والفرزدق والأخطل ومن قبلهم الحطيئة ومن بعدهم بشار بن برد، هؤلاء الشعراء أصحاب أضخم معجم في الشتائم، لم يموتوا بعد لأن لهم أحفادا محسوبين على أقطاب الثقافة العربية.
وتعزز بعض نصوص التربية الإسلامية الفجوة بين الرجل والمرأة حينما يعرض الكتاب المدرسي لواجبات المرأة التي تكاد تنحصر واجباتها على شؤون بيتها، أما واجبات الرجل فتشمل الوظائف كلها خارج البيت. أما دروس العبادات فتكاد مخرجاتها تقتصر على الحفظ دون أن يتحول المحفوط إلى تفكير وسلوك.
يحتاج التعليم المدرسي إلى ثقافة تأصيل المصطلحات والكلمات لكي يتخرج الطلبة وهم قادرون على التأصيل والتعليل للظواهر الفكرية والاجتماعية، فالفجوة واسعة بين جيل يحفظ، وجيل يحفظ ويفهم. إن الحصة المدرسية التي تلتزم بمضمون الكتاب المدرسي دون أن يربط المعلم مضمون الحصة بالمجتمع خارج أسوار المدرسة لا تستحق أن تكون في الكتاب المدرسي.
المراجع
1- انظر: عبد المطلب، محمد: القراءة الثقافية .ص80
2- انظر: شرابي، هشام: النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين . ص18
3- انظر: المرجع نفسه . ص15
4- وقيدي، محمد: النقد الحضاري والنقد الذاتي . ص107\ وينظر النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي .ط4 ، دار نلسن ، بيروت ، 2000 ، ص 186-
5- شرابي، هشام: النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين . ص16
6- انظر: وقيدي، محمد: النقد الحضاري والنقد الذاتي . ص108\ وينظر: كتاب النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي .ط4 ، دار نلسن ، بيروت ، 2000 ، ص 186
7- شرابي، هشام: النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين . ص80
تحميل الورقة العلمية
ورقة الدكتور غانم الشيخ
التجديد ومجتمع المعرفة – تكوين العامل المشترك
- عميد سابق لكلية الطب بتكريت – العراق
- حاصل على الدكتوراه من جامعة لندن – بريطانيا
كما يبدو من العنوان، سأتعرّض في هذه الورقة الى مسألة عملية بحتة لكشف العلاقة بين التجديد والتغيير ومجتمع المعرفة ومن ثم التطرق الى الأدوات المنهجية القادرة على تكوين العامل المشترك والمحرّك للمجتمع للوصول الى مجتمع المعرفة.
يشتمل كل من التجديد في عالم المعلومات المعاش فيه حالياً ومجتمع المعرفة على نوع أو أكثر من عمليات التغيير، والسؤال الرئيسي في هذه الورقة يسأل: ما هو العامل المشترك القادر على التغيير في المجتمع بهدف الوصول الى ما نربو اليه من هدف في الدخول في عالم مجتمعات المعرفة؟ لذلك تهدف الورقة الى تحديد العامل الفاعل والمشترك بين عمليات التجديد والتغيير والانتقال الى مجتمع المعرفة وكيف بالإمكان التوصل الى فك رموز عملية تكوين هذا العامل المشترك المقصود.
مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة
من المعروف في أدبيات عالم المجتمع المقصود، أن القوى البشرية هي القادرة على التغيير والسير في السبل الموصلة نحو تحقيق هذا المجتمع. ولابد من الاعتراف بأن الطريق الى بلوغ هكذا تحول اجتماعي هو طريقٌ طويل وقد تم التطرّق الى ذلك فيما قُدّم لغاية الآن أثناء جلسات هذا المؤتمر. نعم، ان طريق التحولات الاجتماعية طويل وقد يأخذ عقود بل وقرون مثل ما جرى حين الانتقال من مجتمع ما قبل الصناعي الى المجتمع الصناعي ومن ثم الى مجتمع المعرفة مروراً بمجتمع المعلومات الذي لازال مهيمناً، حتى اليوم، على أكثرية المجتمعات حول العالم.
وبلغة مسبطة نقول إن مجتمع المعلومات هو المجتمع الذي يعتمد على المعلومات وهي “المواد الخام” اللازمة للعمل على الانتقال الى مجتمع المعرفة. تقول منظمة اليونسكو “أن هدف بناء اقتصاديات ومجتمعات المعرفة هو هدف معلن في المنطقة العربية” وهذا مذكور في كتاب أصدرته المنظمة عام [2019] ويضيف المصدر “بأن معظم الخطط التنموية تدعو الى إنتاج وتوطين واستخدام المعرفة في مختلف الحقول”.
يبدو لنا الاعلان أعلاه مُطَمئناّ بأن هذه البلدان سائرة في النهج المتجه نحو الوصول الى مجتمع المعرفة. ومن حقنا أن نتساءل هنا: ان الخطط التنموية تتطلب توفر عناصر بشرية قادرة على تفهم الخطط وتبني منطلقاتها بعد وضعها ومن ثم قادرة على تنفيذ هذه الخطط وتقويمها والاستفادة من دروسها، فهل نحن كذلك؟
يوصف الوطن العربي بأرقام كبيرة تدل على وجود الإمكانيات الضخمة في أرجائه وتشجع على التفاؤل، فهذا الوطن يضم [22] دولة ممتدة في موقع جيوسياسي مهم على مشارف ثلاث قارات هي أفريقيا وآسيا وأوربا وعلى مساحة تزيد على ال [14] مليون كيلومتر مربع وفيه أكبر نسبة من القوى البشرية الشابة والقادرة على التعلّم وبسكان يتجاوز رقمه ال [450] مليون نسمة. ولكن، هل تكفي الأرقام وحدها وتعطي التطمينات في تحقيق الرؤى والآمال؟ أنا أشك في ذلك.
ولكي نتأكد من أن وجود أرقام كبيرة يعني وجود نتائج تفضي الى الدخول في عالم مجتمعات المعرفة، نأخذ مثالاً مبسطاً قمنا به وعملنا مخططات للمقارنة بين تغيّر أعداد كليات الطب في الوطن العربي وفي الولايات المتحدة على مدى مائة عام بين [1915-2015] وكذلك التغيّر الحاصل في نسبة السكان لكل كلية طب واحدة للفترة ذاتها. وقد أخذنا الولايات المتحدة للمقارنة لأنها تتكون من ولايات متعددة وفيها عدد سكان مقارب لسكان الوطن العربي ويبلغ [332] مليون نسمة وكذلك لسبب مهم آخر وهو كونها دولة تحتل المركز الأول في ترتيب دول العالم من ناحية درجة التحول الاجتماعي نحو مجتمع المعرفة. نشاهد أن عدد الكليات في عام [1915] بلغ في الولايات المتحدة [75] كلية مقابل [4] كليات في الوطن العربي وتزايد هذا العدد خلال فترة المائة سنة بحيث فاق العدد في الوطن العربي [191] العدد في الولايات المتحدة [171] في العام [2015] وربما زاد العدد في الوطن العربي حالياً زيادة كبيرة خلال السنوات الثماني الماضية منذ عام [1915]. وعند مقارنة نسبة السكان لكل كلية طب واحدة نجد أنها تطورت في لولايات المتحدة من [1.3] عام [1915] الى [1.8] عام [2015]، في حين أن النسبة في الوطن العربي تحسنت من [11] مليون نسمة لكل كلية طب لتصل الى [2.1] بحلول العام [1915]. والسؤال هنا تفرضه الأرقام المذكورة والتي تشير الى تحسن أعداد الكليات ونسب السكان لكل كلية بصورة أسرع في الوطن العربي مقارنة بالتغير في الولايات المتحدة، فهل تعني الزيادة بعدد كليات الطب بهذه السرعة أن القطاع الصحي في الوطن العربي تحسّن بدرجة أعلى في الوطن العربي مقارنة بالولايات المتحدة؟ بالطبع لا فإن الكم لا يكون فعالاً بعند غياب النوعية ولا يمكن الوصول الى حافات مجتمع المعرفة بدون نوعية وجودة القوى البشرية المسند اليها عملية التغيير.
أشار الكثير من المتحدثين في مؤتمرنا هذا عن مجتمع المعلومات وعن مجتمع المعرفة. سأحاول هنا أن أخوض تجربة بسيطة لتحليل المجتمعَيْن والذهاب الى رحاب دراسة الفروق بين الاثنين مما يفتح لنا الباب لدراسة الحاجات وتوفير القوى البشرية القادرة على تلبية تلك الحاجات بهدف دفع مجتمع المعلومات للانتقال تدريجياً الى مجتمع المعرفة. يُعرّف مؤتمر القمة العالمي لمجتمع المعلومات، المنعقد في جنيف عام [2003]، مجتمع المعلومات الذي نعيش فيه الآن بأنه: “مجتمع يستطيع كل فرد فيه استحداث المعلومات والمعارف والنفاذ إليها واستخدامها وتقاسمها بحيث يُمَكّن الأفراد والمجتمعات والشعوب من تسخير كامل إمكانياتهم في الوصول الى مجتمع المعرفة وتحسين نوعية حياتهم.” فما المقصود “بإمكانيات المجتمعات والشعوب” المشار اليها في أعلاه؟
ولو أقمنا مقارنة هذا التعريف بالتعريف المعبّر عن مجتمع المعرفة وكما مبيّن في الشكل رقم [3] سنكتشف أن جميع أجزاء التعريف ما عدا توفر البنية التحتية (الفقرة الأولى في التعريف) تتعرّض للقدرات المختلفة الواجب توفرها في مجتمعات المعرفة وهي:
- توفُّر بُنية تحتيّة مبنيّة على تكنولوجيا الاتِّصالات والمعلومات.
- توفُّر مراكز البحوث، والتطوير،
- المقدرة على الابتكار، استخدام العقل، إنتاج وتوليد المعارف،
- أفراد قادرين على انتاج المعرفة،
- تمكين التعليم لتغيير نحو بناء القدرات.
- تجدُّد المعرفة باستمرار،
- إتقان صناعة المعلومات ونشرها واستخدامها بطُّرُق غير نمطيّة في المؤسَّسات،
- زيادة أعداد الموارد البشريّة ذات المقدرة على الإبداع، والابتكار،
- نموّ قدرات التعلُّم الذاتيّ والتعليم المستمرّ مدى الحياة،
- تنمية المقدرة على اتِّخاذ أكثر القرارات فعاليّة، التركيز على العمل الذهنيّ من خلال حلّ المشكلات، وتنمية الفُرَص…الخ.
لو تمعّنّا وقارَنّا بين التعريفين الاثنين سنجد أن “القدرات” تشكل أكثر المستلزمات في تكوين وتجديد مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة لغرض إنشاء تحوّل مجتمعي. ولكن من يطبق هذه القدرات بغرض البدء بإجراء هذا التحوّل؟ برأينا أن البدء بهكذا تطبيق يقود الى التحوّل المنشود، يتوجب “صناعة وتكوين” عامل التغيير هذا الذي سيتمثّل بالقدرات التغيرية اللازمة والتي تؤدي تطبيقاتُها الى خلق كتلة حرجة في المجتمع المستهدَف. وكما معروف فان التحولات المجتمعية تُقتاد على خط زمني يبدأ بالوصول الى الكتلة الحرجة، أي بلوغ عدد عوامل التغيير رقماً نسبياً يبدأ بعده التغيير والتحول المجتمعي ويتوسع بسرعة ليسود مناحي حياة المجتمع. أنا أفهم الأمر هكذا وقد يختلف معي الرأي المتخصصون في العلوم الاجتماعية وهم بلا شك أكثر مني دراية بالآراء المختلفة حول التحولات الاجتماعية. اذن نحن نحتاج الى عوامل تغيير تحمل القدرات التي ينتج عن تنفيذها في كافة القطاعات رفداً وتشيلاً للكتلة الحرجة للدفع بمشروعات التحول الاجتماعي نحو مجتمع المعرفة.
كيف تُقاس مجتمعات المعرفة؟
قبل أن نُشخّص عامل التغيير ومن ثم نذهب لإيجاد السبل والأدوات لصناعته وتكوينه، يتوجب علينا دراسة المعايير التي يتصف بها مجتمع المعرفة وتقاس درجة الوصول اليه بموجب هذه المعايير ونتساءل: كيف تقاس مجتمعات المعرفة ووفق أي مؤشرات ومعايير؟
وفق مؤشر المعرفة العالمي [Global Knowledge Index: https://www.knowledge4all.com/ranking ]، الذي ينشر تقارير سنوية تعتمد على نتائج مسوحات واسعة للدول في أنحاء العالم لقياس درجة توفر مؤهلات تخص مجتمعات المعرفة ووفق معايير مفصلة لتقييم كل دولة تستجيب لطلب المسح وتُرتب هذه الدول وفق درجة توفر مؤهلات مجتمع المعرفة وفق المعايير المستخدمة. يتضمن المسح سبعة محاور رئيسية تغطي ما مجموعه [220] معيار قياسي فرعي وتجمع بالآخر هذه القيَم وتقرب الى درجة نهائية من مجموع مائة لترتب الدولة وفق تلك الدرجة، كما مبين في الشكل رقم [4]. تتعرض المحاور السبعة للعناوين التالية:
المحور الأول: التعليم قبل الجامعي ويضم [28] معياراً فرعياً ويهدف الى “ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع” هدفًا رئيسيًّا والتأكيدِ على أنّ تحصيل تعليم جيّد يُمكّن الحراك الاجتماعي والاقتصادي الصاعد.
المحور الثاني: التعليم التقني والمهني ويضم [25] معياراً فرعياً ويهدف الى تقييم وتقويم منظومة التعليم والتدريب وضمان اسهامها بشكل مباشر أو غير مباشر في توفير اليد العاملة الماهرة ورأس المال البشري المؤهَّل والتي لها أهمية استراتيجية قصوى في بناء المجتمعات المتماسكة والمنتجة.
المحور الثالث: التعليم العالي ويضم [33] معياراً فرعياً ويهدف الى ضمان تأدية التعليمُ العالي لدوره الرئيسي في دفع عجلة المعرفة والابتكار من خلال إعداد رأس المال البشري وتجهيزه بالمؤهّلات والقدرات والمهارات اللازمة لتلبية احتياجات الصناعات التي تقود اقتصاد المعرفة العالمي ويشمل التعليم العالي برامجَه قصيرة الأمد، ومراحلَ درجة البكالوريوس أو ما يعادلها، ودرجة الماجستير أو ما يعادلها، ودرجة الدكتوراه أو ما يعادلها والتي تقدّمها مؤسساتُ التعليم العالي العامةُ والخاصة.
المحور الرابع: البحث والتطوير والابتكار ويضم [40] معياراً فرعياً ويهدف ضمان مساهمة البحث والتطوير كنشاط إبداعي يتمّ بشكل منظومي من أجل زيادة المخزون المعرفي بما في ذلك المعرفةُ بالإنسان والثقافة والمجتمع واستخدام هذا المخزون المعرفي في تطبيقات مختلفة لعب الابتكار بصفته نشاطٌ إبداعي دوره ليؤدي إلى تطوير المنتجٍ أو العمليات الجديدة التي تختلف اختلافًا كبيرًا عن المُنتج الذي سُلِّم مسبقًا للمستهلكين، أو العمليات التي استخدمتها سابقًا الشركة القطاع المعني حيث يمثّل البحثُ والتطويرُ والابتكار قضيةً مركزية مؤثّرة في إنتاج المعرفة ونشرِها وتطبيقها من أجل دعم التنمية.
المحور الخامس: تقنيات المعلومات والاتصالات ويضم [33] معياراً فرعياً ويهدف الى ضمان ولكي تحقيق قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إمكاناتِه الكاملةَ وألا يقتصر على إنتاجُ المعرفة على مجموعة من البلدان أو المناطق، بل يجب توطينُها ومشاركتها من أجل رفاه المجتمعات استشراف كيفية تطوّر المستقبل وضمان فهم التفاعلات التي تنطوي عليها الاتّجاهات اتّجاهات ناشئة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والقطاعات المعرفيّة؛ لأنها غالبًا ما يُعزّز بعضُها بعضاً.
المحور السادس: الاقتصاد ويضم [32] معياراً فرعياً ويهدف الى ضمان التميّز بتنوّع الإنتاج والإنتاجية والعمالة ورأس المال البشري، هو المحدّد الرئيسي لقدرة البلدان على مواجهة التحوّلات العالمية، وقدرتها على التواؤُم مع التطورات التي يشهدها العالم وتمثّل مكوّنات اقتصاد المعرفة المتعلّقة بالقدرة التنافسية الاقتصاديّة، والانفتاح الاقتصادي، والتمويل والقيمة المضافة المحلية، مؤشرات مهمة لمعرفة قدرة الاقتصادات ومرونتِها على مواجهة التحوّلات والتطوّرات العالمية.
المحور السابع: البيئة التمكينية ويضم [29] معياراً فرعياً ويهدف الى ضمان وجود شروط الاحتضان والدعم الضرورية لتهيئة الظروف والفرص الملائمة التي تؤمّن إنتاجَ المعرفة وتطويرَها وتوظيفها لتحقيق التنمية المستدامة. فهي تُعتبر محدّدًا أساسيًّا لتطوّر مؤشرات المعرفة المتعلّقة بكلّ القطاعات، حيثُ إنّ العواملَ المتعلقة بالتمكين الاقتصادي والاجتماعي والسياسيّ المؤسّساتيّ تشكّل الدعاماتِ الأساسيّةَ التي يرتكز عليها التمكين المعرفيّ. وتشمل هذه البيئةُ التمكينية مسائلَ متعددةً مثلَ السياسات والخطط التنموية والتربوية والتأهيلية، ومشاريعِ الإصلاح الاقتصادي والسياسي. تُضاف إلى ذلك البنيةُ التشريعية المساعِدةُ على إسناد عمليات التنشئة المعرفية للأجيال الجديدة، وعلى إرساء دولة القانون وتكريس منظومة الحقوق الإنسانية، بما يحقّق سلامة الإنسان ورفاهيّتَه والمساواة. وكذلك ضمان وجود مستويات عالية في الخدمات الصحّيّة وجودة الحياة والبيئة التي تُعدّ أيضًا ممكِّناتٍ عامّةً تؤدّي دورًا أساسيًّا في تحقيق التنمية المستدامة.
يبين الشكل رقم [4] رسم بياني للمحاور السبعة ودرجة مستوى الدولة قياساً بالدرجة الكاملة للمؤشر (يقع على الساعة 12) ويخص المثال المرسوم دولة الولايات المتحدة الأميركية وهي الدولة رقم واحد في تسلسل الدول المستجيبة للمسح في عام [2021] وكان عددها [132] دولة. ويبين الشكل الثماني الزوايا، الدرجة التي حصلت عليها الدولة المذكورة من مجموع مائة (الخطوط باللون الأسود) وهو أعلى من معدل درجات الدول ذات المؤشرات العالية في تنمية الموارد البشرية (اللون الأزرق) وأعلى من درجات المعدل العالمي للدول المستجيبة للمسح (اللون الأحمر).
أين الدول العربية من مجتمع المعرفة؟
ولكن أين نحن كوطن عربي من كل هذا؟ تحاول هذه الورقة وضع رسم بياني وكما مبين في الشكل رقم [5]، لتقديم نتائج المسح للعام [2021] والذي شمل [132] دولة لتقديم ما حققته الدول العربية المستجيبة للمسح المذكور وفق الدرجة الكلية لمؤشر المعرفة العالمي. تُمثل الأعمدة الظاهرة درجة كل دولة على المؤشر المذكور ابتداءً من اليسار والذي يمثل أعلى درجة ومقدارها [68.4%] وتعود للدولة رقم واحد في سلّم المؤشر وهي الولايات المتحدة ونزولاً الى أقصى اليمين حيث يبلغ المؤشر [21.4%] ويعود الى دولة تشاد وهي في التسلسل [132 من مجموع 132 دولة]. ويمكننا التعرف على المعدل العالمي للمؤشر والذي يتمثل بالخط باللون الأحمر ويحمل مؤشر قيمته [46.47] وهو ما حصلت علية أوكرانيا والتي تعتبر آخر دولة داخلة في عالم مجتمعات المعرفة وفي التسلسل [63]. ويتبين من هذا المخطط، أن هناك ست دول عربية حصلت على مؤشرات تبلغ قيمها درجات أعلى من المعدل العالمي وهي (وفق تسلسل درجاتها وترتيبها بين الدول: الامارات العربية المتحدة (المركز 25 من 132] وقطر [37] والعربية السعودية [43] والكويت [47] وعُمان [54] والبحرين [المركز 55 من مجموع 132 دولة مشاركة]. وكما مبين فان الدول الست التي حصلت على مراكز فوق المعدل العالمي هي بالذات دول مجلس التعاون الخليجي. كما يهمنا الانتباه الى أن الدرجة التي حصلت عليها الدولة في التسلسل رقم واحد حصلت على مؤشر بدرجة [68.4]، أي أنها لم تحصل على الدرجة الكاملة وهي مائة لأن مجتمع المعرفة ليس هدف محدد يمكن لدولة الوصول اليه وانما هو مجتمع يتطور على الدوام ويسعى الى كسر الحدود في البحث والتقصي والابتكار. كما تبين لنا من تعرف ذلك المجتمع في أعلاه.
ولو نظرنا الى المخطط البياني، تظهر فيه كذلك ست دول عربية أخرى وبتسلسل يأتي تحت تسلسل المعدل العالمي وهي تونس [في الترتيب 82 من مجموع 132 دولة] والمغرب [85] وفلسطين [93] ومصر [95] والأردن [96] وموريتانيا [122]. ومن المهم التأكيد على أن ظهور هذه الدول الست في المخطط وبالرغم من حصولها على مرتبات جاءت تحت المعدل العالمي لمؤشر مجتمع المعرفة، فإن هذا الظهور يمثل خطوة كبرى تبعث على التفاؤل وتشجع هذه الدول لدراسة المحاور التي تحتاج الى دعم أكبر وتطويرها مع المؤشرات الأخرى والدخول في عملية بناء تنافسية للنهوض بهذه المؤشرات والدخول فعلياً في عمليات تتوجه نحو تحقيق مؤشرات واضحة لبناء مجتمع المعرفة وعبر خطط تنموية متوسطة وطويلة الأمد وكما وصفت هكذا مشروع مقولة كونفوشيوس “بإن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.”
أما بقية الأقطار العربية التي غابت عن أي ذكر لها في المخطط المكون من [132] دولة ولم تظهر فيه أقطار عربية مثل الجزائر والعراق ولبنان والسودان وسوريا وليبيا واليمن وأقطار أخرى بالرغم من وجود بُنى تحتية كبيرة فيها. ويمكن التكهن بأن أكثر الأسباب لهذا الغياب قد يكون تأخر أو امتناع المؤسسة المسؤولة عن الاستجابة لطلب المسح الذي تقوم به المنظمة المالكة لعمل ونشر مؤشر المعرفة العالمي سنوياً وهو جهد كبير لجمع معلومات كثيرة مسندة الى أدلة علمية وإحصاءات معتمدة وتخص المحاور السبعة التي يضمها المؤشر لتحليل وترتيب تلك المعلومات التي تخص [220] معيار فرعي. يتوجب على هذه الدول أن الدخول في هذا المشروع يؤدي الى كنز من المعلومات والمؤشرات الإيجابية والسلبية والنواقص مما يبني للدولة قاعدة وطنية تتغير سنوياً وتوفر تقييماً دورياً لجهد الدولة في التخطيط والتنفيذ على طريق التطور واللحاق بالدول المتقدمة في سبيل الوصول الى رفاهية الشعوب وهو هدف النحول الى مجتمعات المعرفة.
عامل التجديد والتغيير ونصل الى المرحلة التي تستوجب منا التوقف لتحديد من يلعب دور عامل التغيير والتجديد وصولاً الى تشكيل الكتلة الحرجة في المجتمع والتي تتسع بسرعة بمجرد الوصول اليها وتقود التحول الاجتماعي التدريجي من مجتمع المعلومات الى مجتمع المعرفة. نحن نبحث عن هذا العامل ونجد أمامنا الكثير من فئات القوى البشرية العاملة وهي منتشرة في قطاعات المجتمع والمؤسسات المختلفة. ويكون بحثنا هذا مشابه لما يقوله المثل الإنكليزي “كالذي يبحث في غرفة ولا يرى الفيل الجاثم فيها”. وإن سألنا عن عامل التغيير المفترض والذي لا زال بعيداً عن مجتمع المعرفة، ستأتيك إجابات من مثل: مقاومو التغيير، والحكومة ومن يمتلك زمام الحوكمة، ومقدمو الخدمات، والوزراء، والمنظمات الاجتماعية، والهيئات والمؤسسات، ومخططو التمويل، والأكاديميون والخبراء، والموارد والبنية التحتية، والنُظم والمنظومات أم أنه المجتمع بأجمعه؟
من الواضح أن هناك سبب وأسباب لعدم تمكن البلدان العربية التي لم تظهر في مؤشر المعرفة العالمي لحد الآن ومن بينها دول لم تشرع بعد في التوجه نحو اتخاذ التحضيرات اللازمة للمضي في طريق المعرفة. ونفترض أن من أهم هذه الأسباب يتمثل بغياب أو ضعف قدرات المتعلمين أو الخريجين لسوء أداء القطاع التربوي والتعليمي الذي يتخرج منه خريجون لم يكتسبوا مهارات وقدرات تُمكنهم من التغيير والتجديد. وهنا أيضاً يحق لنا أن نتساءل لو أننا استطعنا على تكوين خريجين مسلحين بقدرات التغيير والتجديد ومجابهة التحديات التي تجابههم فهل يكونوا قادرين على التغيير والتجديد ومجابهة التحديات؟ والجواب يكون بالإيجاب بشرط خلو الخريج من عدد كبير من السمات والمعتقدات المَرضية.
ولكن ما هي هذه السمات والمعتقدات المرضية؟ من المؤكد أن الفرد منا في المجتمعات العربية يعاني من عدد كبير من الآفات والعادات والمعتقدات المرضية والتي يتوجب معالجتها ضمن المناهج التعليمية وتبديلها بسمات ومعتقدات إيجابية لكي تُمكّن القادر على التغيير ليكون فاعلاً في مجتمعه تجاه التغيير والتجديد. ونبيّن في أدناه عدداً من هذه الآفات والمعتقدات المرضية:
- الاعتداد المفرط بصواب الرأي الشخصي
- التمسك بالمظاهر وإهمال الجوهر
- الذاتية بديلا عن الموضوعية في العمل
- ضعف الاعتماد على النفس
- الاعتماد الأساسي على الذاكرة بديلة للتوثيق
- ضعف الابتكار والتقصي والبحث
- التعميم دون التحديد
- اللامبالاة والبلاغة
- عدم احترام الرأي الآخر
- · عدم احترام قيمة الوقت
- احتراف النقد الهدام
- الفردية المتضخمة
- الاسترخاء الفكري
- المبالغة بين التهويل والتهوين
- العشوائية في التخطيط
- الدوران حول المشاكل بدلاً من حلها
- المجاملة والشخصانية في العلاقات
- المزاجية في اتخاذ القرار
السؤال المهم هنا: هل بإمكان أي منهج تعليمي تدريبي على إكساب المتعلّم ثلاثة محاور من القدرات وهي:
(1) القدرات المهنية المتخصصة باختصاص الدراسة كالهندسة والزراعة والإدارة والطب…الخ،
(2) القدرات اللازمة لإنجاز التغيير والتجديد، أي قدرات عامل التغيير والتجديد بالإضافة الى
(3) معالجة الآفات السلبية المذكورة أعلاه وتحويلها الى ممارسات إيجابية. هل هناك هكذا منهج؟
الى أي فئة مِنَ القوى البشرية نتجه لكي “نَصنَع له قدراتِه ونكوّنه” ليأخذ دورَ العامل الفاعل والمشترك والمبادر في عملية التغيير والتجديد؟
بالطبع يتوجب أن نتوجه الى من سيقود في المستقبل كل تلك الهيئات والمؤسسات والمنظمات التي ذكرناها ونقصد بهم المتعلمين والمؤهلين في مهنهم وتخصّصهم مضافاً لها القدرات الضرورية للعب أدوار قيادية تؤهلهم كعوامل للتغيير والتطوير والسير بمؤسساتهم ومنظماتهم ومجتمعاتهم في طريق مجتمعات المعرفة. ولأن خريجي الجامعات يمثلون السواد الأعظم من قادة المستقبل القريب، فإن العمل لتكوين خريجين قادرين على القيام بدور عامل التغيير والتجديد يمثل المفتاح لرفد البلد بقياديين مَعْرفيين يقودون عملية الشروع بالعمل نحو الوصول الى الكتلة الحرجة في المجتمع الحالي والمضي بعد ذلك الى تبني خطط ومتابعات تفضي الى مستويات مَعْرفية تُدخل البلد في مجتمعات المعرفة.
ولكن، نعود مرة لسؤالنا فنسأل: هل هناك منهج يلبي حاجاتنا الثلاث المذكورة أعلاه؟ والجواب نعم هناك!
المنهج المُلبي لحاجات تكوين الكتلة الحرجة
تطوّرت المناهج التعليمية والتدريبية تطوراً مذهلاً خلال النصف الثاني من القرن العشرين والسنوات الفائتة من القرن الحادي والعشرين وحتى اللحظة وكما يتبين من العدد الهائل من البحوث التي تُقدّم تجارب وابتكارات تصميمية للمناهج وفق حاجات المجتمعات ووفق التطوّر الواسع في النظريات التربوية والتعليمية في أنحاء مختلفة من العالم إضافةً الى ما ينشر من بحوث تقويمية لتطبيقات فعلية للمناهج في كافة الاختصاصات.
ومن المعروف أن المناهج ليست قوالب ثابتة ومقدسة وإنما هي كيانات منظوماتية أي نظام [System] يتكون من عدد كبير من المكونات تعمل جميعها لتحقيق هدف واح للمنظومة. ومن أهم مقومات أي منهج تربوي/تعليمي هو شموله لبرنامج تقويم برمجي ديناميكي يتابع تنفيذ المنهج ويتوصل الى توصيات تحتاج الى اجراء تغييرات بشكل مستمر لتلافي نقاط الضعف والنواقص إضافة الى إدخال ما يستجد في مكونات المنهج.
وأهم متغير يتأثر به المنهج بصورة مباشرة هو التغير المستمر في حاجات المجتمع الى الكم والنوع من خريجي أي منهج. ولذلك فان تمسك الكثير من المسؤولين بمنهج تم العمل بموجبه منذ سنوات طويلة وأصبح الآن من غير المجدي حقن هذا المنهج بتجديدات متفرقة هنا وهناك وخصوصاً إضافة المعلومات لدرجة التضخم بغرض “حقنها” في أدمغة الدارسين واهمال المهارات والأخلاق والسلوك المهني وبغياب التجديد في أهداف ومخرجات المنهج وفلسفته التربوية وطرق التعامل مع الدارس ودوره في التعلّم…الخ.
المنهج الذي تحتاجه مجتمعاتنا ودولنا للدخول في عوالم المعرفة يبنى تصميمه بالارتكاز على القدرات المطلوب اكتسابها من قبل الدارس بأنواعها الثلاثة: القدرات المهنية وقدرات التغيير والتجديد والقدرات المعالجة للآفات السلبية بحيث تكون ممثلة في المنهج بشكل متكامل ومندمج. ولأن مخرجات هذا المنهج ستتمثل بإمكانية المنهج على تطبيق القدرات الموصوفة فان هذا المنهج يوفر فرص منهجية للمتعلّم للتعلّم عن طريق العمل والممارسة المنظوماتية المتكررة للقدرات:
[Systematic learning by doing and practising]
وهذه الطرق في التدريب والتعلّم هي من أهم طرق التعلّم المستخدمة اليوم لأن تدريس القدرات والمهارات والسلوك لا يمكن أن يؤدي الى اكتسابها أبداً من خلال استخدام الوعظ والمحاضرات والشرح وما الى ذلك من طرق التدريس التي تعطي للمتعلّم دوراً سلبياً وانما يكتسب المتعلّم هذه القدرات والسلوك والأخلاق بالممارسة المنظمة والمهيكلة ضمن المنهج. وتبدأ عملية صيغة هذا المنهج بتحديد دور الخريج والوظائف والواجبات المطلوب منه أداؤها ليتم تحليلها باستخدام تقنيات التحليل الوظيفي [Job analysis] يتبعه التحليل المهمات [Task analysis] وصولاً الى تحديد القدرات والمهارات والسلوك والأخلاق المطلوب إكسابها للخريج قبل تخرجه ليتم صياغة مكونات المنهج وفقها مع فرص ممارسة منهجية متكررة تتيح للمتعلّم تقبّلها واكتسابها واعتبارها جزء لا يتجزأ من أدواره المهنية ومهاراته وسلوكه المهني. وبالطبع لا يتسع المجال هنا لتفصيل الأمر والمعني بهذه التقنيات.
وبالتالي، تُصمم هذه المناهج بالبناء على الواجبات الوظيفية للخريج والتي تتكرر دائماً أثناء العمل ولكن بمحتوى متغيّر وهو يصلح في تعليم معظم مسارات التعليم الجامعي في تعليم وتدريب وتخريج الطبيب والمهندس والمحامي والمعلم/المدرس والإداري والاقتصادي والمخطط والمهندس الزراعي…الخ. وفي حالة الطب فان المنهج يُبنى على وحدات تعليمية تتكرر كل أسبوع دراسي يتمركز فيها المنهج حول “مشكلة طبية أو صحية” على شكل سيناريو حقيقي أو متخيل يتيح للمتعلّم ممارسات منهجية تعلميّة-ذاتية فعلية لحل المشكلة والوصول الى حلها والتعامل معها مروراً بنشاطات تبدأ بممارسة العصف الذهني والتحليل النقدي ووضع أهداف التعلم للأسبوع والذهاب الى رحاب ممارسة التعلّم الذاتي ومن كل المصادر المتاحة مثل الأساتذة والمرضى والمكتبات والعالم الرقمي والذهاب الى المجتمع لممارسة واكتساب القدرات التي يحتاجها في أداء دوره ووظيفته بعد التخرج والعمل ضمن مجموعة حتى الوصول الى حل المشكلة المعروضة وتوثيق ما جرى وفق تقرير أسبوعي مبني على الجليل العلمي واجراء تقييم ذاتي للنفس وللزملاء وللعملية التعليمية لمتابعة مخرجات الأسبوع. وتعاد هذه الدائرة المنهجية كل أسبوع والتعامل مع مشكلة جديدة وتحدٍ جديد وقدرات جديدة ومنها مكررة.
وبالصيغة ذاتها يُبنى المنهج على “الدرس أو الحصة الدراسية” في حالة كليات التربية وعلى “مشروع هندسي” في حالة الهندسة وعلى “دعوى قضائية” في حالة كليات الحقوق/القانون وعلى “عملية زرع لنبات” في حالة كليات الزراعة…الخ وكما موضح في الشكل رقم [8]. وهذا النوع من المناهج تم تطبيقه منذ عام [1969] وأُخضِع لتطوير مستمر وحتى اليوم.
تقوم المناهج التي تم ذكرها في أعلاه بصياغة مكونات المنهج من القدرات وكما ذكرنا سابقاً متمركزة على ثلاثة محاور وهي (1) القدرات المهنية المختصة بالتخصص الوظيفي للخريج، (2) القدرات اللازمة للخريج لكي يلعب دور عامل التغيير والتجديد بالإضافة الى (3) معالجة المعتقدات والمواقف السلبية المذكورة أعلاه وتحويلها الى ممارسات إيجابية. وفاتني ذكر القدرات التي يتميز باكتسابها الخريج عامل التغيير والتجديد وهي كما مبينة في الشكل رقم [9] وهي:
(1) القدرة على تحمل المسؤولية تجاه مجتمعه و
(2) القدرة على التفكير وفق المنظوماتية وحل المشاكل بطرق مُهيكَلة و
(3) ممارسة القدرة الاستباقية وليس ردود الأفعال و
(4) القدرة على التواصل الفعّال و
(5) القدرة على التفكير والتقييم الذاتي و
(6) القدرة والالتزام بمواصلة التعلّم مدى الحياة لنفسه وللآخرين و
(7) أن يكون “متحمس ومتعاطف ومُلهِمْ” للعاملين معه و
(8) أن يكون “متعاون مع الآخرين ومُيَسِّر لهم”. وفي الختام أقول، أن هذه الورقة عَرَضَتْ باختصار شديد، مقترح مشروع إستراتيجي للمعهد العالمي للتجديد العربي لتبني خارطة طريق لمنهج تعليمي جامعي يهدف الى خلق كتلة مجتمعية حرجة (ضرورية لبدء عملية التغيير والتجديد وصولاً الى مجتمع المعرفة) ويمكن عرض المقترح بعد تفصيله وبيان مكوناته على الأقطار العربية للاستفادة منه في الجامعات لخلق عوامل التغيير من القوى البشرية في كل التخصصات والقطاعات وهي القادرة على الوصول الى تشكيل الكتلة المجتمعية الحرجة المُفضي الى عوالم مجتمعات المعرفة الهادفة الى انتاجية ورفاهية المجتمعات. ويجب أن نتذكر أن انتاج هكذا خريجين قادرين على التغيير سيجعلهم مرشحين لإزاحة الطبقة الحالية التي تسيطر على قيادات القطاعات المختلفة ومنها السياسية لأن المستقبل للشباب.
المراجع
قائمة مراجع للقارئ الرجوع اليها للاستزادة من المعلومات عن المواضيع التي طرحت في المنشور.
1- بوعزة، محمد والسعادة، عامر عبد الرؤوف عبد. واقع اقتصاد المعرفة في الدول العربية-المغرب والأردن وتونس والجزائر ومصر. مجلة التجديد العربي. [2023]؛ المجلد الثالث، العدد الأول: صفحة [182-208].
2- [كيف أصبحت بنكالور وادي الحرير في آسيا. موقع “ذي سكيلرز”-[24/06/2020]: https://thescalers.com/how-bangalore-became-asias-silicon-valley/
3- [مؤشر المعرفة العالمي-تصنيف دول العالم [2021]. https://www.knowledge4all.com/ranking
4- الشيخ، غانم وجماعته. استعراض محاولات العراق لتحويل مناهج كليات الطب خلال العقود العشرة الماضية. مجلة الصحة لإقليم شرق المتوسط-منظمة الصحة العالمية. (2022)؛ المجلد الثامن والعشرين (العدد السابع): الصفحات: [539-548].
5- لطيفي، إلهام. عندما تعيد العروبة إنتاجها في ظل الحكومات غير العربية: الأحواز مثالاً. مجلة التجديد العربي. [2021]؛ المجلد الأول (العدد الأول)؛ الصفحات: [1-25].
6- النهار، غازي صالح. قراءة وعرض كتاب “دراسة المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل”. مجلة التجديد العربي. [2021]؛ المجلد الأول (العدد الأول)؛ الصفحات: [203-206].