منظمة فكرية وعلمية وثقافية مستقلة
كلمة الدكتور خضير المرشدي- المؤتمر الفكري الرابع تونس 17- أبريل/ نيسان 2025

كلمة الدكتور خضير المرشدي- المؤتمر الفكري الرابع تونس 17- أبريل/ نيسان 2025

الدكتور خضير المرشدي

مؤسس المعهد العالمي للتجديد العربي


السيدات والسادة

تحية طيبة،

أرحب بكم في هذا الملتقى الفكري الرابع للمعهد العالمي للتجديد العربي، حيث نلتقي، نتحدى الواقع، ونرسم أفقاً جديداً للفكر العربي.

أتوجه بالشكر العميق لكل من بذل جهداً لعقد هذا اللقاء، فنحن هنا، نتحاور وسط عالم يتفجر بالتحولات، حيث يتصارع المقدس العتيق مع الحاضر الممزق، ويتربص المستقبل المبهم بأسئلته الجريئة.                                                                     

في هذا العصر، حيث تنبض التكنولوجيا كقلب كوني، ويتشكل الذكاء الاصطناعي كلغز حضاري، يقف العقل العربي على حافة الهاوية: هل يغوص في المجهول بشجاعة، أم يتراجع إلى ظلال اليقين البالي؟

من نقطة التقاطع هذه ينبثق المعهد العالمي للتجديد العربي، رافعاً راية العقل المنفتح، مسلحاً بنقدٍ لا يعرف الخوف، مستلهماً من التراث نبض الحكمة، متحدياً الحاضر بوعي ثاقب، ومنطلقاً نحو المستقبل بجرأة الرواد الذين أقاموا حضارة وأنتجوا إنجازات ألهمت العالم لقرون.

إننا ندعو في هذا المعهد إلى بناء فكرٍ يتنفس العلم، ويتسلح بالتكنولوجيا، ويتشبث بالمنطق كسيف يشق دروب المعرفة.

اسمحوا لي أن أشارككم بفكرة من افكار خارج المألوف: “اللا اكتمال”. انها ليست مجرد كلمة، بل قنبلة فلسفية في سياق التفكير، تهدم أوهام الكمال، وتدعو العقل العربي إلى التحليق في سماء المجهول.

اللااكتمال، هو صرخة الوجود، التي تقول: “لا شيء مكتمل، وفي النقص تكمن الحياة! إنه دعوة لاحتضان الفراغات المعرفية مثل الأراضٍي البكر التي تنتظر البذور، ولرؤية المجهول ليس كوحش مخيف، انما بحرٍ متلاطم يحمل في أعماقه كنوز الإبداع.

لقد كان الفكر العربي، عبر تاريخه المجيد، ساحراً في سعيه لليقين، محاولاً ترتيب الفوضى، وتفسير الكون بإجابات نهائية. لكنه، في لحظات كثيرة، أغفل سحر اللايقين، ومتعة التجريب، ونشوة السقوط في المجهول. اليوم، ونحن نواجه طوفان التحديات– من تكنولوجيا تُعيد صياغة الواقع، إلى اقتصادات تتزلزل بفعل نزعات القوى الكبرى، وثقافات تتصادم– يجب أن نُعيد اكتشاف المجهول، ليس كعدو، بل كحليف يحمل بين يديه مفاتيح الابتكار.

كما إن اللااكتمال ليس مجرد فلسفة، إنَّما عاصفة في قلب الغموض. إنه موقف وجود يقول: الجهل ليس عار، بل بوابة الاكتشاف. والسؤال ليس ضعفاً، بل قوة تحطم جدران الروتين، في بيئة عربية لا تزال تتردد أمام التغيير وتتهم وتشتم مع يسعى لذلك ، وتميل إلى اليقين كملاذ آمن، يأتي اللا اكتمال كثورة فكرية، يحثنا على القفز إلى المجهول بشجاعة، وعلى بناء الأفكار من الأسئلة، كما يبني الفنان تحفته من الفراغ.

إن اللااكتمال هو دعوة للتفكير خارج حدود العقل التقليدي، لتحويل النقص إلى محرك للإبداع، ولجعل الفشل نقطة انطلاق، لا نهاية. إنه يحررنا من عبء الإجابات النهائية، ويمنحنا حرية السعي الأبدي نحو الحقيقة.

ندعوكم في المعهد إلى تبني فلسفة اللا اكتمال الإبداعية (كطريقة تفكير خارج المألوف) توجه مسار التجديد الفكري العربي. فلنجعل منها سيفاً يقطع أغلال الخوف، وشراعاً يبحر بنا في بحار المجهول. لنؤمن أن النقص هو بداية كل عظمة، وأن المجهول هو اللوحة التي سنرسم عليها مستقبلنا. في عالم يتغير بسرعة البرق، لا يكفي أن نواكب العصر، بل يجب أن نكون من صانعيه، وهذه هي رؤية المعهد.

لنغامر، لنبدع، ولنكتب قصة فكر عربي جديد، لا يخشى النقص، ولا يخاف المجهول، بل يحتضنهما كأجنحة للتحليق نحو آفاق لا حدود لها في التجديد الدائم.

لنطبق هذا المفهوم الفلسفي العميق على ركائز بناء الفكر العربي الحديث… ففي استلهام التراث:

نرى ان اللااكتمال فَضَاءٌ لِلمَنسيِّ والمُهمَلِ والمُحتَجَب في ذاكرةِ الحضارة. كُلُّ قراءةٍ جَديدةٍ للتراثِ هي وَضعُ الأصابعِ على جُرحِ مَنسيّ، لا لِتضميدِه بل لِجَعلِه يَنزفُ أسئلةً جديدةً.

المُفارقةُ العَظيمة: هي يجب أن نَجِدُ أصالتَنا الحَقِيقة ليسَ في ما أَكمَلَهُ الأوائلُ وأنجزوه وألهم العالم، بل في ما تَرَكوهُ من فَجواتٍ وقُصُور.. فابنُ خَلدون لم يَكتَمِل، والمُعَرِّي لم يَكتَمِل، وحَكَمةُ جَبران خليل جبران تَعَمدت عَدمَ الاكتمال. وهُنا يَكمُنُ السِّر: الحضارةُ التي تَعتَرفُ بِعَدمِ اكتمالِها هي الوَحيدةُ القادِرةُ على الاستمرار.

لكن الخَطَرُ في أن نُحَوِّلَ التُّراثَ إلى نُصبٍ تِذكاري بَدَلَ أن نَراهُ وَرَشَةَ عَمَلٍ دائمة.  والفكرُ العربيُ الحَديثُ الذي يسعى المعهد لبنائه يَنبَغي أن يَقرَأَ التُّراثَ مثلما يَقرَأُ شِعراً حُرّاً: كُلُّ تَفسيرٍ قد يحمل خَطأٌ، وكُلُّ خَطأٍ جَديدٌ جَميلٌ. الفكر الحَيُّ هو الذي يُؤمِنُ بأنَّ حياته الحَقِيقيَة تكمن في عَدمِ اكتمالِه.

استيعاب الحاضر

الحاضر ينتظر تأويلات جذرية، فلسفة اللااكتمال تحرّر منظومات الفكر العربي المعاصر من وهم الحلول النهائية. إنها ترى في كل يقينٍ بذرة شكّ، وفي كل اكتمالٍ مُدّعًى ثغرةً تنتظرُ اقتحامَ السؤال، العبقريةُ تكمن في تحويل فجوات الحاضر إلى مختبرات فكرية، حيث يصبح الانزياحُ عن المركز شرطاً للمعرفة، واللايقينُ منهجاً للفهم، واللامُتوقّعُ فضاءً للإبداع .. التاريخُ العربي يتشكّل الآن في تلك المساحات الهامشية التي ترفضُ الانضواء تحت أي خطابٍ جاهز.

إن الفكرُ الحديث ليس بحاجةٍ إلى إجابات، بل إلى أسئلةٍ تمزّقُ يقينيات العصر… الخطرُ هو أن نتعاملَ مع الحاضر كأزمات ونكبات وكوارث وتحطيم امنيات وأحلام تحت الأنقاض ورماد، وتراجع وانحطاط ويأس وإحباط، بينما هو في الحقيقة فضاء وفوضى تعزز العقلانية المنفتحة على كل الاحتمالات ومنها احتمال النهوض والبناء… بهذا فإن الحاضرُ العربي ليس مرجعيةً نستند إليها لبناء الفكر العربي الحديث، بل مادة خام نعيد صناعتها بجرأة المجانين وبراءة الأطفال وطموح الشباب وحكمة الشيوخ.

فلسفة اللااكتمال تذكّرنا أن أعظم إنجازٍ فكري هو القدرة على ترك السؤال مفتوحاً… وسؤالنا هنا، لماذا يحدث كل هذا الذي يجري بأمتنا؟ ما هو السبيل لمواجهته، وإحداث التغيير والنهضة؟

مواكبة العالم

العالم ليس سوقاً للمفاهيم الجاهزة بل نهرٌ من اللايقين يجرف كل الثوابت. فلسفة اللااكتمال هنا ليست خياراً، بل شرط بقاء للفكر العربي في عصرٍ يذوب فيه اليقين تحت شمس الرقمنة والعلوم. إنها تعلمنا أن كل اتصال بالعالم هو في الحقيقة انفصالٌ عن نسخة قديمة من أنفسنا، واللعبة الكبرى هي أن نرى في كل تقنية جديدة سؤالاً وجودياً لا أداة فحسب. وأن نتعامل مع المدنية العالمية كمخطوطة غير مكتملة علينا أن نساهم بها.

التحدي الأكبر هو في القدرة على تحويل صدمة التطور إلى مختبر تأويل بحيث يصبح الذكاء الاصطناعي مادةً لسؤال فلسفي، والبيانات الضخمة دافع وجودي، والتحول الرقمي رحلةً إلى الذات، الفكر العربي الذي يتبنى اللااكتمال لا يواكب العصر فقط إنما يسبقه بخطوة لأنه يعرف أن كل تطور علمي وتقني هو في النهاية سؤال بشري قديم جاء بثوب جديد.

العلم والتكنولوجيا الرقمية

العلمُ ليس يقيناً ثابتاً بل رحلةٌ في بحرِ اللامُتوقع. وفلسفةُ اللااكتمال تُعلّمنا أن كلَّ اكتشافٍ علميٍّ ليس نهايةَ الطريق إنما بدايةُ لغزٍ جديد في العقل العربي الذي اعتادَ البحثَ عن اليقين في التراث، ليصبحُ تبنيُ اللااكتمال العلمي ثورةً معرفة تُحرّرُ الفكرَ من ثنائية: إما التبعية العمياء للغرب، أو الإنكفاء على الذات.

نفهمُ الذكاءِ الاصطناعي ليس كبديلٍ عن العقل، انما مرآةٍ تعكسُ حدودَنا المعرفية.

والعبقريةُ العربيةُ الجديدةُ يجب ان تحكم الواقع في استثمارِ الفجوات،

– حيثُ يصبحُ كلُّ عجزٍ تقنيٍّ سؤالًا فلسفياً…

– وكلُّ حدث علميٍّ بوابةً لإبداعٍ غيرِ مسبوق..

– وكلُّ خطأٍ رقميٍّ قصيدةَ تذكّرنا بهشاشتنا..

الفكر العربيُ الحديثُ لا يحتاجُ إلى مزيدٍ من اليقين إنما إلى شجاعةِ الاعترافِ بأنَّ اللااكتمال هو الوقودُ الحقيقيُّ للإبداع. عندما نتعلمُ، حين نرى في التكنولوجيا سؤالاً فلسفياً بدلاً من إجابة، فإننا نولدُ فكرياً من جديد..

نظرية المعرفة

في سياق التجديد، تُعد الحقيقةُ ليست نقطةً نصل إليها انما غيمة متحركة من الاحتمالات.        وفلسفة اللااكتمال هنا تحوّل نظرية المعرفة إلى كائن حي يتنفس الشك وينمو بعدم اليقين. الفكر العربي الذي ظلّ لقرونٍ يبحث عن “الحقيقة المطلقة” في النصوص، يَكتشف اليوم أن النقص هو أعظم اكتشاف معرفي يمكن أن يمتلكه.

كيف يعيد هذا النقص تعريف السؤال المعرفي العربي اليوم؟

– هل بتحرير العقل العربي من ثنائية الشرق/الغرب إلى فضاء معرفي كوني متصل ومتفاعل.

العبقريّة هي أن نجعل اللااكتمال يُضاعف من قوة المعرفة. فكلما اعترفنا بمحدودية معرفتنا، اتسعت مساحة اكتشافنا.                              

نظرية المعرفة العربية لا تُبنى على اليقينيات بل على فن طرح الأسئلة التي تخلق عالمها الخاص، وتعيد انتاج معرفة أكثر تواضعاً، وأكثر جرأة، وأكثر إنسانية.

سلطة العقل وإحكام المنطق

العقلُ ليس إلهاً نعبده، فهو كائن حي عُرضةٌ للزلازل المعرفية. فلسفة اللااكتمال تفجّرُ المقدّس العقلي العربي، لتكشفَ أن كل منطقٍ هو مجرّد شعر مُقنَّع، وكلّ نظامٍ فلسفيٍّ هو محاولةٌ قد تكون يائسة لتجميل الفوضى.   

الفكرُ العربي الحديث، الذي ظلّ يقدّس “العقلانية” كبديلٍ عن الدين، يكتشفُ اليومَ أن اللااكتمالَ هو الدين الجديد، دينُ الشكّ الخلّاق في سياق التفكير .

كيف يُغيّر اللااكتمال قواعد اللعبة؟

– يحوّل “المنطق” من سجنٍ إلى لعبةٍ حرّة بقواعد متغيرة

– يجعل “العقلانية” مجرّد لهجةٍ من لهجات التفكير، وليست اللهجة الوحيدة

– يحرّر “الحقيقة” من قبضة البرهان، لتصبح أداءً وجودياً لا نتيجةً نهائية

المفارقةُ أن اعترافَ العقلِ بحدوده هو ذروةُ عقلانيته، فالعبقريةُ العربيةُ الجديدةُ تكمنُ في تدميرِ أصنامِ المنطق، ليس لرفضِ العقل، بل لخلقِ عقلٍ أكثرَ جرأةٍ- عقلٍ يلعَبُ بالمنطقِ بدلَ أن يستعبده.

بناء الفكرُ العربيُ الحديث لا يحتاجُ إلى مزيدٍ من إحكام المنطق إنما إلى شجاعةِ الاعترافِ بأنَّ أعظمَ الأفكارِ وُلِدَتْ من رحمِ التناقضِ واللامعقول. واللااكتمالُ هنا ليس نقيضَ العقل، بل هو العقلُ نفسه.

التفكير النقدي

النقدُ ليس تفكيكاً للأفكار بل تحريراً للتفكير من سجن الكمال… اللااكتمال هنا لا يضعف النقد بل يحوّله إلى فن العيش في المناطق البعيدة حيث تذوب اليقينيات مثل الرمال، تحت أمواج الأسئلة. الفكر العربي الذي ظلّ يحلم بنقد شامل ورؤية متكاملة يكتشف اليوم أن أقوى نقد هو الذي يترك مساحة للفوضى..

كيف يعيد اللااكتمال تعريف النقد العربي؟

– يحوّل “النقد” من حكمٍ نهائي إلى محادثة لا تنتهي .. يجعل الخطأ ليس عيباً بل مادة أولية للإبداع… إن أعمق مستويات النقد هو الذي يوجّه إلى ذاته أولاً، العقل العربي لا يحتاج إلى نقدٍ يقيني، بل إلى نقدٍ يعترف بأنه جزء من المشكلة التي يحاول حلّها.

الفكرة الملهمة

في صميم هذه الرؤية، تتألق (الفكرة الملهمة)، حيث تتجاوز المواطنة العربية أسوار الجغرافيا لتصير عهداً وجودياً ينسج العقول والأرواح العربية في وحدة متسامية. إنها ليست مجرد انتماء لأرض أو حدود، بل التزام عميق بقيم إنسانية يتشابك فيها التراث العربي الأصيل مع نبض الحداثة مع الإرادات المشتركة لفئات المجتمع لتعيش بكرامة وحرية وأمن ومساواة وتكافؤ في الفرص تحت سقف المواطنة، بهوية ديناميكية تتجاوز الزمان والمكان وتستوعب التنوع والتناقضات.

ويتحول (مجتمع المعرفة) إلى فضاء يتشكل فيه الواقع كلوحة ترسم ملامح إنسان جديد، متجذر في أصالته، ومتطلع إلى آفاق المستقبل.

الفكرة الملهمة لا تأتي من فراغ انما ثمرةُ صراع وجود مع التراث والواقع معاً، وفضاء يحتضن التنوع ويضيء الطريق أمام فكرٍ عربيٍّ يمتلك الشجاعة لإعادة اختراع ماضيه. ويخلق إرادات مشتركة بين الفئات في حاضره المشتت.

الايمان ومنظومة القيم في مشروع التجديد

الإيمان في العقل العربي ليس مجرد عقيدة بل بنيةٌ وجوديةٌ تُشكِّل رؤيته للعالم وتُحدِّد علاقته بالوجود. لكنّ الفكر العربي واجه إشكاليةً جذرية: كيف يحافظ على القيم الروحية كمرتكزٍ ثابت، وفي الوقت نفسه يتفاعل مع تحولات العصر دون جمود؟ 

منظومة القيم ليست إرثاً جامداً، بل حواراً مستمراً بين المطلق والنسبي. فالقيم الأصيلة لا تُورَث بل تُخترع مضمامينها يومياً عبر الممارسة النقدية. الخطر ليس في تحديث القيم، بل في اختزالها إلى شعارات ونصوصٍ مُقدَّسة بلا سياق، والتحدي هو في كيفية تحويل الإيمان من طقسٍ تقليدي إلى فعلٍ تحرُّري، ومن خطابٍ سلطة إلى تجربةٍ وجود عام، حينها يصبح الإيمان والقيم أدوات بناء لا قيود، تُنتج فكراً عربياً يجمع بين الأصالة والانفتاح، وبين العمق والحيوية. 

فالإيمان الذي لا يتجدّدُ يصبحُ أسطورةً، والقيمُ التي لا تتنفّسُ تتحوّلُ إلى متحف. الفكر العربي الحديث الذي نسعى اليه يحتاج إلى روحٍ تقرأ التراثَ بعينٍ معاصرة، وتقرأ العصرَ بعينٍ تراثية.

الفلسفة في مشروع التجديد

الفلسفة في سياق بناء الفكر العربي الحديث: ببساطة هي هدم السُّلُطات الفكرية الجامدة وإعادة تشكيل العقل النقدي، الفلسفة ليست ترف فكري، بل هي الجرأة على تفكيك المُسَلَّمات التي تحوَّلت إلى سجون للوعي. وفي الفضاء العربي، حيث تتصارع الخطابات الدينية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية على احتكار الحقيقة، تظهر الفلسفة كفعل “تحرير” يجعل من السؤال ذاته سلاحاً ضد الجمود الفكري. 

الفكر العربي، الذي عانى من ثنائية التبعية للغرب أو  الانكفاء على التراث، يحتاج اليوم إلى الفلسفة لا كمنهج أكاديمي محصور في زاوية من اي جامعة، بل ممارسة يومية تُعيد تعريف العلاقة بين الذات والعالم. الفلسفة ليست إجابات بل إعادة صياغة دائمة للأسئلة، خاصة تلك التي يُفترض أنها حُسمت. 

ومشكلة الفلسفة تكمن في تحوُّلها إلى خطاب نخبة منفصل عن هموم الحاضر المتعددة مثلما هو حاصل الان. لذلك، فإن التحدي الحقيقي هو جعلها أداةً شعبيةً للنقد والبناء، قادرةً على تحويل التنظير إلى ممارسة تغيّر الواقع. فالفلسفة في الفكر العربي ليست تخصصاً بل موقفاً وجودياً: رفضٌ للبديهيات، وبحثٌ دؤوب عن معنى ومحتوى في عصرٍ يزداد تعقيداً.

مفاهيم فلسفية في مشروع التجديد

اللايقين الإبداعي: هو بمثابة (الفوضى الخلّاقة) في بناء الفكر العربي الحديث.. فهو ليس مجرد غيابٍ للمعيار بل هو المادة الخام للإبداع الفكري، حين يتحول الارتباك إلى منهج، والتساؤل إلى أرضية صلبة. الفكر العربي الحديث، الذي ظلّ لقرونٍ يحتمي بثوابت الماضي ويخاف من ضياع اليقين، يكتشف اليوم أن أعظم يقينٍ هو قبول اللايقين، لكن هذا القبول ليس استسلاماً انما هو مغامرة وجودية تخلق من السؤال ذاته إجابة، ومن التشكيك بناء.

العبقرية الحقيقية ليست في تقديم أجوبة جاهزة بل في القدرة على العيش في منطقة الغموض، وهنا يتحول اللايقين من تهديد إلى فضاء للاحتمالات اللامتناهية، حيث يصبح كل سؤال بوابةً لمتاهةٍ قد تكون جميلة، وكل شكٍّ خطوةً نحو اكتشافٍ جديد. الفكر العربي الذي يخشى اللايقين هو فكرٌ يموت ببطء، أما الذي يحتضن اللايقين فهو فكرٌ يولد كل يوم من جديد

التحدي الحقيقي هو تحويل اللايقين إلى طاقة إبداعية تمسك بالمتناقضات دون أن تسحقها، وتسبح في المجهول دون أن تغرق. حينها فقط يصبح الفكر العربي الحديث كائناً حياً قادراً على التنفس في عصرٍ لا يعرف إلا المتغيرات، ويتحوّل اللايقين من عائقٍ إلى محرّك، ومن نقصٍ إلى اكتمال غريب: ففي الفكر كما في الحياة، أحياناً يكون الضياع هو الطريق الوحيد نحو الاكتشاف.

مفهوم اللاسياسة

اللاسياسة: هي الفضاء المسكوت عنه في تشكيل الوعي العربي الحديث، واللاسياسة ليست غياباً للسياسة، بل هي ما يتشكّل في الفراغ الذي تخلقه السياسة نفسها حين تُختزل إلى سلطةٍ أو هيمنة فرد او عائلة أو أيديولوجيا. الفكر العربي الذي ظلّ لزمنٍ طويل أسير الثنائيات الحادّة (الدولة/المجتمع، الدين/العلمانية، التقليد/الحداثة)، يحتاج اليوم إلى استكشاف المنطقة اللامرئية لتُبنى الهُويّات خارج خطاب السلطة، وحيث تُمارس الحياة اليومية كشكلٍ من أشكال المقاومة الصامتة.

اللاسياسة ليست استقالةً من الوظيفة والفعل السياسي، انما هي سياسة من نوع آخر لا تُعلن عن نفسها انما ممارسة فن العيش في الهوامش، وإنتاج المعنى خارج الأطر الجاهزة والخطابات الفارغة.

في الثقافة العربية، تحوّلت السياسة للأسف إلى خطابٍ تبجيل ونفخ في القربة الفارغة أو عملية تشهير لإسقاط القدوة، مقابل صنع التفاهة وتعظيم جيش التافهين… وابتعدت عن ان تصبح ملاذاً للتفكير الحر،  ومساحةً تُولد فيها الأسئلة وتتخذ القرارات قبل أن تتحوّل إلى شعارات وخطب ملّ منها الزمن. 

بهذا فإن العقل العربي سوف يكتشف أن ما يُسمّى “لاسياسة” هو في الحقيقة قلب السياسة من الداخل،  ليس رفضاً للسلطة، بل اختراعاً لعلاقةٍ جديدةٍ معها، حيث يصبح الوعي الفردي والجماعي قادراً على إعادة صياغة ذاته، دون وصاية الخطابات الكبرى والشعارات البراقة، عندها تتحول اللا السياسة من مفهوم سلبي إلى اداة للتحرر. ففي اللامفكّر فيه سياسياً، تكمن إمكانيةُ فكرٍ عربيٍّ جديدٍ لا يخشى الالتباس، ولا يخون تعقيدَ الواقع.

التفكير الشبكي

التفكير الشبكي: هو بمثابة النسيج الخفي لإعادة تشكيل الفكر العربي الحديث، الذي هو ليس بحاجة إلى خطوط مستقيمة تمتد من الماضي إلى المستقبل، بل إلى عقد معرفية متشابكة تلتقي عندها الحكمة التراثية مع أسئلة العصر في نقاط غير متوقعة. التفكير الشبكي هنا ليس مجرد تشبيك رقمي بل هو ثورة ابستمولوجية في كيفية فهمنا للتراث والتحديات. في هذا السياق يصبح ابن خلدون مثلاً جاراً لفوكو في عقدة فلسفية واحدة،

ويتحاور المتنبي مع أدونيس عبر عقدة شعرية أخرى. هذه الروابط غير الخطية تكشف عن مسارات فكرية كانت مستحيلة في المنطق التسلسلي التقليدي.. الخطر يكمن في تحول هذه الشبكة إلى تشعبات بما تفقد ان يجد مركز الثقل الفكري. وهنا تظهر عبقرية العقل العربي الحديث وقدرته على إدارة التعقيد دون أن يفقد بوصلته الأخلاقية، وفي بنائه جسوراً انتقائية بين العقد المعرفية دون أن يقع في فخ التلفيق.

التفكير الشبكي يحررنا من وهم الولاءات الفكرية الأحادية، وهو ما يجعل الفكر العربي الحديث كائناً عضوياً ينمو دون أن يفقد جذوره.

 التفكير الدائري والزمن المتعدد

التفكير الدائري ليس عودة ساذجة إلى الماضي بل هو وعيٌ بأن كل تقدُّمٍ هو حوارٌ مع ما سبق، وأن كل مستقبلٍ يحمل في أحشائه أصداء لم يُفكَّر فيها بعد. الفكر العربي، إذا تحرر من وَهْم الزمن الخطي، ذلك النموذج المستورد الذي يقسّم الوجود إلى قديم و حديث ومعاصر سيكتشف أن الزمن متعددٌ، كطبقاتٍ جيولوجيةٍ تتعايش في لحظةٍ واحدة، أي تصوير إن الماضي والحاضر والمستقبل قصة مستمرة نعيشها . 

المشكلة تكمن ليست في العودة إلى التراث بل في كيفية العودة: هل نستدعيه كشاهدٍ على عظمةٍ غائبة، أم مُحاورٍ حيٍّ قادرٍ على إضاءة أسئلتنا الراهنة؟ التفكير الدائري الحقيقي هو حركة لولبية، تصعدُ بالماضي إلى أفقٍ جديد، لا تكرارٌ مسطَّحٌ يُحوِّل التراثَ إلى نُصبٍ تذكاري. 

 الفكر العربي الحديث، إذا أراد أن يتحرر من ثنائية التقديس/ التبخيس، عليه أن يعيد اختراع زمنه: زمنٍ تتقاطع فيه كل الأزمنة، بما يحوِّل التراث من القبور إلى فضاءٍ الولادة المستمرة، حيث يصبح الفكرُ العربي قادراً على استيعاب تناقضاته دون أن ينفجر، والسير إلى الأمام دون أن ينقطع عن جذوره.

الجسد المفكر والوجود المشترك

مفهوما الجسد المُفكِّر والوجود المشترك: يمثلان أنطولوجيا التَّحوُّل في الفكر العربي الحديث. ليس الجسدُ وعاءً للفكر فقط انما هو الفكر نفسُه في حالِ تجسُّده، وفي الثقافة العربية، حيثُ طُوِّقَ الجسدُ بين خطاب دينيٍّ أخلاقي وخطابٍ حداثي تحرُّري، يظهر “الجسد

المُفكِّر” بمثابة كينونةٍ ترفضُ أن تكونَ مجردَ موضوعٍ للنقاش، بل تُصبحُ فاعلًا في تشكيل الوعي. هذا الجسدُ ليس بيولوجياً فحسب بل جسدٌ لغويٌّ، تاريخيٌّ، سياسيٌّ وثقافي، حاملٌ لأسئلة الهُويَّة والعنف والتحرُّر. 

أما الوجودُ المشترك، فهو التحدّي الأكبر: كيف نُعيد تخيُّلَ “نحن” في فضاءٍ عربيٍ تمزَّقَ بين الفردانيَّة المُفرطة والجماعِيَّة المُختزَلة؟ هنا، يصبحُ الجسدُ المفكِّرُ جسراً بين الذات والآخر، ليس عبرَ التسامح المجرَّد بل عبر الاعتراف بالتَّشارُك الأنطولوجي: اي أنَّ وجودي مُرتهَنٌ بوجودِكَ، وأنَّ جسدي يُفكِّرُ فقط حينَ يُلامسُ جسدَ العالم. 

الفكرُ العربي الحديث، إذا أرادَ الخروجَ من ثنائيَّة التَّقليد والقطيعة، عليه أن يتبنَّى فلسفةَ الجسدِ الحي .. جسدٌ يكتبُ، يثورُ، يتألَّمُ، ويحلمُ. جسدٌ لا ينفصلُ عن العقل بل يُذكِّرهُ دائماً بأنَّ الفكرَ الحقيقيَّ يبدأُ من لَحمِ الواقع لا من فراغِ التجريد

الانزياح الثقافي والاقتصاد الوجودي

في قلب التحولات الجارفة للعالم العربي يطفو سؤال الانزياح الثقافي بوصفه إشكاليةً وجودية قبل أن تكون فكرية: كيف يتحرك الفكر العربي بين الموروث والحداثة دون أن يفقد جوهره أو يقفز فوق هويته؟ فالانزياح هنا ليس مجرد تغيير في المواقف بل هو انزياح وجودي يعيد تشكيل الاقتصاد الرمزي للثقافة العربية، حيث تُستبدل المفاهيم التقليدية بعلاقات جديدة مع الذات والعالم. والانزياح الثقافي تفاوض دائم بين القديم والجديد، بين الديني والعلماني، بين المحلي والعالمي، لكن الخطر يكمن في تحوّله إلى انزياح استهلاكي حيث تُستورد النماذج الغربية كسلع فكرية جاهزة، دون مساءلة سياقاتها الوجودية، وهنا يأتي دور الاقتصاد الوجودي الذي لا يعني فقط الموارد المادية، بل المعنى الذي تُدار به الهوية: كيف ننتج فكراً لا يقتات على الاقتراض والديون والمضاربات بل الاستثمار في عقل الإنسان وقدراته الخارقة وهو أسمى هدف أدركته الأمم الناهضة من تحت الرماد حينما قررت ان تنهض؟ 

السيدات والسادة ؛

في الختام يبقى السؤال الجوهري عن دور الدين في بناء الفكر العربي الحديث، هل هو محرك للفكرة ومصدر للالهام، أم انه يسهم في اسكات الاسئلة التي يجب ان لاتتوقف وقد

تتناول الدين ذاته، وما هو الموقف من اليقينيات الراسخة التي يحاول آلبعض فرضها في غير زمانها ومكانها؟؟ لعل هذا الموضوع بحاجة الى دراسات وابحاث ونقاش يغني المعرفة ويحفّز العقول.

شكراً على اصغائكم، ولنبدأ أعمال المؤتمر، على بركة الله

تقبلوا اطيب التحيات

17 أبريل/ نيسان 2025


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *