منظمة فكرية وعلمية وثقافية مستقلة
الحرِّيَّة وعيُ الراهن- د. خالد كموني

الحرِّيَّة وعيُ الراهن- د. خالد كموني

د. خالد كموني

رئيس وحدة الدراسات االفلسفية والتأويلية


لما كان المجتمع العربيُّ اليوم بؤرةَ حدثٍ كُبرى، فإن إمكانَ الاشتغال بفلسفة الواقع أصبحَ أمرًا تقصِدُه العقول الواعية لما يجري. إنَّ وعيَ الحدَثِ يمنحنا إبداعَ القيَمِ اللائقةِ بالعيش الكريم. فالفهمَ المقصود للظاهرة الاجتماعية يوفِّرُ تفسيرات وتقديرات تجتمع في ذهنِ المتفكِّرِ حتى تمكِّنه من إدراك قيم الواجب. وما أروَع أن يعرِف المرءُ واجباتِه، كي يمكِّنَ مجتمَعه من الخلاص الحرِّ، والنفاذ إلى مستقبلٍ آمنٍ.
إن إدراك الواجب، هو العناية بتحمُّل المسؤولية التاريخية عن تغيير الموجود في سبيل الوجود، أي بتغيير نوعيَّة الحضور البشري في العالم، وإحراز رؤيةٍ تقدُّميةٍ، تحفظ الحراك المعرفي التجديدي في الكون. إذ لا يمكننا الحديث عن استمرار الإنسان كما هو في حياةٍ لا تبقى كما هي، بل على الإنسانِ أن يتماهى بالتجديد والتحوُّل، حتى يثبت في قرارة الكون. ولا شيءَ يحقِّقُ الاستقرارَ سوى الوعي الدائم للحرية. إن أي خطوة يقوم بها الإنسانُ في الحياة لن يكتبَ لها العيش إذا لم تكن حرة. إذًا، ما الحرِّية؟
الحرِّيةُ، مفهومٌ يأتي من وعي كل عنصر من عناصر الظاهرة الاجتماعية، بالنسبة إلى الإنسان، فرديًّا واجتماعيًا، بحيث لا تستثنى أي نظرة من نظرات الموجودين، في إبداع الرؤية الجديدة للعالم. إن عدم إقصاء الرؤى، لا يتمُّ آليًّا، ولا عفوَ الخاطر، بل هو نضالٌ قصديُّ، يجب أن يمارسهُ الشخصُ بما هو ذاتًا اجتماعية تواصلية، لا يمكن أن توجَد بمفردها. إن وعيَ الكلِّ هو الذي يحجب إمكان إلغاء أي جزء.
ونحن، إذ نتكلَّم اليوم عن شموليَّة النظرة، فذلك كي نمنع شموليَّة الرؤية الانفرادية في الواقع، فبدل أن يرى الفردُ ما يجب للجميع، يجب أن يشترك الكلُّ في الرؤية، لأن الاشتراك بالوعي يحقِّق العيش المشترَك، أي الأمان والسلام.
وهناك مسألةٌ لا بدَّ من الإشاةِ إليها، وهي أن إقصاءِ رؤيةٍ حاضرةٍ من أن تدخُلَ في تفسير الحدث، يجعلُ منها ظاهرةً تاريخيةً مأزومة، أي يجعلها موجودةً كما هي، رغمَ تبدُّل الأزمنة والأمكنة والفاعلين أنفسهم. وإن استمرار الظاهرة المأزومة سيعيق أيَّ تجديد ممكن في حياة الأمم، لأن الانشغال بالحاضر سيكون انشغالًا ماضويًا، إذا ما تفاقم استمرار هواجس الماضي في اليومي، لذا علينا أن نجعل الحاضر نقطة البداية الدائمة. هذا ما لا يتمُ إلا بالمبادرةِ بطرح الرؤية التغييرية الشاملة لمفاهيم الحرية والإبداع والتقدم على أنها مفاهيم غير مكتملة. نعم، إن كمال المفهوم يدلُّ على نقصٍ في التجربة إزاءَه. إن نظريَّة المفهوم يجب أن تواكب سيرورته المعيشة، فلا ياتي تعريفه سابقًا لعيانِه، لذا إن من سمات المفاهيم أن تحافظ على حياتِها، وذلك بعدَم رضا الفاعلين ان تكون قَبْليَّةً، بل حَدَثِيَّةً صرف.
إن الأخلاقيَّة المطلوبة اليوم، هي مشهدية التصرف الأخلاقي في الواقع، فلا يمكن الحكم على المشهد السياسي في العلاقات الدولية والحروب وغيرها، انطلاقًا من المفهوم السياسي للعلاقة بين إمبراطوريات الماضي، أو من أخلاقيات الفروسية والرجولة، بل هناك علوم حاضرة لا يمكن تجاوز راهنيتها، إذا ما اردنا إحراز الفهم التجديدي للإنسان الحاضر.
لكل ذلك، لا بدَّ من إبقاء الفلسفة مساوِقَةً للفكر، توجِّه مقاصِدَه إلى إبداع الرأي، فلا يمكن السَّير بلا رأي، والرأيُّ إذا ما صُنِعَ ببراعة الوعي للحاضر سيولِّدُ رؤيةً شاملة. هذا الشمول سيحيط بجميع مقتضيات العيش الحر الكريم.


مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *