وحدة الدراسات السياسية والاستراتيجيةتعقد وحدة الدراسات السياسية والاستراتيجية ندوة فكرية بعنوان : العرب والصراع الدولي
Posted by Global Institute for Arabic Renewal on Sunday, July 2, 2023
محاضرة الأستاذ الدكتور إبراهيم أبوخزام
العرب والصراع الدولي
- سفير سابق، ووزير التربية والتعليم الأسبق- ليبيا
- عضو وحدة الدراسات الاستراتيجية والسياسية- المعهد العالمي للتجديد العربي
عام 1995 نشرتُ كتابي الاستشرافي الأول (العرب وتوازن القوى في القرن الحادي والعشرين) (1) الذي شرعت في كتابته قبل ذلك بسنتين، في ذروة احتفالات غربية وعالمية (صاخبة)، تبشّر بظهور النظام العالمي الجديد بما يحمله من تباشير السلام والاستقرار بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وأيديولوجية الشيوعية الشمولية، المسؤولة بدرجة كبيرة عن الصراع والتوتر والمجابهات والحروب طوال الحرب الباردة.
وفي ذروة هذا الصخب العالمي، دفع العالم الغربي، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، بآلاته الفكرية والإعلامية والسياسية نحو إنتاج أفكار وشعارات جذابة تنطوي على (تصميم خديعة ناجحة) تدفع العالم نحو الاسترخاء والتعلق بالنظام العالمي الجديد وعدم الانتباه للمستقبل، والهدف من ذلك كسب مزيد من الوقت لتكريس الهيمنة الأمريكية الغربية قبل ظهور أي نوع من اليقظة من هذه الخديعة.
أطلق الغرب في ذلك الوقت ثلاثة شعارات شديدة المكر والدهاء، أولها: الانتقال من عالم الصراع إلى عالم التعاون، وثانيها: أن عالم الغد سيقوم على (توازن المصالح وليس توازن القوى)، أما الثالث فهو (العولمة)؛ حيث سيغدو العالم مسرحًا مفتوحًا تُزال فيه كل القيود بين الدول والشعوب لتتدفق الأفكار والسلع والخدمات دون عوائق، ويتنامى التعاون ويــبدأ قطاف ثمــار هذا الــنظام الــعالمي الــجديد، وفــي غــمرة هــذه الاحتفالات تــدفـقت كتـابـات (فرنسيس فوكوياما) نهاية التاريخ و(صموئيل هنتنغتون) عن صدام الحضارات و(توماس فريدمان) عن (السيارة الليكزس وشجرة الزيتون)، ومئات الكتب والمقالات والتحليلات التي تدفقت نحو بحيرة الخديعة.
لقد انطلت الخديعة على ملايين الناس، بما في ذلك نخب فكرية وسياسية وعلمية، بحسن النية وبعض الآمال في أن تجارب الصراعات والحروب لا بد وأنها تركت تأثيرها لتدفع الإنسانية نحو العقلانية للتمسك بفرص البحث عن الاستقرار والسلام.
وفي الوطن العربي، الذي انخرط بدرجة ما في موجة الاحتفال، ظهر من يشارك وجهات النظر الغربية إما بحكم معتقدات فكرية موالية للغرب أو بحكم التبسيط وعدم القدرة على التعمق في فهم الأحداث وقوانين التاريخ.
إن الخدعة التي انطلت على الملايين لم تنطل على ملايين غيرهم، وقد كنت من بين هذه الفئة الأخيرة، وفي كتابي المشار إليه حذرت العرب، وكتبت أننا سنعيش حالة أشد اضطرابًا مما كنا فيه، وستندلع حروب لا رحمة فيها، وقد يطاح بدول وأنظمة لا يعلمها إلا الله، وذلك استنتاج لم يكن مبنيًا على الرجم بالغيب، بل بني على قاعدة تاريخية راسخة أصبحت بمثابة (قانون تاريخي)، تقول (إن أخطر مراحل التاريخ هي مرحلة الصراع على بناء التوازنات الجديدة)، فمنذ سقوط التوازن القديم تندفع القوى القديمة والصاعدة نحو مناطق (الفراغ) ومناطق النفوذ المحتملة وبقايا الإمبراطوريات المندثرة، لتشتبك هذه القوى في صراعات وحروب قاسية لا تنتهي إلا ببناء التوازن الجديد.
وفي عام 2017م نشرت كتابي الاستشرافي (الصراع على سيادة العالم) (2) بعد متابعة دقيقة لأحداث عقدين كاملين سالت فيهما دماء كثيرة، واشتعلت حروب واسعة، قتلت وشردت الملايين، وعلى الأخص في البلقان والوطن العربي، وفيه ذكرت أن العالم لم يخرج من مرحلة الاضطراب بعد، وسيشتد الصراع والحرب في السنوات القادمة لاقتراب بناء التوازن، ففي هذه المرحلة سيشتد الاندفاع نحو مناطق النفوذ، ولا يُسمح بضياع الفرص، وتصبح الحروب أشبه بالتشنجات الغريزية غير المنضبطة بأي قانون أو أخلاق.
إننا اليوم في عام 2023 نعيش هذه المرحلة الأشد اضطرابًا، وهي مرحلة مفتوحة نحو غيرها، مما قد يكون أشد وأقسى.
من الممكن اعتبار الحرب (الروسية الغربية) التي تدور رحاها على أرض أوكرانيا مفتاحًا لبناء التوازن الجديد ومعركة ختامية لفترة مؤلمة، لكن من الممكن أن تكون مدخلًا لحروب جديدة أوسع وأقسى، فلا أحد يستبعد أن تتوسع أفقيًا نحو شرق آسيا للصدام مع العملاق الصيني، ونحو الشرق الأوسط لضرب القوى الصاعدة، وفي أي مكان آخر يُظهر رغبته في اللحاق بالتوازن، كما لا يُستبعد أن تتطور عموديًا باستخدام أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة الذرية التي أُخرجت من المخازن ووُضعت على منصات الإطلاق في البحار والأرض والجو، وتلك هي مرحلة التهديد التي تسبق الاستعمال إذا لم يعد للعالم رشده قبل فوات الأوان.
إن المسؤول عن هذا الاضطراب والوضع المشؤوم هو العالم الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الأمة التي أطلقت شعارات الخديعة الكاذبة وزعمت النضال من أجل الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، هي التي تدفع العالم نحو الحروب والصدامات بسبب أنانيتها المفرطة وجشعها الذي لا يتوقف، وأوهامها غير الواقعية بفرض هيمنتها إلى الأبد.
تعيش الولايات المتحدة، اليوم، أزمة حقيقية ومنظورة، ناجمة عن استنفاد طاقتها، مثلها مثل كل أمم التاريخ، فمن قوانين التاريخ الثابتة، سقوط القوى العظمى التدريجي وخضوعها لما كان يسميه (ميترنيخ) (تيار الزمان)،الذي يفعل فعله مهما كانت قوة الإمبراطورية ونفوذها.
وفي مناخ الأزمة، تتعرض الإمبراطوريات المنهارة إلى التشنجات العنيفة والتصرفات الغريزية الشبيهة برفس الشياه المذبوحة، فتضرب في كل الاتجاهات إلى أن تسلم الروح، ومن سوء حظ هذه الأمة (فقدان القيادة في وقتها العصيب)، فهذه البلاد التي قدمت عبر تاريخها أعظم النماذج للقادة الكبار من واشنطن إلى لينكولن وحتى أيزنهاور ونيكسون، وقعت في وقتها العصيب بين أيدي رجال صغار جدًا من أمثال جورج بوش الصغير الأجوف، أو دونالد ترامب الأهوج، أو جو بايدن الذي يوحي بصورة مومياء فرعونية تتنفس أكثر مما يوحي برجل دولة قادر على قيادة أمة تتلاطمها الأمواج.
لقد تهاوت شعارات (العولمة) مبــكرًا على يد أمريكا والغرب قبل أن تتهاوى في أي مكان آخــر، فالغـــرب الــذي أطلق الــشعار ليمــهد لتـــــدفق أفكـــاره وســلعه وخـــدمـــاته، اكــــــتشـف -مُبكرًا- أنه أكثر هشاشة من كل الآخرين، وسقط في الامتحان الأول أمام تدفق بضائع الصين واختراعات آسيا، وبدأ الصراخ أمام منتجات (هواوي) وبرامج تيك توك والصناعات الدقيقة التي أبانت عوراته، أما أفكاره عن ضرورة انسياب الأفكار عبر وسائل الإعلام الحرة وشبكات التواصل الاجتماعي، فقد تهاوت مع أول هجوم روسي على أوكرانيا، فقد تصرفت أمريكا وكل دول الغرب بطريقة مجنونة لتسد كل منافذ العولمة، ففرضت حظرًا قاسيًا على وسائل الإعلام الروسية وأغلقت كل المنابر، وطالت أيديها كل منفذ محتمل لصناعة الرأي العام، بما في ذلك الأندية الرياضية والرياضيون أنفسهم الذين قد يعينون بلادهم في الوصول إلى الرأي العام.
إن هذا العالم الذي يسير نحو ما هو أشد اضطرابًا، يتطلب منا نحن العرب محاولة فهمه بصورة علمية تستند إلى فهم (قوانين التاريخ) وحقائق العلاقات الدولية، فذلك هو الطريق الوحيد للتفاعل مع الصراعات العالمية للاستفادة منها إذا أمكن، وتفادي شرورها في الحد الأدنى على الأقل.
إن التاريخ مملوء بالقوانين والعبر كما يقول ابن خلدون، وليس القصد من دراسته معرفة أخبار الغابرين وسلوى قصصهم، بل إن المقصود الأول هو استنتاج (العلل التي تحركه والقوانين الثابتة التي تحكمه).
في التاريخ آلاف القوانين الثابتة الراسخة التي لا يغيرها (الزمان ولا المكان ولا طبيعة البشر والإنسان)، وفيه إلى جانب ذلك (ظواهر شبيهة بالقوانين) ذات طابع متغير تتأثر بالزمان والمكان والإنسان، وهي ما يفسد الاستنتاج ويشوش الفكر، إذا وضعت موضع العلل والقوانين وجرى القياس عليها.
وفي العلاقات الدولية هناك عشرات القوانين الثابتة التي تحكمها، سأعرض منها أهم قانونين يتحكمان في العلاقات الدولية منذ أن ظهرت الدولة، وأغلب ظني أنهما سيظلان فاعلين إلى آخر الدهر.
أولاً: قانون الصراع
ما طبيعة الحياة؟ وما طبيعة العلاقة بين الدول؟ وما القانون التاريخي الذي يحكم هذه العلاقات؟
فيما يخص السؤال الأول عن طبيعة الحياة، وهو يقع في مضمار الفلسفة، يذهب معظم الفلاسفة والمفكرين إلى أن (الصراع) هو القانون التاريخي، فهو (العلة) التي تحرك التاريخ، وقد شاع بين الناس (أن التاريخ يعيد نفسه)، وذلك كلما وقع حدث تاريخي تطابق أو تشابه مع حدث تاريخي سبقه، ويقع التطابق أو التشابه بسبب اتحاد (العلة) بين الحدثين، وليس لأي سبب آخر.
الصراع هو أحد قوانين الحياة، ودون حاجة إلى الكثير من التحليل والتأمل، فمنذ أن يستيقظ الناس صباحًا إلى حين يهجعون ليلًا ينغمسون في الصراع مع غيرهم بحثًا عن لقمة العيش أو رغبة في التفوق والوصول إلى شيء ما قبل أن تصله أيدي غيرهم. ومثلما يجري الصراع بين الأفراد فإن ذلك هو ديدن الجماعات أيضًا، فكل جماعة تنخرط -ضرورة- في الصراع مع غيرها، فيجري الصراع بين العشائر والقبائل والأحزاب والنقابات والمنظمات والشركات، وكل جماعة أخرى لها أهداف متضاربة.
هناك اتفاق بين الفلاسفة والمفكرين على أن (الصراع محرك التاريخ)، ولكن الاختلاف ينشأ فيما بعد حول (علل وأسباب الصراع)، فعند (كارل ماركس) مثلًا، فإن علة الصراع تكمن في (الصراع حول الثروة) أي صراع الطبقات، وهو صراع لن يخف ولا ينتهي إلا بإيجاد النظام العادل لتقاسم الثروة، وقد زعم ماركس أنه وجد هذا النـظــام في الشيــوعية، وعـــند (هيجل) فإن قانون التاريخ هو (جدل الصراع بين الشيء ونقيضه)، والغاية هي البحث عن الشكل العقلاني للدولة، وقد زعم (هيجل) أنه وجده في الدولة ذات النظام الليبرالي، وقد نسج على هذا المنــوال دعاة الليـــبرالية جــميــعًا الذين رفــعوا شــعار “نهاية التاريخ”، ولا يــختلف الــحال عــند (الدينيين أو القوميين) الذين ذهبوا نحو الدين أو القومية باعتبارهما المحركين للتاريخ. وخلاصة الأمر فإن هناك ما يشبه الإجماع بين الفلاسفة والمفكرين عن أن الصراع هو المحرك للحياة الإنسانية، بل قد ذهب (إيمانويل كانت) في كتابه (نقد العقل المجرب) إلى ما هو أبعد من ذلك، فيصف ما وراء الطبيعة بأنه (ساحة حرب تنشب فيها معارك ليس لها أول ولا آخر) (3).
لا يقبل البعض فكرة الصراع باعتباره محركًا للتاريخ، بسبب التباسات تحيط بمفهومه وتثير في الذهن نظرة سلبية نحوه تظن أن الصراع يمثل الجانب الشرير في حياة الإنسانية، وتلك نظرة خاطئة تمامًا، فالصراع مفهوم واسع ينطوي على درجات متصاعدة من الشدة، فهو يبدأ في أزهى درجاته بــ(الدفع) كما يعبر عنه القرآن الكريم، ويرتفع نحو التدافع والتنافس والنزاع، وقد يصل إلى مراحل العنف الدموي والصدامات.. إلخ، فهذه جميعًا تقع ضمن مفهوم الصراع.
إن الصراع في أغلب مظاهره، ظاهرة طبيعية إيجابية من حيث الجوهر، ولا يظهر بوجه شرير إلا عند انحرافه، قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251)، وقوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، وقال تعالى (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (الأعراف: 24) صدق الله العظيم.
لقد جعل الله الصراع سنة جارية بين الخير والشر والحق والباطل والإيمان والضلال، وفي كل ميدان من ميادين الحياة يجري الصراع، صراع المبادئ والأفكار، الصراع على الثروة والاقتصاد، الصراع على الاختراع والعلم والتقدم، الصراع على الإبداع في مجالات الفن والأدب… إلخ، والصراع لكونه سنة جارية، هو السبب الرئيسي للتقدم الإنساني، ولولا التدافع والتنافس لظلت البشرية تراوح مكانها، تعيش في الغابات تأكل النيئ وتشرب من الغدران، فالتنافس هو الذي نقل البشرية من حال إلى حال، فهو سبب الحضارة والتقدم والعمران والتطور، فرغم بعض جوانبه السلبية أحيانًا، إلا أن الصراع يظل إكسير الحياة.
انحراف الصراع:
يظل الصراع في مستوياته الدنيا النافعة والمفيدة، عند توافر ضوابط منع انفلاته، وليس هناك، في الواقع، غير ضابطين لمنع الانفلات هما، الضابط الأخلاقي والقانوني أولًا، والضابط الواقعي ثانيًا وأخيرًا.
في المستويات الدنيا من التنظيم الاجتماعي والسياسي الأسرة، القبيلة، الدولة، يمكن للضوابط الأخلاقية والقانونية أن تلعب دورًا رئيسيًا في لجم الصراع والنزول به إلى مستوياته الدنيا، وأن تجعله نافعًا مفيدًا، فالصراع على مستوى العائلة والقبيلة والعشيرة تضبطه القيم الأخلاقية والأعراف والتقاليد المرعية، وتجعله صراعًا عائليًا محتشمًا يدور في فلك التدافع والتنافس والنزاع الناعم، ولا ينحدر نحو الخشونة والعنف إلا نادرًا، أما في مستوياته العليا، الدولة وما فوقها، فلا سبيل لضبط الصراع إلا بالضابط (الواقعي)، وهو قوة القانون والقدرة على (الردع)؛ وذلك نظرًا لضعف الروابط بين الجماعات، وشدة تناقض المصالح، وتنامي روح الأنانية، ففي هذه المستويات تختفي العواطف، ويتلاشى التسامح، ويتحول مسرح الحياة إلى ميدان للاشتباكات الخشنة، وإذا غابت سلطة القانون ومؤسسات الردع والعقاب، فإن الصراع يصل لذروته ليصنع العنف والحروب والصدامات، وذلك هو في أغلب الأحوال ما يجري على المستوى الدولي منذ أن عرفت الإنسانية فكرة الدول.
- طبيعة العلاقات الدولية
هل الصراع أم السلام أصل الأشياء؟
هناك مدرستان، تذهب الأولى إلى أن السلام هو الأصل، أما الصراع فهو حالة عارضة، وسنصف الأولى بمدرسة “نهاية التاريخ”، أما الثانية فهي “المدرسة الواقعية”.
- مدرسة نهاية التاريخ
تذهب مدرسة نهاية التاريخ إلى أن السلام والاستقرار هما سمة العالم، أما الصراع فهو الاستثناء، ويغلِّب دعاة هذه المدرسة الطابع الأيديولوجي، فمعظم المفكرين الذين ينتمون إليها يؤمنون بـ (دوغما) ما، وبصرف النظر عن منطلقاتهم وتبايناتهم فإن قاسمهم المشترك الاعتقاد بأن التاريخ ينتهي في نقطة ما سيصل إليها دون أزمات وصراع.
وتكمن الفكرة الرئيسية عند دعاة هذه المدرسة، في أن التاريخ العالمي للبشرية لم يكن إلا تقدم الإنسان نحو (العقلانية) الكاملة والبحث عن أفضل العقائد والمبادئ والمؤسسات، وفي لحظة الوصول إلى ذلك بإقامة (الدولة الحرة) فإن الصراع يتوقف.
ومن أشهر رواد هذه المدرسة (فريدريك هيجل) فقد أعلن عام 1806م أن التاريخ قد انتهى، ذلك أن مبادئ الحرية والمساواة التي تمثل الهدف العقلاني للدولة الحديثة، قد تم اكتشافها واكتملت في الدول الأكثر تقدمًا، وأنه لا توجد مبادئ بديلة للتنظيم الاجتماعي، ومن ثم وضعت نهاية للجدل التاريخي (4).
وعلى منوال (هيجل) نسج (كارل ماركس) وأتباعه، فتاريخ كل مجتمع، عندهم، لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات، ومن هذه الفكرة اندفع نحو تفسير التاريخ مستنتجًا أن الرأسمالية هي السبب في جميع الصراعات، وسوف تصل البشرية إلى نهاية التاريخ عند الوصول للشكل العقلاني للدولة الشيوعية بعد انتصار الطبقة العاملة (5)، ومن الذين آمنوا بفكرة نهاية التاريخ (جيرمي بنتام)، فقد اعتقد أن الصراعات الأوروبية كانت بسبب التنافس الاستعماري، وقد رأى أن تحرير أوروبا لمستعمراتها سيؤدي إلى زوال الصراعات.
- الطبعة الحديثة لمدرسة نهاية التاريخ
يعد كل من (زبيغينيو بريجينسكي) و(فرنسيس فوكوياما)، من أبرز دعاة مدرسة التاريخ، فقد أوقعتهما الانتصارات الرأسمالية على الشيوعية في وهم نهاية التاريخ.
لقد بدأ (بريجينسكي) مبكرًا في الوقوع في هذا الوهم قبل سقوط الشيوعية معتمدًا على التحليل الفكري، وفي كل كتاباته (الكتلة السوفيتية وحدة صراع، بين عصرين، والإخفاق الكبير) كان يستنتج ويُلح على حتمية الانتصار الرأسمالي، فالليبرالية بما فيها من حرية الاختيار السياسية الحقيقية وآلياتها المتنوعة في تلبية الحاجات الإنسانية وحمايتها لحقوق الإنسان هي التي ستنتصر وستهيمن على القرن الحادي والعشرين (6).
لقد تنبأ (بريجينسكي) في كتابه الأخير (الإخفاق الكبير) بالانهيار الوشيك للاتحاد السوفيتي، وأن هذا الانهيار سيقود في نظره إلى مرحلة (نهاية التاريخ) على الصعيد الفكري.
في مقدمته لكتاب (بريجينسكي) يقول د. سهيل زكار “لقد عاش الرجل غبطة زمانه فأسكرته، متصورًا أن نهاية شكل من أشكال النضال يمثل نهاية للتاريخ، وهو ليس كذلك، فنهاية شكل معين من نضال الإنسان المضطهد سيخلق شكلًا جديدًا من أشكال النضال”.
إن انتهاء مرحلة من الصراع لا يعني، أبدًا، نهاية التاريخ، فالصراع لا يدور بين الاشتراكية والرأسمالية، ولا بين إمبراطورية وأخرى، بل يدور أولًا وأخيرًا بين الإنسان المضطهد وأعدائه، ولا يمكن أن نربط النظريات بزمن محدد من التاريخ، ويظل النضال نضالًا طليقًا، يتجدد ويجدد ذاته، ويصوغ نظريات وممارسات جديدة (7).
إن أساس الخطأ في نظرية (بريجينسكي) وكل مدرسة نهاية التاريخ، هو تفسير التاريخ على أساس (أحادي)، وبالنظر لحقبة زمنية محدودة أو تاريخ شعب محدد، ففي مثل هذه الأحوال، قد يخضع التاريخ لعامل فعّال، يخفي غيره من العوامل ويطغى عليها، حتى يظهر للناظر، غير المتبصر، أن هذا العامل قادر على عمومية التفسير، وذلك خطأ فادح، ومن العبث حشر حراك الإنسانية المتنوعة والخلاقة ضمن قاعدة واحدة أو في قالب جامد.
- فرنسيس فوكوياما – تجديد نهاية التاريخ
مثلما أحدثت نشوة النصر فجوة هائلة في تفكير بريجينسكي، فقد أصابت النشوة فوكوياما وأصابته بخدر شديد، فأخرج من جرابه مجددًا نظرية نهاية التاريخ.
في مقالاته الكثيرة التي اختتمها بكتابه الذي اختار له عنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” وهو عنوان ينطوي على (قطعية) يصعب قبولها من مفكر مرموق لا يزال في مقتبل الحياة الفكرية، وذهب فيه إلى استنتاجات (صارمة) تقريبًا، فقد استنتج أننا، على الأغلب، لا نشهد نهاية الحرب الباردة أو أي مرحلة من مراحل ما بعد الحرب، بل نهاية التاريخ، أي أننا نصل للنقطة الأخيرة في التطور الأيديولوجي للبشرية، فلن يكون هناك أي تقدم أو تطور بعد اليوم فيما يتعلق بــ (المبادئ والعقائد والمؤسسات) (8).
في كتابه “نهاية التاريخ” يطرح سؤاله الرئيسي، هل يقود التطور التاريخي المطرد، الغالبية العظمى من البشر نحو النظام الرأسمالي الليبرالي؟
وإجابته (نعم) بصورة قطعية، فالتاريخ -في نظره- يصل للذروة في (اللحظة المطلقة) أي اللحظة التي ينتصر فيها الشكل (العقلاني) النهائي للمجتمع والدولة، وهو شكل (الديموقراطية الليبرالية)، وفي نظر (فوكوياما)، فإن الديموقراطية الليبرالية، قد انتصرت نهائيًا في القرن العشرين، فقد استطاعت الانتصار على تحديين كبيرين في زمن متقارب، الفاشية والنازية في النصف الأول من القرن العشرين، والشيوعية في نصفه الثاني، بما في هذه الأخيرة من أيديولوجيا أكثر تماسكًا.
لا يسمح مجال هذه المحاضرة، بتقديم شروح طويلة عن أفكار (فوكوياما) وتحليلها والتعليق عليها، فهو مفكر مرموق من طينة عالية، فرغم إيمانه الكلي بنظريته، لكنه يتحسب لاعتراضات كثيرة كرَّس بعض فصوله للرد عليها، فهو يعترف بنظرته الجزئية للتاريخ وقصر شعاره على ساحة واحدة من ساحات الصراع الدولي، ساحة الدول الكبرى والأكثر تطورًا، التي هي في نهاية المطاف، تحدد المجرى الرئيسي للسياسة العالمية، أما خارج ذلك، وفي دول العالم الثالث بالتحديد، فإن هذه العوالم ستبقى حلبة للصراع لسنين طويلة، وينقسم العالم عنده إلى عالمين، (عالم تاريخي وعالم تاريخي جديد)، فالنزاعات بين الدول التي لا تزال خارج حضن التاريخ والتي تقع في نهاية التاريخ، ممكنة الحدوث، لكن الصراعات الرئيسية الكبيرة، التي تستدعي مشاركة دول كبرى قد توقفت في التاريخ، ثم إن الديموقراطية الغربية نفسها قد تطورت وغدت أكثر مرونة مما كانت عليه في أوروبا الغربية، فهذه الديموقراطية الليبرالية التي انغمست في صراعات القرون الماضية دارت في مجتمعات أقل ليبرالية مما نحن فيه اليوم، إذ كانت مؤمنة بالهيمنة الإمبريالية والصراعات القومية، وقد شفيت الليبرالية الحديثة من هذه العلل تمامًا.
ومع كل براعة (فوكوياما) وغيره في الدفاع عن نظريات نهاية التاريخ، فإنها تظل نظرية معيبة وقاصرة، ويعود السبب بالدرجة الأولى، لتفسيرها الأحادي للتاريخ، فانتصار أيديولوجية على أخرى لا يمكن أن يشير لنهاية الصراع، فقد انتصرت في الماضي، أديان وعقائد ومذاهب وإمبراطوريات ودول كثيرة، غير أن الصراع لم يتوقف، فالصراع متجدد في كل زمان ومكان، لأنه قانون من قوانين التاريخ الكلي.
وفي عام 2008م جاءنا إلى ليبيا زائرًا (فرنسيس فوكوياما) للقاء قيادة الدولة والتعرف على أفكارها، وألقى سلسلة محاضرات في مراكز البحث ومنابر الثقافة، وقد حضرت معظمها وشاركت في مناقشاتها، ولا أدري لماذا كلّفت بمناقشته على انفراد في تفاصيل ما يحمل وما لدينا من أفكار نحن في العالم الثالث، وفي جلستين مسائيتين طويلتين، لم يكن بيني وبينه غير مترجم، دارت نقاشات طويلة عن الفكر والسياسة والثقافة والمستقبل، صممت على القول إن نظرية نهاية التاريخ نظرية قاصرة، وإذا ما افترضنا صحتها من الناحية النظرية، فقد كان يجب أن يدَّعيها فلاسفة اليونان الذين وصلوا إلى ذروة الإبداع الفلسفي، ووصل نظامهم إلى ذروة التطبيق الديموقراطي، أما الديموقراطية الليبرالية التي نراها اليوم، فهي بعيدة جدًا بأطروحاتها وممارساتها عما يسميه اللحظة المطلقة، وهي لا تمثل أي مطلق على صعيد المبادئ والعقائد والمؤسسات. ومن المرجح عندي أن تقود العالم إلى المزيد من الصراعات، وقد تبدأ تاريخًا جديدًا، لكنها لن تضع نهاية للتاريخ، فهي أقل تكاملًا وأقل مرونة، وعلى المفكرين استئناف رحلة البحث عن أفضل المبادئ والعقائد والمؤسسات.
في الأعوام التالية، عاد (فوكوياما)، لصياغة بعض أفكاره، ومنها في مؤلفه (أمريكا على مفترق الطرق) وهذا الكتاب على صغر حجمه، انطوى على أفكار متعارضة تمامًا مع نظرية نهاية التاريخ، فقد دعا إلى إعادة (الهندسة الاجتماعية) للمجتمع والدولة في ضوء مشكلات العصر وتطور الحياة، وهو اعتراف صريح بأن الديموقراطية الليبرالية لم تصل بالإنسانية إلى نهاية الشوط، وفي الكتاب نوع من التبرؤ من ضلالات المحافظين الجدد الذين اقترب منهم أو انتمى إليهم وقادوا بلاده نحو الصراعات والحروب وفتحوا بسياساتهم الشريرة أبواب الاستعمار من جديد.
ولا أدري موقفه اليوم، وهو يرى الديموقراطية الليبرالية تزداد تأزمًا في أمريكا معقلها الرئيسي، وتتراجع أمام نماذج أخرى أظهرت تفوقها عمليًا في مناخ من الاستقرار والسلام، ولا أدري كيف سيصف سياسة بلاده الحمقاء التي دفعت بالعالم نحو حافة الهاوية في حرب أوكرانيا واستفزاز الصين واحتمالات جر العالم بأسره نحو حروب مدمرة قد تعيد الإنسانية للعصر الحجري على جناح العلم الوضاء.
وخلاصة الأمر، فإنه من الواضح أن مدرسة نهاية التاريخ، مدرسة قاصرة لم تستطع أن تقدم تفسيرًا لمسألة الصراع، لأنها، ببساطة، نظرت للتاريخ بعين واحدة.
إن مدرسة نهاية التاريخ، هي التي روجت فكرة (التعاون) كبديل للصراع. فبعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي بدأ الترويج في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب لفكرة أن المجتمع الدولي سيتجه من الآن فصاعدًا، لبناء نظام دولي قائم على التعاون، وفي ظله ستزدهر المنظمات الدولية المسؤولة عن تنظيم هذا التعاون، وسيشهد القانون الدولي تطورًا نوعيًا يهيل التراب على جثث الصراع المرير، وستظهر منظمات جديدة معنية بالتعاون.
وفي هذه الخدعة، وقع الكثير من رجال الفكر والسياسة، بما في ذلك أساتذة وكتاب في الوطن العربي، وبكثير من حسن النية، استسلموا لهذه الخدعة وبنوا افتراضاتهم على أن القانون الدولي والمنظمات الدولية، هي في الأصل، أدوات تعاون، تكمن فلسفتها منذ ظهورها في تحقيق التعاون، غير أن ظروف الصراعات والحروب عرقلت هذا الهدف، أما وقد زالت المجابهات الأيديولوجية، فإن فلسفة القانون الدولي والمنظمات الدولية ستشق طريقها نحو بناء نظام عالمي جديد يقوم على التعاون.
وتلك -لعمري- نظرية شديدة التبسيط والسذاجة، فالقانون، سواء أكان داخليًا أم دوليًا، نشأ في الأصل لتنظيم الصراع بين الأفراد والجماعات والدول، وتكمن فلسفته الأساسية في هذه الناحية، ومع أن القانون والمنظمات الوطنية أو العالمية قد يساعد على بناء بعض التعاون، لكن ذلك يظل مسألة عرضية لا تمس بجوهر القانون باعتباره أداة لتنظيم الصراع والنزول به إلى الحد الأدنى الممكن طلبًا للاستقرار.
لقد وقع في هذا الوهم أيضًا رجال السياسة، لعل من أبرزهم (ميخائيل غورباتشوف) ففي كتابه “البروسترويكا” يذكر أن السجل السياسي للبشرية هو بدرجة كبيرة سجل للحروب، ولكن رغم ذلك فقد ذهب إلى أن العلاقات الدولية يمكن أن تقوم على (توازن المصالح)، ولا يُلجأ للحرب إلا عند الفشل في تحديد المصالح، ومن المحتمل أن هذه النظرة كانت من بين أسباب سقوط نظامه (9).
- المدرسة الواقعية
إن التيار الثاني، وهو الذي ننتمي إليه، يذهب إلى أن (الصراع هو القانون التاريخي) في حياة الجماعات، تحركه أسباب متعددة ومتنوعة، وتجدده على الدوام، وتسجل وقائعه بدقة في صفحات التاريخ الذي لا ينتهي أبدًا.
إن أغلب الفلاسفة والمفكرين والساسة الأكثر عمقًا وتأثيرًا، كانوا من أنصار نظرية أن الصراع هو أصل الأشياء، أما الاستقرار والسلام فهما الاستثناء وليس القاعدة.
وبصرف النظر عن الفلاسفة الأقدمين، نقدم عناصر من عصر النهضة، ومن المحتمل أن (نيقولا مكيافيللي) وضع القاعدة بوضوح تام، ففي كتابه “تاريخ تيتوس ليفي” المعروف بالمطارحات، يذهب إلى أن “الحرب ظاهرة طبيعية، وتذهب الشعوب للحروب، إما طلبًا للتفوق أو في سبيل البقاء، وسواء أكانت الحرب طلبًا للتفوق أم في سبيل البقاء، فإن الشعوب تتصارع على الدوام” (10).
وكما ذهب مكيافيللي تبعه الجنرال (كارل فون كلاوزفتز)، فالحرب عنده ليست استمرارًا للسياسة بوسائل أخرى، بل إن السياسة هي الرحم التي تنمو فيها الحرب، والدول عنده في نزاع دائم يتخذ أشكالًا مختلفة، كلها صور للصراع ترتفع إلى أعلى مستوياتها (بفن الحرب) (11).
إن الصراع قانون تاريخي، لا يحكم الإنسان وحسب، بل المخلوقات جميعًا، فالمخلوقات وجدت في الطبيعة تكافح وتصارع بعضها البعض، وفي كثير من الأحيان تكون حياتها مرهونة بدمار الآخر، وإذا كانت المخلوقات الأخرى تندفع للصراع بغريزتها، فإن الإنسان يندفع للصراع بوعيه، مما دفع مؤرخ العصر (أرنولد توينبي) إلى وصف البشرية وحدها بأنها شر، فالكائنات البشرية فريدة في مقدرتها على الشر، لأنها الوحيدة التي تملك الوعي بما تفعل ولما تختار بقصد (12).
- هانز. جي. مورجنتاو – تحليل قانون الصراع
(مورجنتاو)، يمكن أن يعد رائدًا ومؤسسًا للمدرسة الواقعية الحديثة، ذات الأثر الكبير في السياسة الدولية في مرحلة الحرب الباردة، وهو من أفضل الذين قدموا تحليلًا للصراع وشرح قواعد نظرية (توازن القوى) الناجمة عن الصراع، ويمكن القول إن أفكاره عن الصراع وتوازن القوى هي التي شكلت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من نصف قرن، وإذا كان ثمة نجاح لهذه السياسة، فيعود للنهج الواقعي الذي وضعه الأتباع الإستراتيجيون الذين صنعهم، وفي مقدمتهم وزير خارجية العصر (هنري كيسنجر) أكثر الطلاب نجابة في جامعة هارفارد التي خمّر فيها (مورجنتاو) أفكار الواقعية.
في كتابه الضخم (السياسة بين الأمم)، وهو من كلاسيكيات الكتب المصادر، تناول بعمق ورصانة عشرات المسائل السياسية الأكثر أهمية المتعلقة بالنظريات السياسية والتاريخ والسلطة، ومن بين هذه القضايا مسألة الصراع.
إن قصة الفكر السياسي كله عند (مورجنتاو) ما هي إلا قصة صراع بين مدرستين تختلفان اختلافًا جوهريًا في مفاهيمهما عن طبيعة الإنـــسان والمـــجتمع والـــدولة، تـــذهب الأولــى، وهي (المثالية) إلى افتراض وجود طيبة فطرية ومرونة لا حدود لها في الطبيعة الإنسانية، مما كان يجب أن يقود للاستقرار والسلام، تجاوبًا مع خصائص الإنسان الأصلية، لكن الافتقار للعلم والمعرفة والإحساس بالحرمان من بعض الأفراد والجماعات والنظم الاجتماعية الممسوخة يؤدي إلى فشل النسق الاجتماعي في الدولة والمجتمع الدولي، أما طريق العلاج عند المثاليين، فهو الإصلاح والتعليم أولًا، والاستخدام العرضي للقوة ثانيًا لإعادة الأمور إلى الحالة الطبيعية، فلا تؤمن المدرسة المثالية بقانون الصراع إلا كحالة استثنائية.
أما المدرسة الواقعية، فترى أن العالم يفتقر للكمال من وجهة النظر العقلانية، وأن السياسة شأنها شأن المسائل الأخرى الخاضعة لعدد من القوانين الموضوعية التي تمتد جذورها في الطبيعة الإنسانية، ومن الضروري لتحسين المجتمع تفهم هذه القوانين التي لم تتبدل من أيام فلاسفة الصين والإغريق، وفي مقدمة هذه القوانين، قانون المصلحة، فالمصالح المادية والمعنوية، لا الأفكار أو المبادئ الخلقية، هي ما يوجه حياة الناس، وسواء أتعلق الأمر بالفرد أم الدولة، فإن التصرف يكون استجابة للمصلحة، وإذا كان من الممكن للفرد أن يضحي من أجل مبادئه الخلقية، فإن ذلك ليس من حق الدولة. وتأسيسًا على الطبيعة الإنسانية واعتبارات المصالح، يستنتج (مورجنتاو) أن قانون الصراع هو أهم قانون في السياسة الدولية، فالصراع من أجل القوة بين الدول، ظاهرة شاملة زمانًا ومكانًا، وأن التجربة أقامت الدليل على صحة وجود هذه الحقيقة، وليس ثمة من يستطيع أن ينكر أن جميع الدول، على اختلاف أوضاعها ومقدار قوتها، قد التقت في جميع الأمكنة والأزمنة على الصراع من أجل القوة، وبالرغم من أن بعض علماء الأجناس البشرية، قد أظهروا أن بعض الشعوب البدائية تبدو متحررة من الرغبة في السلطان، فإنهم لم يبرهنوا على ذلك (13).
يؤمن (مورجنتاو) بأن الصراع هو صفة الأمم النشيطة في السياسة الدولية، أما غير ذلك من الدول التي تعيش على هامش الحياة الدولية، فمن الطبيعي ألا تخوض الصراعات، ويرتب أحوالها القدر الذي يصيغه الآخرون، وقد أظهرت السجلات التاريخية أن الأمم ذات النشاط تستعد باستمرار للخوض في العنف المنظم الذي يتخذ صورة الحرب.
إن (مورجنتاو) لا يخدع أحدًا ولا يدعوه للتحرر من الرغبة في السلطان، فليس من المجدي عنده، بل قد يكون من المضر والمؤذي محاولة تحرير شعب من هذه الرغبة، فإذا لم يكن بالإمكان إزالة هذه الرغبة في كل مكان في العالم، فإن أولئك الذين يتخلصون من الرغبة في السلطان، سيصبحون ضحايا للآخرين (14).
إن المجتمع الدولي، في نظر (مورجنتاو)، لا يختلف عن مجتمع (هوبز)، حرب الجميع ضد الجميع دون ضوابط أخلاقية أو قانونية تذكر، ولهذا السبب فإن واجب علماء السياسة البحث عن طريق يوقف الشر عند حده الأدنى.
إن المجتمع الدولي لا يزال وسيظل فوضويًّا، وذلك هو مناخ الصراعات والحروب، وإذا أضيف إلى ذلك أن المجتمع الدولي لا يجمعه مفهوم سياسي مشترك يحكم انتماء أعضائه، وينتمي إلى خلفيات ثقافية متباينة ومتعارضة، فإن الصراع هو سمته المستمرة.
أما ما الحل للحد من الصراع وليس وقفه، فليس ثمة كوابح قانونية أو أخلاقية أو سياسية تُذكر قادرة على لجم الصراع غير (الكابح الواقعي) وهو بناء توازن قوى فعال يقوم على وجود قوى قادرة على الردع، وبهذه الوسيلة يتحقق الاستقرار النسبي زمانًا ومكانًا، وهو ما جعله أكثر اهتمامًا بتوازن القوى.
- هنري كيسنجر والصراع الدولي
لقد سار على طريق (مورجنتاو)، مفكرون وساسة كبار، كان في طليعتهم (هنري كيسنجر)ابن هارفارد ووزير خارجية العصر، كما أطلق عليه رئيسه ريتشارد نيكسون.
ويعتبر (كــيسنجر)، حالة قليلة في عـــصرنا، ففيه الــمزيج بين المفكر ورجل الدولة، وإذا كانت مؤلفاته الأولى، ذات خصائص أكاديمية تقوم عــلى البحث والتأمل، فإن كتاباته الأخيرة، تعد ثمرة ناضجة ومكتملة، وفــي كـل ما كـــتب، فإنه دعــا إلى أن تقوم الســياسة الــخارجية على الأسـس (الواقــعية) والتحــليل الســليم للمجتمع الــدولي، وألا تــكون نابعة من الحماس وحده (15).
ولقد اختار (كيسنجر) في طوره الأكاديمي تدريس مادة (الصراع الدولي)، لأن جوهر العلاقات الدولية هو (الصراع من أجل القوة) التي تصنع الأحداث التاريخية المهمة، وقد كان كثيرًا ما يرفع قبضته ويقول إن التغييرات التاريخية العظيمة صنعت بواسطتها، فالصراع بنظره كامن في الطبيعة الإنسانية، ولا يجب البحث عن كوابح له خارج أطره الطبيعية، ولم يجد أي كابح له إلا توازن القوى، فإذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو عدم وجود سلام دون توازن (16).
والواقع أن معظم كتاباته كانت تدور حول (كيفية إدارة الصراعات الدولية)، لا على كيفية منعها، أما العلاقات الدولية فإنها ناشئة عن الاختلافات الطبيعية بين الدول متعارضة الأهداف والمصالح والقيم، وليس هناك من طريق لحل هذه الخلافات سوى طريقين، إما الاتفاق المبني على التفاوض، أو عن طريق استخدام القوة، وكلاهما يمثل نقطة ما على خط الصراع.
ولأن الصراع هو سمة الحياة الإنسانية، فإن البحث عن السلام الدائم والشامل الذي يقوم على (رضا) كل الأطراف مسألة مستحيلة، لكن ما يمكن تحقيقه هو (الاستقرار العالمي) الذي يتحقق (بالرضا الناقص) للأطراف.
لم يكن (كيسنجر) مؤمنًا بإمكانية السلام الذي يراه فكرة طوباوية، وأقصى ما اعتقد فيه هو تحقيق الاستقرار الذي يقوم على (شرعية مقبولة) وليست شرعية مطلقة تقوم على العدالة، والشرعية لا تعني أكثر من اتفاق، بصرف النظر عن عدالته، يحد من التناقضات والتصادمات.
لقد كان (كيـسنجر) واعيًا لأسباب الصراعات، ولم تُعـمِه الصراعات النابـعة من (الأيديولوجيا)، فالصراع الأيديولوجي الذي طبع عصرنا لا يجب أن يقود إلى اعتبار الأيديولوجية سبب الصراع، إنها فقط جعلت الحدود الفاصلة بين الأصدقاء والأعداء أكثر وضوحًا، أما السلام الواقعي فليس سوى تجميد للصراعات (17).
ومن المحتمل، أن واقعية (كيسنجر) وبحثه عن الاستقرار وليس السلام هما ما أسهما في نجاحه العملي، وذلك ناشئ عن فهمه العميق للتاريخ وقوانينه، والسياسة الخارجية الناجحة يجب أن تتسم بالواقعية وترتكز على المصالح وليس على الالتزامات النظرية البحتة أو الشعارات الحماسية التي نرددها وننجرف وراءها.
منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، كتب (كيسنجر) معتقداته في رسالة ماجستير، اختار لها عنوان (عالم يعاد بناؤه) (18) خصصها لدراسة تجربة الأمير النمساوي (ميترنيخ) وعبقريته في بناء توازن القـرن التـاسع عشر 1815– 1914م، وهـو التـوازن الــذي أعطـى أوروبـا (سلام المائة عام)، وأصبح معروفًا بالقرن الدبلوماسي، وقد اعتقد (كيسنجر) أن هذه التجربة يمكن إعادتها بعد فجائع الحرب العالمية الثانية ببناء توازن متعدد الأطراف، على غرار ما سبق، بشرط وجود قيادات عالية المستوى من طراز (ميترنيخ) و(كاستلري).
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أواخر القرن الماضي، وظهور مجموعات المحافظين الجدد التي تقودها عصابات يهودية صهيونية حاقدة تدعو للهيمنة ولو بالقوة والتدخل لإعادة بناء العالم وفق رؤية أمريكية لا تقبل المشاركة، كتب (كيسنجر) كتابه (هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية؟) تصدى فيه لأفكار الهيمنة لأنها فكرة مجنونة وغير ممكنة لوقت طويل، ودعا مجددًا إلى بناء توازن متعدد الأقطاب تشكل فيه الولايات المتحدة الأمريكية القيادة الرئيسية، وتشاركها قوى أخرى مثل مجلس إدارة شركة ناجحة، فلا استقرار دون توازن، وهو ما عرّضه إلى حملة شنيعة من المحافظين الجدد الذين اتهموه بالعقم والتخلف، فالواقعية في نظرهم، نظرية جبانة مترددة، ولم تعد تلائم حالة أمريكا المهيمنة، ليدفعوا بالولايات المتحدة الأمريكية نحو سلسلة الحروب والصراعات والتمدد الإمبراطوري الذي استنزفها بصورة واضحة، ويفتح المجال أمام الآخرين للصعود والتفوق.
وخلاصة الأمر، فإن العلاقات الدولية هي (علاقات قوة)، فتوجد الدول وكل واحدة منها تريد أن تستمر في البقاء، وهي لا تستطيع الاعتماد إلا على القوة بتجنب غزو جيرانها، وعليه فإن الصراع، صراع كل دولة لتكون أقوى بنفسها وبحلفائها، من أي عدو أو مجموعة أعداء هو لب الموضوع، وهو شرط بقاء الدولة والسياسة المنتظرة منها، وتلك هي السياسة التي اتبعتها الدول في الماضي ولا تزال.
ثانياً: الصراع وتوازن القوى
توازن القوى نتيجة (حتمية) من نتائج الصراع، فيؤدي الصراع، وحده دون غيره، إلى ظهور أنظمة التوازن على كافة المستويات، فأينما وجدت جماعة انغمست -ضرورة- في الصراع وظهر بينها شكل من أشكال التوازن.
إن هذا القانون طبيعي أيضًا، وهو من قوانين التاريخ الثابتة. ولا يتعلق (قانون التوازن) بالإنسان وحده، بل بالمخلوقات جميعًا… قال تعالى “وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ“، “وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ“، “وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا“، “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ“. صدق الله العظيم.
لقد خلق الله الكون وفق قانون التوازن، ويعني التوازن في مفهومه، (الحالة المستقرة)، ويتحدث الناس بصورة عفوية عن التوازن باعتباره رمزًا للحالة المعتادة المستقرة، فنَصِف الرجل الحكيم بأنه شخصية متزنة، واستعاد فلانًا توازنه… وتستخدم العلوم كافة مصطلح التوازن كرمز للحالة المعتادة المستقرة، مثل التوازن النفسي، التوازن الاجتماعي، التوازن الاقتصادي، توازن التــنمية، التوازن بين العــرض والطلب، التــوازن التجاري، تـوازن الســلطات… إلخ.
فالتوازن هو الحالة الطبيعية المستقرة، وفي النظام الدولي يستخدم مصطلح (توازن القوى الدولية) في الغالب لوصف المجتمع الدولي المتسم بالاستقرار النسبي على الأقل.
وتوازن القوى، فضلًا عن أنه نظام، فهو (نظرية علمية دقيقة وثابتة) ذات قواعد شديدة الوضوح، تبنى عليها سياسات الدول وتصرفاتها، وفي ضوئها تتخذ الدول الراشدة قراراتها.
أما المؤسف، فإننا في الوطن العربي، لم ندرس، على الصعيد الفكري، نظرية توازن القوى بطريقة كافية، أما على المستوى السياسي، فأغلب الظن، أن معظم ساستنا لا يعرفون عنها الكثير، ومن هنا ولدت معظم أخطائهم.
أما على الصعيد الفكري، فقد قرأت ما كتب عنها في الوطن العربي، ومعظمه كتابات مدرسية لأساتذة جامعات بغرض تعليم طلاب المستوى الجامعي، تكتفي بتقديم تعريفات أو أمثلة دون غوص أو تحليل معمق لهذه النظرية العلمية الثابتة، وهو ما دفعني إلى بحثها بصورة شمولية في كتابي (الحروب وتوازن القوى) وهو منشور منذ ربع قرن (19).
في كتابي (الحروب وتوازن القوى) وهو يقع في نحو 350 صفحة، قدمت عرضًا شاملًا لنظرية توازن القوى كما يتناولها الفكر الغربي المعمق بالتفصيل وكما يتناولها الفكر العسكري الإستراتيجي من (ليدل هارت) إلى (بيير غالوا) و(أندريه بوفر) وغيرهم، وقد وضعنا كل القواعد والاستنتاجات الممكنة لهذه النظرية شديدة الأهمية وتأثيرها في الحروب والسلام، وتتبع ما نجم عنها منذ حروب الثلاثين عام 1618 – 1648م إلى الحرب الباردة في القرن العشرين، وأحسب أن الكتاب ما زال وحيدًا في مضماره في بحث نظرية توازن القوى بصورة شاملة (20).
إن المقام لا يتسع لعرض هذه النظرية إلا بشكل موجز قد يساعد على فهم توازن القوى القادم.
- تعريف توازن القوى
توازن القوى وضع دولي ينشأ عن الصراع بين الدول، فمن خلال التنافس والصراع تتفوق مجموعة من الدول على غيرها، فينشأ بين الدول المتفوقة حالة من التكافؤ النسبي، فيمنع بعضها البعض من الهيمنة، مما يخلق أحيانًا فترة من الاستقرار في العلاقات الدولية، فتُجبر الدول جميعًا على التصرف وفق (شرعية) يصنعها التوازن نفسه.
وإلى جانب توازن القوى الرئيسي تنشأ توازنات إقليمية فرعية بسبب تنافس القوى الإقليمية في مختلف مناطق العالم، وهي توازنات شديدة الأهمية أيضًا لقدرتها على التأثير والتأثر بالتوازن الرئيسي، وتقوم التوازنات الإقليمية عادة بين قوى متوسطة وصاعدة تلعب دورًا كبيرًا في السياسة الدولية.
وفي الفكر الغربي هناك تعريفات كثيرة لتوازن القوى، وهي رغم التباينات بينها تُجمع على أن توازن القوى وضع دولي ينشأ عن الصراع، وهو ديناميكي متحرك يتحول من حال إلى حال، لأن الدول تسعى للتفوق وليس للتوازن الذي تصل إليه، وأنه حيوي بسبب ما يصاحبه من تحالفات ومتغيرات، وهو بسبب ذلك يتخذ عادة أحد شكلين (ثنائي أو متعدد الأقطاب)، وأن بعضه يقود للاستقرار، والبعض الآخر يقود للصدامات والحروب، ويتصف بالمرونة حين ينشأ بين أنظمة متجانسة، ويتصف بالجمود حين ينشأ بين أنظمة متعارضة أيديولوجيًا أو ثقافيًا أو دينيًا… إلخ، وهو ينتهي عادة بالحروب التي تُخرج أطرافًا ويدخل غيرها في التوازن الجديد.
إن أفضل من فصَّل نظرية توازن القوى على الصعيد الفكري هو (مورجنتاو) كأساس للمدرسة الواقعية، وتذهب خلاصة أفكاره إلى أن التوازن ظاهرة طبيعية في حياة الدول، فالسياسة الدولية ليست سوى صراع من أجل القوة، وتوازن القوى هو نتيجة حتمية لهذا الصراع فيقول: “يؤدي التطلع إلى السلطان من جانب دول عديدة تسعى كل واحدة منها إلى الحفاظ على وضع قائم، إذا كان في صالحها أو إلى الإطاحة به إذا كان غير ذلك، ويؤدي ذلك بحكم الضرورة إلى صورة أو تشكيلة تسمى توازن القوى، وإلى سياسات تهدف إلى الحفاظ عليه” (21).
ورغم تفضيله لنظرية توازن القوى، إلا أنه يعترف بصعوبة تعريفه بسبب الديناميكية التي تصاحبه وتحوله من حال إلى حال، وصعوبة حسابات التكافؤ بين أطرافه. ويخلص إلى أن التوازن بشكل عام هو نظام يهدف إلى الحيلولة دون أن يحقق أي عنصر من عناصر النظام التفوق على العناصر الأخرى، يحفظ الاستقرار دون تحطيم ظاهرة التعدد في العناصر التي تؤلفه، فهدف التوازن هو الاستقرار مضافًا إليه المحافظة على العناصر المؤلفة للنظام (22). فالتوازن في نظره هو الوضع الذي ينعدم فيه الإغراء باللجوء للعمل العسكري نتيجة لوجود أقطاب متكافئة قادرة على (ردع) بعضها بعضًا بصورة متبادلة، فحالة الردع المتبادل هي التي تخلق التوازن ثم الاستقرار.
ولقد اتبع “هنري كيسنجر” الطريق نفسه في فهمه للتوازن، وكان شعاره (لا استقرار دون توازن)، وهو ما دفعه إلى القول بضرورة (صناعة التوازن)، إذا لم يظهر بطريقة طبيعية ناجمة عن الصراع (23).
وفي ضوء دراستي الشاملة لنظرية توازن القوى، فإنني أنظر إليه على أنه نتيجة حتمية لظاهرة الصراع الدولي، هو غريزة من غرائز الدول، فما من دولة نشأت إلا وغايتها زيادة قوتها ونفوذها إلى أقصى حد، ومن الوهم الاعتقاد بوجود دول عاقلة إلى الحد الذي يجعلها قانعة بما لديها من قوة، فهي إن فعلت ذلك سرعان ما تقع ضحية لسلطان الدول الأخرى، وبما أن الصراع ظاهرة طبيعية فمن البديهي أن تصل مجموعة من الدول إلى غاياتها نسبيًا لتبلغ درجة من القوة المتقاربة، فيتشكل من بينها توازن القوى الذي يصنع النظام الدولي.
إن هذا التوازن لا يتصف بالجمود، فهو حركي بطبيعته، فالأطراف التي تشكله لا يتوقف صراعها، وستسعى للتفوق، غير أن تكافؤها النسبي في القوة يفرض عليها التصرف وفق مسلك معين، فكل دولة ستحاول زيادة قوتها وإضعاف الآخرين، ولكن بطريقة غير محسوسة لا تثير حفيظة الآخرين، وفي ضوء ذلك نُعرِّف توازن القوى بأنه (حالة من التوزيع المتعادل أو شبه المتعادل للقوة والتأثير بين القوى الدولية الأساسية، توزيعًا يخلق نظامًا دوليًّا يجعل هذه القوى المؤثرة تتصرف وفق قواعد محددة بما يحفظ الاستقرار الدولي ويحافظ على وجود الأطراف الأساسية في زمن التوازن).
وبناءً على ذلك، فإن كل توازن يجب أن ينطوي على الخصائص الآتية:
- وجود عدد من الأقطاب الأساسية.
- توزيع متعادل أو شبه متعادل للقوة والتأثير.
- القدرة المتبادلة على الردع.
- قواعد تصرف سلمي يفرضها التعادل في القوة.
- الحفاظ على الأطراف الدولية الأساسية في زمن التوازن.
- ظهور حالة من الاستقرار النسبي.
إن التوازن يقود بطبيعته إلى شرعية ما، تفرض قواعد محددة للسلوك، فالقوى المتعادلة تمارس الردع بشكل تبادلي مع غيرها من الأطراف، فكل طرف لا يستطيع إحراز نصر حاسم ولا يرتضي بالاستسلام، ليتعايش مع أضداده وفق قواعد محددة وشرعية مقبولة من الجميع.
إن ذلك هو ما يقود للاستقرار، مع استمرار الصراع بقصد التفوق للإخلال بتوازن القوى ودون السماح لأي لاعب جديد من الدخول إلى حلبة الصراع، وذلك هو ما يسمح لجميع عناصر التوازن بالبقاء طيلة زمن التوازن، وينتهي الأمر ببعض الأطراف إلى التفوق، وأخرى بالإرهاق، فيسقط التوازن ويرتسم آخر.
أشكال التوازن
من حيث العدد يكون التوازن متعددًا أو مركبًا أو ثنائيًّا بسيطًا، وقد ينعدم التوازن بصورة مؤقتة عند وجود قوة مهيمنة، لكن الهيمنة لا تدوم إلا لفترة قصيرة بحكم قانون الصراع نفسه وسعي الآخرين لكسر الهيمنة.
ولقد أثبتت قواعد نظرية توازن القوى، وجود صيرورة ثابتة للتوازن، فبعد سقوط كل توازن، قد تظهر حالة هيمنة عابرة يعقبها توازن متعدد الأقطاب ينقلب فيما بعد إلى توازن بسيط ثنائي الأقطاب، وذلك بحكم ديناميكية التحالفات، ففي التوازن المتعدد تبدأ التحالفات والاصطفافات وهو ما يقلبه في نهاية المطاف إلى توازن ثنائي.
وقد أثبتت قواعد نظرية التوازن أن التوازن المتعدد الأقطاب يقود للاستقرار، أما الثنائي فإنه يقود للحروب والمجابهات، وهكذا فإن صيرورة التوازن تأخذ الشكل التالي:
توازن متعدد الأقطاب ß استقرار يؤدي إلى توازن ثنائي ß الحرب ß هيمنة ولا توازن ß توازن متعدد الأقطاب.. إلخ.
ومن حيث الكيف، فإن التوازن إما أن يكون مرنًا أو جامدًا، والتوازن المرن هو ما يقوم بين دول متشابهة ذات قيم مشتركة وثقافة متقاربة، أما التوازن الجامد فهو ينشأ بين دول ذات حضارات مختلفة وقيم متباينة وأيديولوجيات متصادمة، ويؤدي الأول للاستقرار والسلام، أما الثاني فيؤدي للحروب والمواجهات.
إن التوازن قد يتخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا، فيكون المتعدد مرنًا أو جامدًا، وكذلك الثنائي، وأكثر التوازنات مدعاة للاستقرار هو التوازن المتعدد المرن، وأكثرها إنتاجًا للحروب هو التوازن الثنائي الجامد.
تلك هي الصورة المبسطة جدًّا لقواعد نظرية توازن القوى التي قد تساعد على فهم ما سيظهر في المستقبل القريب، ومهما كان التوازن وأشكاله وعلاقة الأطراف الرئيسية به، فإن نظام التوازن يسمح لأطراف كثيرة أخرى، بالتأثير فيه، فهو يترك هوامش كثيرة للاعبين، من أوزان متوسطة أو حتى صغيرة، بلعب أدوار مؤثرة، بشرط اليقظة التامة والذكاء في فهم الحقائق الدولية ورشاقة الحركة على حبال التوازن.
- خلاصة عن الصراع والتوازن
إن في التاريخ كما في السياسة الدولية ثوابتَ لا يمكن تغييرها، كما أن هناك متغيرات كثيرة تنشأ بسبب الزمان والمكان وثقافة الشعوب وظروفها ودرجات التطور الحضاري والعلمي وأنماط القيادة.. إلخ، ويكمن فن إدارة السياسة في فهم الثوابت والمتغيرات، فلا تُبنى السياسات الناجحة على المتغيرات الظرفية وردود الأفعال، بل تبنى على المزج بين العنصرين الثابت بقدره والمتغير بقدره، ومع وجود ثوابت كثيرة، إلا أن قانونَي الصراع وتوازن القوى من محركات التاريخ الأساسية، فسيظل الصراع بين الدول مستمرًا، دون نهاية، تحركه أسباب متعددة ومتغيرة، وسيظل الصراع منتجًا لتوازنات القوى، توازنًا بعد آخر، هذا هو درس التاريخ البليغ، إن درس التاريخ كما يقول الفيلسوف الفرنسي (ريجيس دوبريه) مرصوف بالمعارك، أما لماذا؟ فهو يقول “مثلما الحرب، وهي مضخة التاريخ، محرك التقدم التقني لوجب البحث عنها في هذا العجز الأساسي، فليس في مقدور الإنسان إنتاج الطاقة من العدم، الإنتاج يقابله التدمير، وعدم الرغبة في تدمير شيء معناه عدم القدرة على إنتاج شيء… وكل زمرة كانت قد انتزعت بصراع حاد طويل مع عداء العالم الخارجي” (24).
إن قانونَي الصراع وتوازن القوى هما من سيصنع المشهد الدولي القادم.
مشهد التوازن المقبل
بعد نهاية الحرب الباردة، ظهرت الهيمنة الأمريكية، وهي (هيمنة خادعة) لم تحدث في التاريخ إلا في عصر الإمبراطورية الرومانية، وحتى إذا ظهرت فإنها لا تستمر إلا لفترة عابرة، أو على مستويات إقليمية ضيقة، وفي ذروة الهيمنة وما صاحبها من صخب، انقسم الناس إلى اتجاهين، يذهب الأول، إلى أن الهيمنة الأمريكية ستكون طويلة الأمد، بسبب الفوارق الشاسعة في (القدرات وليس القوة وحدها)، فهذه الإمبراطورية متفوقة في كل شيء تقريبًا، ولم يلحق بها أحد، وعلى العالم الاستسلام لهذه الحالة، بالقبول بالنظام العالمي الأمريكي بكل قيمه ومؤسساته والتكيف الطوعي أو القهري، وظهرت الولايات المتحدة الأمريكية كأمة عازمة على فرض شروطها لتغيير العالم، إما بالسير وراءها طواعية أو أنها ستجبر الكل ولو بالقوة، ورفعت شعارات تغيير الأنظمة ونشر الديموقراطية الأمريكية وحقوق الإنسان وفق مفهومها، وسيطرت سيطرة شبه مطلقة على المنظمات الدولية، وعلى الأخص مجلس الأمن، وحولته إلى (مجلس رعب) ينشر الذعر بين الدول والشعوب، يفرض العقوبات على العصاة، ويقمع من يحاول التمرد، ويضيق على كل بؤرة ينبثق منها الضوء ليعطي الأمل في تغيير هذا الواقع البائس.
لقد كان على رأس هذا الاتجاه تيار المحافظين الجدد في أمريكا، الذي ملأ العالم صخبًا، واستطاع أن يجد له دعاةً وأنصارًا في أوروبا الغربية، وجرت انعكاساته في كل مكان تقريبًا.
وفي المقابل ظهر اتجاه آخر، وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، يدعو إلى التأمل والتعقل وعدم السقوط في شرك هذا الخداع الظرفي، وهو اتجاه بنى معتقداته على فهم عميق لقوانين التاريخ وثوابت العلاقات الدولية، وخلاصة رأيه أن الهيمنة ظاهرة عابرة في التاريخ لا يجب أن تُبنى عليها السياسات الرصينة طويلة الأمد، وأن على أمريكا أن تختط سياسة مسؤولة تساعد على بناء عالم متوازن تتولى (قيادته وليس رئاسته)، وكان من أبرز هؤلاء الإستراتيجي الألمع (هنري كيسنجر).
في كتابه (الدبلوماسية من الحرب الباردة حتى يومنا هذا) يستعرض النظام الدولي والشعارات التي قام عليها، ويخصص فصله الأخير لما يسميه (رؤية جديدة)، دعا فيه إلى تأسيس نظام دولي مبني على التوازن، لأن التفرد بأحوال العالم من قبل أمريكا مسألة ليس مقدورًا عليها إلى أجل طويل، رغم تفوقها الساحق، وفي ذلك يقول: “تمخضت نهاية الحرب الباردة عما أطلق عليه بعض المراقبين عالمًا أحادي القطب، أو عالم قوة عظمى وحيدة، غير أن الولايات المتحدة على الصعيد الواقعي ليست بحال يؤهلها لإملاء جدول الأعمال الكوني لوحدها… نعم إنها أكثر تفوقًا مما كانت عليه قبل عشر سنوات، غير أن القوة باتت، ويا للسخرية، أقل فاعلية في عالم اليوم. وهكذا تضاءلت قدرة أمريكا عمليًّا على تسخير القوة لقولبة بقية أنحاء المعمورة” (25).
وما دام الأمر كذلك، فإنه لا بديل عن إقامة توازن قوى جديد يرسي نظامًا دوليًّا كالذي أرسته معاهدة وستفاليا ودام قرنًا ونصف القرن، والذي أرساه مؤتمر فيينا، ودام قرنًا من الزمان، وهو أطول ردح دام به نظام دولي دونما اندلاع حروب كبرى، فقد جمع هذا التوازن بين الشرعية والتوازن والقيم المشتركة ودبلوماسية توازن القوى.. بيد أن الولايات المتحدة حاولت في القرن العشرين أن تنشئ نظامًا عالميًّا قائمًا على قيمها وحدها تقريبًا.. ودعا (كيسنجر) بصورة واضحة إلى بناء توازن قوى يحفظ المصالح القومية التي لا يمكن الحفاظ عليها بواسطة الهيمنة، وذهب إلى أبعد من ذلك بالدعوة لإعادة تربية النشء الأمريكي على هذه القيم غير المتعجرفة، ومن المحتمل أنه كان يرمز بالنشء للطبقة السياسية الجديدة قليلة الخبرة بالسياسة الدولية المسيطرة في ذلك الوقت، فقد خشي من أن حالة القوة المفرطة والهيمنة مضافًا إليها الخبرة السياسية القليلة، قد تقود بلاده نحو نزعة الفوضى، وهو ما سيدفع الآخرين إلى الصدام معها بما ينطوي عليه ذلك من خطورة بالغة، وهذا ما حدث (26).
وليس (كيسنجر) وحده من ذهب لهذا الاتجاه، فقد شايعه عدد كبير من المفكرين من أمثال (جوزيف ناي) في كتابه (القوة الناعمة) و(نعوم تشومسكي) في كتابات كثيرة، وظهرت مثل هذه الدعوات في أوروبا الغربية على يد مفكرين كبار من أمثال (جاك أتالي) في فرنسا، الذي عبر عن ذلك في كتابه (ملامح المستقبل)، غير أن (بؤرة الشر) عصابة المحافظين الجدد قادت لبعض الوقت السياسة الأمريكية نحو الاتجاه المشؤوم لتصنع ما هو واقع مرير اليوم.
ولقد انحزت مبكرًا لهذا الاتجاه الواقعي، وقلت إن مرحلة الهيمنة ستكون مرحلة عابرة غير قابلة للاستمرار، فإذا كان توازن القوى المنهار، لم يؤد بصورة مباشرة إلى ظهور توازن قوى جديد، فإن السنوات القادمة ستشهد نهوض أطراف جديدة لا تزال تستكمل شروط مشاركتها في تشكيل التوازن (27).
والواقع أنه لم يجر خلاف بين أنصار هذا الاتجاه إلا على زمن التوازن لا التوازن نفسه، الذي تأخر قليلًا.
الحرب الروسية الأوكرانية: بوابة التوازن
اختارت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب من ورائها مدخلًا عنيفًا لتوازن القوى المقبل بإشعال الحرب الروسية الغربية التي تدور رحاها اليوم على أرض أوكرانيا، ومن المؤسف أنها وجدت زعامة أوكرانية غريرة وقعت في أحضانها في الوقت الذي توفر لروسيا قيادة مدركة لدواعي أمنها بعد وقت طويل غابت فيه روسيا عن المشهد الدولي.
وكيفما انتهت إليه هذه الحرب، فمن المرجح أن تشكل نهايتها بوابة العبور نحو التوازن الدولي المقبل القائم على عالم متعدد الأقطاب.
ورغم عنف هذه الحرب ومأساويتها ونوايا أطرافها، فإنها ستنتهي بتسوية سياسية ما، إذ يصعب تصور هزيمة طرف واستسلامه بطريقة مهينة، فمن يعرف روسيا وتاريخها وإمكانياتها العسكرية والبشرية وقدرتها على التضحيات لن يقبل فكرة هزيمتها، كما لا يمكن القبول بفكرة هزيمة الولايات المتحدة والغرب بسبب الكبرياء أولًا، وتحقيق بعض المكاسب المهمة من هذه الحرب ثانيًا… فالولايات المتحدة الأمريكية قد تقبل الهزيمة من أفغانستان وليس من روسيا.
إن الولايات المتحدة الأمريكية، بنهاية الحرب، ستكون قد حققت بعض أهدافها، وهو (إنهاك روسيا واستنزافها) وليس هزيمتها، وذلك بقصد جعل روسيا (قطبًا منقوصًا) في التوازن الدولي المقبل.
لقد بذلت الولايات المتحدة الأمريكية أقصى جهودها لإخراج روسيا من التوازن، وصرفت مع حلفائها عشرات المليارات من الدولارات لتمويل هذه الحرب المجنونة، وفتحت ترسانتها العسكرية لأوكرانيا التي تدفق عليها كل السلاح الأمريكي والغربي، بما في ذلك الأسلحة المحرمة دوليًّا، وفي مقدمتها القنابل العنقودية والصواريخ والطائرات الأكثر تطورًا، والواقع أنه لم يتبق في مخازنها شيء تعطيه غير السلاح النووي، ودون أي اهتمام بالقانون الإنساني الدولي أو الأخلاق أو الضمير، فلقد سقطت حكومة هذه البلاد في مستنقع كريه يجعلها عارية، تستحق أن يحاسب زعماؤها باعتبارهم من مجرمي الحرب.
ومع كل هذا الجهد الضخم، تعرضت سياستها للهزيمة، وهو ما سيدفع في نهاية المطاف إلى تسوية سياسية لحفظ ماء الوجه، وهناك اليوم مؤشرات كثيرة تدل على هذا الاتجاه، أما في الجانب الروسي، فإن روسيا تكون، بنهاية الحرب، قد حققت معظم أهدافها بإزالة الخطر الأوكراني والحفاظ على أمنها لوقت طويل، مما سيدفعها للقبول بالتسويات، وإذا حدث ذلك، فإن لعبة الأمم تكون قد انتهت في هذه المرحلة.
هذا هو المشهد الأول المقبول لنهاية الحرب الروسية الغربية، تسوية سياسية تحفظ ماء الوجه لكل الأطراف، بما في ذلك أوكرانيا التي قد تعطى بعض المكاسب من نوع الضمانات الأمنية واسترداد بعض الأراضي والاندماج في الاتحاد الأوروبي.
لكن من المؤسف أن هذا المشهد قد لا يحدث إذا أصر العالم الغربي على التصعيد أملًا في الحصول على هزيمة روسية أو استنزاف روسيا إلى أقصى حد ممكن.
إن من طبيعة الحروب شكلها التصاعدي، فهي تنتقل من شكل أدنى إلى شكل أعلى، تبدأ بالشرارات وتنتهي باللهيب، ومع الزمن يتصاعد لهيبها بسبب الأحقاد والمرارات التي تعقب المعارك، وكما يقول (تشرشل) “في الحرب نشوة مثل نشوة الحب” يُخشى أن تبعث الرعشة في الجيوش.
إن مشهد التصعيد لا يمكن استبعاده، والمؤشرات الواردة من الغرب تدل عليه في وسط الفوضى وندرة العقلانية، وظهور بعض الهشاشة الروسية أحيانًا، يغري بالتصعيد، وإذا حدث ذلك، فإن الحرب ستتوسع في الاتجاهين، العمودي والأفقي.
أما على المستوى العمودي، فإنها سوف تزداد بشاعة باستخدام أشد أنواع الأسلحة فتكًا وتدميرًا، وإذا كان هناك بعض الجدل حول الأسلحة النووية وإمكانية استخدامها، فلا جدل حول غيرها من الأسلحة، وعلى الأخص بعد أن أدخلت الولايات المتحدة القنابل العنقودية، وبعض دول أوروبا، الصواريخ بعيدة المدى، وهو ما سيدفع روسيا إلى استخدام كل إمكانياتها لممارسة أقصى ما يمكن من الردع.
منذ الحروب القديمة إلى اليوم، تُصنع الأسلحة للاستخدام وليس للعروض العسكرية، وما من سلاح، بما في ذلك السلاح النووي، لم يجرب في ميادين القتال، ورغم المحاذير، فلا أحد يضمن عدم استعماله من كل الأطراف، إذا اتخذت الحرب شكلًا تصاعديًّا، فالإستراتيجية الروسية تسمح باستخدامه متى تعرض الأمن القومي لخطر شديد، ولا ضمان مطلقًا يأتي من الغرب، وعندها سيغرق العالم القديم برمته في (طوفان نوح) آخر لا عصمة منه، وقد يكون الناجي الوحيد هو أمريكا وعالمها الجديد، وذلك عنصر إغراء قد يدفع السياسات المجنونة لاختياره.
أما على المستوى الأفقي، فإن ساحات الحرب ستتضاعف عدة مرات لتشمل كل تخوم روسيا وأوكرانيا لتمتد نحو مناطق جديدة في غرب آسيا لتشمل كل خصوم الغرب، وذلك بقصد الانتقام وتصفية كل قوة يخطر لها أن تتحدى الغرب لقرن كامل، وإذا حدث ذلك سيبدأ الالتفات للصين والشرق الآسيوي لتكرار الانتصار وضمان الهيمنة إلى أمد طويل.
إن أي مشهد يقود إلى انتصار الغرب سينطوي على (كارثة عالمية) وسيعيد البشرية قرونًا إلى الوراء، حلقات استعمارية أكثر قسوة ونضالات إنسانية باهظة الثمن لدحر الاستعمار من جديد، ومع ذلك تظل الآمال معلقة على قبس من ضمير، قد يوقف الحرب في حدودها المعقولة.
المرجح لدي، أن التوازن المقبل سيكون توازنًا متعدد الأقطاب، وذلك هو ما يدل عليه واقع القوى في الوقت الراهن، وهو ما تؤكده قواعد نظرية توازن القوى، فالهيمنة، بطبيعتها، يعقبها التوازن المتعدد، وليس أي شكل آخر. ومن المبكر التحديد الدقيق لأطراف هذا التوازن أو درجات تعادله، لكن المؤشرات تدل على احتفاظ الولايات المتحدة الأمريكية بمكانة قوة عظمى وليست الأعظم، ولا شك في مكانة الصين في هذا التوازن، فهي في مرحلة ما ستتوازن كليًّا لتبدأ السعي نحو التفوق، أما روسيا فستبرز في المشهد الجديد باعتبارها (قوة منقوصة)، وستظل لفترة طويلة تجاهد لاستعادة مكانتها بسبب إرهاق الحروب والحصارات المتتابعة، أما أوروبا فلن تجد لها مكانة مهمة بحكم هشاشة الاتحاد الأوروبي السياسية والعسكرية، أما دولها الكبرى بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، فمن المرجح أن تتدنى مكانتها إلى مستوى أقل من الدول الكبرى.
ويعود الضعف الأوروبي النسبي في توازن القوى المقبل، إلى الإنهاك الذي ستجد فيه أوروبا نفسها بعد الحرب، بسبب تبعيتها للسياسة الأمريكية وتحملها أعباء مالية وعسكرية باهظة أكثر مما دفعت أمريكا.
في هذه الحرب، نجحت أمريكا في إنهاك خصومها بما في ذلك حلفاؤها الأوربيون، وهو هدف لم يكن بعيدًا عن أذهان المخططين الأمريكيين، فرغم المظهر الخارجي لوحدة العالم الغربي، إلا أن صراعًا يدور ومنذ زمن بعيد، بين العالم الأنجلوسكسوني وأوروبا القديمة، وهو صراع تغذيه خلافات دينية ومذهبية وثقافية ومصلحية، وهناك حالة من الصراع المكتوم بين الطرفين تعكسه كتابات كثيرة لدى الطرفين تصل إلى حد التحقير والشتائم، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يُنظر إلى أوروبا باعتبارها خصمًا محتملًا تتعارض قوته مع الهيمنة الأمريكية وقيادتها للحقبة الأنجلوسكسونية لا الغربية.
ليس الإنهاك الحربي وحده ما سيلحق الأضرار بمكانة أوروبا، بل ستجد فيه نفسها من أوضاع دبلوماسية وداخلية، إذ ستجد أوروبا نفسها، بعد نهاية الحرب ذات علاقات خارجية مفككة، وصلات ضعيفة مع الصين ودول آسيوية وأفريقية، وسيمر وقت طويل دون أن تستعيد الدبلوماسية الأوروبية زخمها وتعيد روابطها مع من اختارت عداءهم في هذه المرحلة.
أما على الصعيد الداخلي، فإن معظم الدول الأوروبية، ستعاني من التوترات الاجتماعية التي بدأت مبكرًا (فرنسا نموذجًا)، وهي توترات عميقة صنعتها سياسات حمقاء، أعطت الأولوية لخدمة جدول الأعمال الأمريكي على حساب خدمة مجتمعاتها، وهو ما يفجر اليقظة عند الشباب خصوصًا، وسيظهر على السطح في كل مناسبة ومن نوع قتل صبي مهاجر.
إن توازن القوى المقبل سيشهد بروز قوى متوسطة الحجم، لكنها بفعل تأثيراتها الإقليمية سوف تكتسب أوزانًا مهمة في النظام الدولي، ورغم أن هذا التوازن سيكون مثل غيره من التوازنات، إلا أنه قد يتخذ شكلًا أكثر تعقيدًا بتكوُّنه من ثلاثة صفوف، عظمى وكبرى ومتوسطة، وهو ما سيجعله أكثر ديناميكية من زاوية التحالفات بداخله، ومن طبيعة هذا التوازن، خلق مرحلة من الاستقرار تنشط فيها الدبلوماسية أكثر من النزاعات، غير أن التحالفات ستقوده نحو الصيرورة التاريخية، التوازن الثنائي بما فيه من مخاطر.
المشهد العربي
عام 2005 كتبت كتابًا استشرافيًا تحت عنوان (أقواس الهيمنة) (28) خصَّصته لدراسة الإستراتيجية الأمريكية منذ مبدأ (مونرو) (1823) حتى نهاية الحرب الباردة، بما انطوت عليه هذه الإستراتيجية من أفكار الانعزالية والعالمية في مراحل تطورها المختلفة، وقد كان استنتاجي الرئيسي أن أمريكا أمة ذكية فرضت هيمنتها على مراحل طويلة، وهي في كل مرحلة تصنــع قوسًا لمنــاطق نفــوذها، وقد بــدأت قوســها الأول في مرحــلة (الانــعزالــية) تطــبيقًا لــمبدأ (مونرو) الذي يمنع أوروبا من التدخل في العالم الجديد، ويمنع أمريكا من التدخل في صراعات القارة العجوز، وطوال القرن التاسع عشر، مارست هذه السياسة لتصنع لها قوسها الأول، الهيمنة المنفردة على العالم الجديد.
ولقد كان عليها أن تنتظر حتى الحرب العالمية الأولى، لتصنع قوسها الثاني، وفي اللحظات الأخيرة من الحرب، خرجت من الانعزالية للعالمية، وتدخلت بكل ثقلها لحسم الحرب لمصلحة الحلفاء، وفرضت نفوذها على غرب أوروبا في قوسها الثاني، وذلك ما تكرر في الحرب العالمية الثانية، فقد انتظرت الحرب الطاحنة عدة سنوات قبل أن تتدخل بكل ثقلها لحسمها وتمد نفوذها إلى وسط أوروبا وهو قوسها الثالث، أما الحرب الباردة، فهي من صنع قوسها الرابع الذي شمل أوروبا الشرقية كاملة تقريبًا، وفي ضوء هذا التسلسل، فإن القوس الخامس أصبح يُطل برأسه ليشمل تخوم روسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط برمته، انتظارًا لظروف تسمح بالقوس الأخير الممتد نحو تخوم الصين وحتى شرق آسيا.
لم يكن غرض الكتاب أكاديميًا بحتًا، بل كُتب بدافع سياسي للتنبيه بأن الأمة في خطر القوس الجديد، وهو ما تزامن مع ما أُطلق من شعار (الفوضى الخلاّقة) لتغيير المنطقة وإعادة تشكيلها وفق الرؤية والمصالح الأمريكية، وقد دعوت إلى ضرورة الانتباه ومواجهة هذا المشهد بالتنسيق العربي وبناء استراتيجية عربية تحد من المخاطر على الأقل إذا لم تمنعها.
ومن المؤسف، أن الأمة واجهت هذه المرحلة، بأسوأ صورة، وصلت إلى المشاهد غير المعقولة، ولم تكتف دولها بالتشرذم والذعر والوقوع في حضن العدو، بل إن بعضها انخرط في حلقة التآمر، وهكذا بدأ وقوع العرب بغزو العراق واحتلاله عام 2003 لتسقط قلعة حصينة من قلاع العرب، وبدأ التخطيط للنكبات الأخرى تحت اسم (الربيع العربي)، وهكذا منذ عام 2010 تساقطت دول وقيادات العرب لتغرق المنطقة في فوضى عارمة لا يعلم إلا الله كيف ومتى يمكن الخروج منها.
وبصرف النظر عن أية أسباب وطنية داخلية، أسهمت في انفجار الفوضى الخلاَّقة، إلا أن ما حدث كان تخطيطًا خارجيًا إنجلوسكسونيًا بصورة خاصة، هدفه تفتيت المنطقة وتحطيم الجيوش وكل مقومات الدولة، لتغدو الأوطان العربية تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية ضمن قوسها الجديد.
لقد أنتج مشهد التشرذم العربي أوضاعًا كارثية على كافة المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبشكل عام، تبدو الأمة اليوم في حالة تراجع غير مسبوقة، فعلى الصعيد الإستراتيجي والأمني أُخرجت خمس دول على الأقل من موازين القوى الإقليمية لوقت طويل، هي العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان، ومعظمها دخل دائرة الدولة الفاشلة، وجرى اختراقها بصورة مريعة، وعلى أراضيها تدور المعارك بين القوى الخارجية، وترتع أجهزة مخابراتها علنًا، وتعاني بنيتها الاجتماعية والسياسية من التفكك، فقد انغمست في أزمة سياسية واجتماعية حادة ببروز هويات قاتلة مدمرة للدولة، أما من الناحية الاقتصادية، فقد انغمست في النهب والفساد الذي تحول إلى ثقافة وليس مظــهرًا شائنــًا وحــسب.
إن ما تبقى من دول عربية، لم يسلم من النكبة، وإذا كانت بعض الدول استطاعت الحد من الأضرار والنجاة بمقومات الدولة ومنع انهيارها، فإنها ستعاني لسنوات طويلة قبل أن تستعيد عافيتها.
لقد ارتكب النظام الرسمي العربي، في هذه المرحلة أخطاء فادحة بسبب عدم إدراك حقائق الصراع الدولي والتحولات البنيوية في توازنات القوى، ومن سوء حظ الأمة، تزامُن هذه الحالة مع انهيار جامعة الدول العربية، وضعف وعدم إدراك قيادتها ما يجري على المسرح الدولي، وسواء أتم الأمر بجهل أم تعمد، فقد أسهمت الجامعة وقيادتها في لعب أسوأ دور يمكن أن يقوم به تنظيم إقليمي، فقد سلمت العراق وليبيا وسوريا للأعداء على طبق من ذهب، وفي جميع هذه الحالات، تصرَّفت الجامعة بصورة سريعة للإضرار بأعضائها، استجابة للإغراء والضغوط والمصالح ذات الطابع الشخصي، وسواء أكان الأمر متعمّدًا أم مخطئًا، فإنه يستوجب حساب التاريخ، وأخذ العبر تحسُّبًا للمستقبل وليس ندمًا على الماضي.
- الاستعمار والفراغ
أصبح المشهد الدولي القادم اليوم أكثر وضوحًا، صراع دولي متفاقم ومرير، وتوازن قوى جديد متعدد الأقطاب، شبه محدد الملامح، وقوى دولية كبرى وصاعدة ستندفع نحو مناطق الفراغ، وما لم تُدرك النخب الفكرية والسياسية العربية هذه الحقائق وتستعد للتفاعل معها، فإننا سنقع مرة ثالثة، وفي هذا القرن، في أحضان استعمار قد يختلف في شكله دون مضمونه.
إن من قوانـين التاريخ الثابتة، الترابط بيـــن الفراغ والاستعمار وفق نـظرية (الأواني المستطرقة) وفي كل التاريخ، تندفع الأمم القوية نحو مناطق الفراغ لمزيد من القوة والنفوذ، فالاستعمار ليس ظاهرة عابرة، ولم يكن ثمرة لانحطاط إنساني يبرر هذه الظاهرة في القرون الماضية، فالاستعمار ظاهرة متكررة تحدث كلما توفرت اشتراطاتها، ومن أهم شروط الاستعمار ظهور الفراغ، وهو ما يسميه المفكر الجزائري المرحوم “مالك بن نبي” القابلية للاستعمار، ومنذ السبعينيات عبَّر هذا المفكر المرموق عن قلقه، بأن الأمة العربية والإسلامية ما زالت تعيش هذه المرحلة، وقد دعا فيما دعا إلى التخلص من هذه المظاهر ببناء مشروع فكري عربي إسلامي لتحقيق النهضة، فلا تنهض الأمم دون مشروع فكري أصيل، سواء انبعث من جذور دينية وثقافية وحضارية رصينة خالية من شوائب الأساطير والخرافات، أم انبعث من الإبداع الفلسفي والفكري لعلماء الأمة ومفكريها.
إن الأمة العربية اليوم، في حاجة إلى مشروعها الفكري الخاص الذي يجب أن يقوم على الأصالة والتجديد لمواجهة التدافع الحضاري ومخاطر الصراع.
ولكن هل للأمة اليوم مشروع أو شبه مشروع لمواجهة الصراع؟
إن الإجابة عن هذا السؤال، يمكن النظر إليها من زاويتين، المشروع الجماعي للأمة أو الفردي لدولة من دولها تلعب دور القيادة والقاطرة وتقتحم الصراع.
- المشروع الجماعي
أما على الصعيد الجماعي، فمن المؤسف القطع بأنه لا مشروع أو حتى ملامح له. ويعود السبب في ذلك إلى انعدام (القيادة).
في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، نالت معظم دول الأمة استقلالها، وبدأت تدق بكلتا يديها أبواب التاريخ بقادة من الطراز الرفيع، أبطال استقلال وأبطال ثورات، ملوك وأمراء كبار، وقادة ثورات عظام (كان من حظي أن أرى أكثرهم) يملؤهم الحماس لاستعادة مجد الأمة، وُكلٌّ حمل بين جناحيه مشروعًا، في حده الأدنى، وطنيًا وضعوه بين يدي رجال دولة لا يـــقِــلُّون عنــهم فـــي الحمــاسة والوطــنية، ومــــن وراء ذلــــك جــــامـــعة فــتـــية أُطـــلق عـــليها أحــيانًا (بيت العرب) لتنسيق الجهد وجمع الكلمة وهندسة مشروع النهوض، وظهر أن الأمة امتلكت (فائض قيادة) يكفي ويزيد ويفيض على غيره، ولم يخِب الأمل، فقد ملأت هذه القيادة السياسية الدنيا بنشاطها وتحدياتها، تواجه الظلم وتستعيد الكرامة والموارد وتقارع الاستعمار حتى في الأقاصي البعيدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأنشأت لذلك المنظّمات والأدوات وتولت قيادتها بكفاءة عالية.
في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تحولت القيادة العربية إلى قيادة عالمية هزت أركان العالم، وأصبحت مركز ثقل بما أنشأت أو ساهمت في إنشائه، حركة عدم الانحياز، منظمة الوحدة الأفريقية، فكرة الأفروآسيوية… إلخ، وقيادة حركات التحرر والانخراط في معارك التأميم والتنمية والتعليم، ورغم ضراوة المعركة مع الغرب وإمبرياليته الوحشية، لكن الأمة كانت ندًّا رغم انتكاسات مريرة في هذا الطريق الطويل.
في هذه المرحلة، اتخذ النهوض شكلًا شاملًا، فلم يقتصر الأمر على فضاء السياسة، بل امتد ليشمل كل شيء، ازدهار الثقافة، ارتفاع الأدب والفن، ظهور أفكار الإصلاح وشيوع حالة التفاؤل بالمستقبل.
إن هذا الواقع، بدأ بالتبدل لأســـباب كثيرة، لعـــل من بينها (فائض القيادة)، وتلك مســألة تســـتحق الدراسة، فـــقد ولَّـــدت هذه الظاهرة التنافس ولـــيس التعاون، ولعــــبت سياسات (فرِّق تسد) التي مارسها الغرب في تشتيت الجهد، ومن المؤسف أن القيادات العربية قد وقعت فيها، وبدأت سلسلة الأخطاء الفادحة، وبعضها قاد إلى ما نحن فيه اليوم.
- المشروع الفردي
إذا كان المشروع الجماعي للأمة، ليس موجودًا حتى الآن على الأقل، فإن المشروع الفردي ممكن، ولو نظريًا، إلى حين توفر شروطه.
إن للمشاركة الفعالة في الحياة والتفاعلات الدولية من خلال توازنات القوى الإقليمية، عدة شروط، تقوم على الإرادة الواعية، والقدرات المادية والمعنوية، ومن أهم هذه الشروط:
- الموقع الجغرافي: الذي يجب أن يكون ضمن منطقة التوازن أو قريبًا منها، ولا يمكن أن تلعب دولة دورًا مؤثرًا من مكان بعيد، وذلك باستثناء الدول العظمى.
- القدرة:
ونعني بالقدرة (مجموعة القوى) البشرية والعسكرية والاقتصادية والمالية والعلمية والسياسية والدبلوماسية والثقافية.. إلخ، ويخطئ من يظن أن القوة، وهي في الغالب تشير للجانب العسكري، قادرة لوحدها على التأثير الكبير في موازين القوى الإقليمية والدولية.
فيشترط أن تكون الدولة المؤثرة ذات كثافة بشرية متوسطة، على الأقل… أي يجب أن يصل عدد سكانها إلى عشرات الملايين، وأن تملك قوة اقتصادية ومالية كافية لمواجهة أعباء التوازن، وتستند إلى التطور العلمي والثقافي والمهارة السياسية والدبلوماسية.
لقد ثبت أن القوة ذات البعد الواحد قليلة التأثير في موازين القوى، فطوال الحرب الباردة، لم يكن لليابان مثلًا، مكانة تذكر رغم قوتها الاقتصادية الهائلة، ولم يكن لدول كبيرة في أفريقيا وآسيا شأن، مقارنة بدول أصغر امتلكت قدرة متنوعة.
- الإرادة والوعي
للتأثير في ميزان القوى، لابد أن تمتلك الدولة الإرادة والوعي والإدراك والمهارة السياسية والدبلوماسية، وهو ما يعتمد على وجود (قيادة) تمتلك رؤية شاملة ورغبة في القيام بدورها الإقليمي والعالمي.
إن المشاركة في التفاعلات بنشاط، هي اختيار أولًا وأخيرًا، فقد تستنكف الدول عن المشاركة مع توفر قدراتها، وفق ما تراه مناسبًا لمصالحها.
وفي ضوء هذه الشروط، يمكنني القول إن هناك (دولتين عربيتين) (29) تمتلكان هذه الشروط، نسبيًا، لامتلاكهما الموقع الجغرافي والقدرات المتنوعة، وقد يكون ما ينقصهما، وأرجو أن يكون بصورة مؤقتة، الرؤية والإرادة والتخطيط للمشاركة الفعالة، ومع وجود قبسات تدل على الاستعداد، إلا أن هذه الدول، لظروفها، لم تُظهر بعد رؤية شاملة قائمة على أولويات واضحة ومتماسكة، وإذا حدث ذلك فإن الآمال ستعود حتمًا.
إن من طبيعة المشروعات الفردية، أن تقود إلى المشروع الجماعي، وإذا استطاعت دولة عربية ما، فرض نفسها في المشهد الإقليمي والدولي، فإنها حتمًا ستُجبر غيرها للانضمام إليها، وستعيد إلى الأذهان (نظرية الدولة القائدة)، وهي نظرية طرحها بعض المفكرين العرب في سبعينيات القرن الماضي، ووضعوا بعض ملامحها.
والخلاصة: فإنناسندخل مشهدًا دوليًّا شديد التعقيد، بعد حروب ضروس، وسينتهي بشكل ما بتوازنات معقدة أيضًا، رئيسية وفرعية، ومن طبيعة هذه التوازنات ديناميكيتها المفرطة عند نشوئها، بما تشهده من حراك وتحالفات بقصد زيادة المكانة، وإذا أرادت الدول العربية، منفردة أو بصورة جماعية، التأثير فإن عليها من الآن فصاعدًا:
- خفض الصراع الإقليمي إلى أدنى درجة ممكنة، فليس من مصلحتها الانغماس في التوتر مع دول الجوار مهما كانت الأسباب، وإذا كان إنهاء الصراعات مسألة مستحيلة، فإن خفضها يظل ممكنًا ومن أجله ظهر الفن الدبلوماسي.
- بناء سياسة تحالف واعية ومدروسة قائمة على تحليل عميق للواقع الدولي ووزن لمدى القدرات الذاتية وطبيعة التحالفات واتجاهات الصراع العالمي.
- الاتجاه نحو التسلح، ومهما قيل عن عناصر القدرة، فإن القوة العسكرية تبرز في المقام الأول، كما قال إمبراطور روماني (إذا أردت السلام استعد للحرب).
- إعادة بناء منظومة العمل العربي على أسس جديدة ملائمة لأحوال العالم وصراعاته المريرة في القرن الحادي والعشرين، ومن المؤكد أن منظومة العرب القائمة اليوم، بما في ذلك الجامعة العربية، باتت معطوبة خرَّبتها أعراف وتقاليد أضافت إلى قصورها وجوهًا أخرى قد تمنع الإصلاح والتطوير.
وأخيرًا، فإنه مع كل الواقع الدولي والعربي، فإن الأمة العربية أمة كبيرة لا يمكن تطويعها أو هزيمتها، وقد تعلَّمتُ من دراسة التاريخ أن الأزمات تولد القيادات العظيمة، وفي لحظة ما من لحظات القدر الرهيبة ستظهر للأمة قيادة عظيمة وسيصدر لها أمر الانتباه!!
(1) كتابنا “العرب وتوازن القوى في القرن الحادي والعشرين”، منشورات مكتبة طرابلس العلمية العالمية، طرابلس – ليبيا، 1995م.
(2) كتابنا “الصراع على سيادة العالم”، منشورات المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2017م.
(3) ريجيس دوبريه، “نقد العقل السياسي”، ترجمة د. عفيف دمشقية، دار الآداب بيروت، ط1، 1986م.
(4) في تفاصيل فكرة هيجل، انظر: “فرنسيس فوكوياما، نهاية التاريخ”، ترجمة د. حسن الشيخ، دار العلوم العربية، بيروت، ط1، 1993م، ص 75- 77.
(5)كارل ماركس وفردريك أنجلز، “البيان الشيوعي”، ترجمة دار التقدم، موسكو، ص 40.
(6) زبيغينيو بريجينسكي، “الإخفاق الكبير”، ترجمة: فاضل جتكر، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، ط2، 1990 ص 244.
(8) فرنسيس فوكوياما، “نهاية التاريخ”، ص 16.
(9) ميخائيل غورباتشوف، “البروسترويكا”، ترجمة حمدي عواد، دار الشروق، القاهرة، ط 2، 1989م، ص 175.
(10) نيقولا مكيافيللي، “مطارحات مكيافيللي”، ترجمة خيري حماد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 3، 1982م، ص 460.
(11) كارل فون كلاوزفتز، “الوجيز في الحرب”، ترجمة أكرم ديري وهيثم الأيوبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 2، 1980م، ص 167.
(12) أرنولد توينبي، “تاريخ البشرية”، ج1، ترجمة: نقولا زيادة، الأهلية للنشر والتوزيع، القاهرة، 1981، ص 25.
(13) هانز. جي. مورجنتاو، “السياسة بين الأمم”، ترجمة: خيري حماد، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، بدون تاريخ، ج1، ص 60.
(15) هنري كيسنجر، “مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية”، إعداد حسن شريف، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، بلا تاريخ، ص 74.
(16) هنري كيسنجر، مذكراته في البيت الأبيض، ترجمة خليل فريحات، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط 2، ج 1، ص 93.
(18) ترجمت الرسالة للغة العربية تحت اسم (درب السلام الصعب).
(19) كتابنا “الحروب وتوازن القوى”، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان الأردن، ط 1، 1999.
(20) الواقع أن هناك كتابات عربية كثيرة ظهرت أخيرًا حول توازن القوى، لكنها كتابات تنصب على توازن القوى الحالي واحتمالات المستقبل ولا تنصب على النظرية ذاتها لتستخلص قواعدها الثابتة المعروفة.
(21) مورجنتاو، “السياسة بين الأمم”، ص 237.
(23) هنري كيسنجر، “جدول أعمال ما بعد الحرب”، مقال منشور، صبحي حديدي، حرب العالمين الأولى، منشورات الأرض، قبرص، ط1، 1991، ص 179.
(24) ريجيس دوبريه، “نقد العقل السياسي”، مرجع سابق.
(25) هنري كيسنجر، “الدبلوماسية من الحرب الباردة حتى يومنا هذا”، ترجمة: مالك فاضل البدري، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 1995م، ص 532.
(27) كتابنا “العرب وتوازن القوى في القرن الحادي والعشرين”، مرجع سابق، ص 21.
(28) كتابنا، “أقواس الهيمنة”، منشورات دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت- لبنان، 2005م.
(29) سوف أتناول هذا الموضوع بالتفصيل في محاضرة (العرب والصراع الإقليمي) قريبًا بإذن الله.
قائمة المراجع
- إبراهيم أبو خزام، أقواس الهيمنة، منشورات دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت- لبنان، 2005م.
- إبراهيم أبو خزام، الحروب وتــــوازن القوى، الأهلية للـــنشر والتوزيع، عــــمّان الأردن، ط 1 1999م.
- إبراهيم أبو خزام، الصراع على سيادة العالم، منشـــورات المكتبة الأكاديمية، القـــاهرة، 2017م.
- إبراهيم أبو خزام، العرب وتوازن القوى في القرن الحادي والعشرين، منشورات مكتبة طرابلس العلمية العالمية، طرابلس – ليبيا، 1995م
- أرنولد توينبي، تاريخ البشرية، ترجمة: نقولا زيادة، الأهلية للنشر والتوزيع، ج1، القاهرة، 1981م.
- ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي، ترجمة د. عفيف دمشقية، دار الآداب بيروت، ط1، 1986م.
- زبيجنيو بريجينسكي، الإخفاق الكبير، ترجمة: فاضل جتكر، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، ط2، 1990.
- فرنسيس فوكوياما، نهاية التاريخ، ترجمة د. حسن الشيخ، دار العلوم العربية، بيروت، ط1، 1993.
- كارل فون كلاوزفتز، الوجيز في الحرب، ترجمة أكرم ديري وهيثم الأيوبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 2، 1980م.
- كارل ماركس وفردريك أنجلز، البيان الشيوعي، ترجمة دار التقدم، موسكو.
- ميخائيل غورباتشوف، البروسترويكا، ترجمة حمدي عـــواد، دار الشروق، القــــاهرة، طــ 2، 1989م.
- نيقولا مكيافيللي، مطارحات مكيافيللي، ترجمة خيري حماد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 3، 1982م.
- هانز. جي. مورجنتاو، السياسة بين الأمم، ترجمة: خيري حماد، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، بدون تاريخ.
- هنري كيسنجر، الدبلوماسية من الحرب الباردة حتى يومنا هذا، ترجمة: مالك فاضل البدري، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 1995.
- هنري كيسنجر، جدول أعمال ما بعد الحرب، مقال منشور، صبحي حديدي، حرب العالمين الأولى، منشورات الأرض، قبرص، ط1، 1991.
- هنري كيسنجر، مذكراته في البيت الأبيض، ترجمة: خليل فريحات، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط 2، ج 1.
- هنري كيسنجر، مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية، إعداد حسن شريف، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، بلا تاريخ.