وحدة الدراسات الثقافيةيدعوكم #المعهد _ العالمي _ للتجديد _ العربي لحضور الندوة الفكرية بعنوان #سؤال _ الانتماء _ ومدلول _ الهوية_ التونسية _ زمن _ الاصطدام _ بالغيرية _ الأوروبية، والتي تعقدها #وحدة _ الدراسات _ الثقافية عبر منصة الزوم. التاريخ: يوم الإثنين 12 يونيو 2023 على الساعة الخامسة مساءً بتوقيت غرينتش. رابط الندوة: https://rb.gy/cx01u
Posted by Global Institute for Arabic Renewal on Monday, June 12, 2023
تقرير ندوة
“سؤال الانتماء ومدلول الهوية التونسية زمن الاصطدام بالغيرية الأوروبية”
قدت وحدة الدراسات الثقافية في المعهد العالمي للتجديد العربي يوم الخميس 12يونيو 2023 ندوة علمية عنوانها: “سؤال الانتماء ومدلول الهوية التونسية زمن الاصطدام بالغيرية الأوروبية”، قدّمها الدكتور عادل النفاتي وهو عضو في المعهد، وباحث في التاريخ الثقافي المغاربي والمتوسطي، وعقّب على المداخلة كل من الدكتور لطفي عيسى وهو أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، اختصاص تاريخ ثقافي، و الدكتور رياض بن خليفة، وهو أستاذ محاضر بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، اختصاص تاريخ معاصر؛ وقد تولى إدارة الندوة الدكتور محمد فارضي عضو المعهد، وأستاذ التعليم العالي في جامعة الحسن الأول– المغرب، الذي ركز في كلمته الافتتاحية على الأهمية التي يكتسيها سؤال الانتماء والهوية في ظل التحولات والتحديات التي تواجه العالم العربي في الراهن المعولم والمرقمن قبل أن يفسح المجال للدكتور النفاتي ليقدم مداخلته.
استهل الدكتور النفاتي مداخلته بالحديث عن حضور السؤال الهوياتي في حياة الشعوب والثقافات قديماً وحديثاً، مؤكداً أن موضوع الهوية قد يخفت توهجه أحيانا لكنه سرعان ما ينتشي في أوقات الصراعات والأزمات بين الغيريات المختلفة، أو في حالة ظهور مستجدات تراها الجماعات مهددة لكينونتها، لتسارع إلى استحضار سرديات هوياتية حفاظا على خصوصية الذات وتحصينها من التمثلات المشوهة التي يكونها الآخر. ثم عمد الباحث إلى استجلاء مدلول الهوية والانتماء مرتكزا على بعض التعاريف التي صاغها باحثون غربيون وعرب.
بعد هذا التقديم العام لمسألة الهوية في طرحها النظري، انتقل إلى الحديث عن سؤال الهوية التونسية في السياق العام للنصف الثاني من القرن التاسع عشر (زمن الاشتباك مع الآخر الأوربي) مؤكداً أن هذه اللحظة التاريخية تشكل نقطة تحول مفصلية في سؤال الهوية مثلما تبرزه السرديات التي أنتجتها الأقلام التونسية آنئذ حول الذات التونسية وهويتها، وقد استشهد الباحث– في هذا الصدد- بسرديتين:
- كتاب سليمان الحرايري مع فتاويه لأبي القاسم محمد كرو.
- كتاب الرحلة الحجازية لمحمد السنوسي.
لقد حمل هذان المؤلفان أسئلة الهوية من قبيل من نحن؟ من هو آخرنا؟ وكيف تتحدد علاقتنا به راهنا ومستقبلا؟ لكنهما انطويا أيضا على اختلاف في الرؤية ووجهة النظر فيما يخص التعامل مع المسألة الهوياتية، ولئن تضمن كتاب الحرايري رؤية انفتاحية على الآخر بوصفه عنصر إثراء للذات، فقد وقف السنوسي في كتابه موقفاً رافضاً للآخر بدعوى الحفاظ على نقاء الشريعة في كل الأحوال والأمصار. وقد جاء موقف الرفض في سياق مخصوص اتسم بالحضور الاستعماري والخشية من المس بمقومات الهوّية التونسية، وفي سياق متوسطي- عربي وأوروبي– ينزع نحو تمجيد القوميات في مرحلة النضال الوطني ومقاومة الاستعمار. وقد أكد الباحث– في الأخير- أن جدل الهوية لم ينته وعاود الظهور من جديد بعد منعرج 14 يناير/ كانون الثاني 2011 في سياقات جديدة منفلتة وظهرت مواقف متباينة تم تصنيفها بين الحداثية والمحافظة.
أما الدكتور لطفي عيسى، فقد نوه في بداية كلمته التعقيبية بالقيمة الاعتبارية للمنجز البحثي الذي قام به الدكتور النفاتي، مشيراً إلى جملة من النقاط التي أثارتها المداخلة، تتعلق النقطة الأولى بإعادة تعريف لفظة الأزمة، بالتركيز على فكرة “الانتقال” التي يتضمنها هذا المفهوم ، أما النقطة الثانية فتتعلق بالعلاقة بين السرد والثقافة، والتداخل الاشكالي بين السردي والمعرفي، أما النقطة الثالثة فتتعلق بضرورة التفريق بين السياق التاريخي للقرن السادس عشر الذي يشكل زمن أزمة والسياق التاريخي للقرن التاسع عشر الذي هو مرحلة انتقالية على عكس ما روج له الاستشراق.
وقد ابتدأ الدكتور رياض كلمته التعقيبية من حيث انتهى الدكتور عيسى مشدداً على ضرورة الانتباه إلى السياق الذي تنتج ضمنه السردية الهوياتية بكل ما يحمله من تغيرات في الرؤى والمواقف، ملفتاً الانتباه إلى أهمية رصد تمثلات الهوية وتغيرها من خلال تبني النظرة من أسفل التي تهتم بالعامة وعدم الاكتفاء بما تكتبه النخبة، ثم قدم الباحث بعض الأمثلة حول مسألة تمثل الآخر في سياق الهجرة مشيراً إلى جملة من المفاهيم التي ترتبط بهذه المسألة كالاندماج ، الانصهار…
وحدة الدراسات الثقافية
تحميل التقرير
مداخلة الدكتور عادل النفاتي
“سؤال الانتماء ومدلول الهوية التونسية زمن الاصطدام بالغيرية الأوروبية“
- باحث في التاريخ الثقافي المغاربي والمتوسطي
- حاصل على شهادة الدكتوراه من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس
يعاود سؤال الهوية في الظهور من حين إلى آخر، راهنا أو قديما، وكأنه سؤال محوري ووجودي يلازم كل الشعوب والثقافات. فجميع الحضارات تبني لنفسها هويات وذاتيات تحصنها بتمثلات ورؤى حول نفسها وحول الهويات الأخرى المجاورة في إطار الدفاع عن الذاتية ولحماية هويتها من الشوائب والمؤثرات التي قد تهدّد الكيان الثقافي للجماعة. من جهتنا عملنا على إعادة النظر في مشكل الهوية التونسية كما تم تمثلها من قبل كتّاب تونسيين كانوا قد سلكوا مسارات معرفية ومهنية مختلفة ما انتج رؤى متباينة حول الهوية والانتماء في سياقات خارجية متصلة بتحوّلات القرن التاسع عشر في المتوسط والعالم، الذي شهد تباينات كبرى في تغير المعادلة بين ثقافات المتوسط، بين ثقافة صاعدة ومتمدّدة وأخرى منكسرة وباحثة عن حلول للنهوض.
نتناول في محاضرتنا في البداية تعريفا لمفهوم الهوية وسياقات تركيبها، ثم نمر إلى دراسة تصوّر يرى في ضرورة انفتاح الهوية التونسية على الهويات المجاورة كسبيل للنهوض والنجاة، ثم الوقوف عند تصور مناهض لفكرة التعامل مع القوى الاستعمارية كقوى احتلت الأرض وتطمح لفرض نمطها الثقافي وطمس الهوية المحلية.
*في مدلول الهوية والانتماء
بداية يبدو من الجدير التذكير بمفهومي الهوية والانتماء، فالهوية وفق أغلب التعريفات تحيل على خاصية المطابقة، أي خاصية المطابقة الشيء لنفسه أو مطابقته لمثيله، وهي الصورة المثالية التي تكونها جماعة بشرية ما عن نفسها وعن تاريخها بالنسبة إلى جماعات أخرى. فتتضمن هذه الصورة بالضرورة فكرة المقارنة بالآخر وإثبات الاختلاف والتمايز معه. أمّا مصطلح الانتماء فهو يشدّد على حضور مجموعة متكاملة من الأفكار والقيم والأعراف والتقاليد المتغلغلة في أعماق الفرد، يحيا بها وتحيا به حتى تتحول إلى وجود غير محسوس. بحيث يشكل الانتماء جذر الهويّة وعصب الكينونة الاجتماعية، ويحيل أيضا على مجموعة الروابط التي تشد الفرد إلى جماعة أو عقيدة أو فلسفة معينة.
وبمزيد النظر في التعريفات المتداولة في مفهوم الهوية كمفهوم رجراج أثار شهية الدرس عند عديد الباحثين وبشتى اللغات، فإننا نورد النقاط الثلاث حول هذا المفهوم:
النقطة الأولى تتمركز حول تعريف الهوية في حالتها الساكنة أي المكونات الأساسية للهوية وعناصرها ونميل هنا إلى تعريف السوسيولوجي البولوني أوليجيارد كوتي Olgierd Kuty الذي شدّد على حصيلة التكوين الثقافي في إطار جماعة بشرية معلومة ذات مشتركات فيما بينها كانت قد تشكّلت عبر أزمنة ممتدة. فهي الشعور المركزي والضروري المتصل بالأنا كوحدة شعورية تدرك نفسها بنفسها. فلا تستمد وجودها من حاضرها وحسب بل هي عصارة الماضي في انساقه وأفعاله وصوره، فهي ميراث الماضي. فالهوية من هذا المنظور هي تكوين تاريخي لوعي الذات ووجودها يتألف من خصوصية الفرد وانتماء الجماعة عبر حواضن اللغة والدين والعرق والوطن والأمة والتاريخ، كمكونات أساسية ومحددة لكل هوية في خطها المتحرك عبر التاريخ.
النقطة الثانية فإن حديث الهوية يستدعي بالضرورة وجود طرفين هما الأنا والآخر كطرف مختلف عن ذات الأنا، فهذه الثنائية هي أحد محركات الهوية في منظور اللغوي والكاتب الفرنسي باتريك شارودو Patrick Charaudeau الذي عكف بدوره على دراسة مفهوم الهوية كما تم تبينه في مؤلف رسائل فارسية lettres persanes الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو في سياق تاريخي جديد أصبح فيه الشرق يحتل ركنا محوريا في تمثلات الأوروبيين لبقية الثقافات الأخرى التي قاسمتها الفضاء المتوسطي. حينها اتخذ العالم الشرقي صورته الثابتة في المخيال الجماعي الغربي وكانت مبنية على ثنائية الانجذاب والرفض.
الانجذاب: يولد الانجذاب نتيجة الشعور بالانبهار والاندهاش الغربي بالنمط الفارسي الذي رأى فيه مونتسكيو الصورة الجوهرية للذات الشرقية، دافعا الفيلسوف الفرنسي إلى طرح التساؤل التالي: كيف تكون مختلفا عني؟ ولقد خلص فيلسوف زمن الأنوار الفرنسي في نهاية روايته إلى أن الاختلاف بين الشرق والغرب هو دلالة على أن الأنا الأوروبية غير مكتملة وليست هي المثلى. ولقد ولّد هذا الاستنتاج في الذات الغربية تفاعلات شعورية مربكة أحالت على الإحساس بالدونية وبرغبة قوية لمحاولة فهم الآخر المختلف، ليس من وجهة نظر معرفية تقوم على أسس وبراهين منطقية وعقلية كما بشرت بذلك النهضة الأوروبية، وإنما وضع صورة في المخيال الجماعي جملة من التمثلات المتناغمة والمتماسكة لأجل استيعاب الآخر والسيطرة عليه.
الرفض: يولد الاختلاف في منظور الدارس أو المتابع للآخر شعورا بالتهديد، ويتكون لديه إحساسا بتفوق الآخر، ما يطرأ عنه التساؤل التالي: مَن الجدير بالبقاء؟ يحيلنا هذا السؤال على نمط تفكير يجتهد في وضع صورة تحقيرية للآخر، ورفض قيمه ومعايره التي هي بالضرورة مخالفة للقيم الغربية. وتسهم الأدبيات وكل أشكال التعبير المتاحة في نشر تلك الصورة الذهنية لتتحول إلى تمثل نمطي un stéréotype يتم استيعابه من قبل النخب السياسية والثقافية ويرتقي إلى مرتبة الضرورة في المجتمعات بداعي توفير الحماية والمناعة ضد الآخر المختلف الذي يشكل خطرا باختلافه.
وقد خلص الفيلسوف الفرنسي باتريك شارودو في نهاية تحليله لصورة الفرس أو الشرق بصفة عامة في ذهن مونتسكيو أن الاختلافات التي يصوغها المتخيل الجماعي إزاء الآخر المختلف هي في الواقع أساس الهوية الغربية، لذلك فإن وجود الآخر هو ضروري لفهم أوروبا علة وجودها محذرا من الوقوع في حبائل الرغبة الإقصائية للذات المخالفة أو السعي إلى تدجينها وجعلها مشابهة لها.
وفي القسم الثالث والأخير من تتبعنا لملمح الهوية والانتماء نورد أهم ما توصل إليه الروائي اللبناني الأصل أمين معلوف الذي قضى مدة زمنية طويلة في المهجر بفرنسا وتناول موضوع الهوية في روايتين مشهورتين حققتا انتشارا واسعا في صفوف القراء وترجمتا إلى عديد اللغات وهما: رواية “ليون الافريقي” و” الهويات القاتلة”. حيث أكد في النصين المذكورين على غياب هوية منغلقة في الزمن الراهن، ودعا إلى ضرورة انفتاح الهوية على الهويات الأخرى حتى وإن كانت مخالفة لها، وفي انغلاقها سبب اختناقها وهلاكها. وعليه فإن الهوية ليست مفهوما جامدا غير متحرك، بل على العكس فهي متبدلة ومتطوّرة وتحتكم لسنن التاريخ وأحداثه، وأيضا بتطوّر حركات الهجرة وتنقل المجموعات البشرية بين الفضاءات، ما يجعل من الصعب التصديق بوجود هويات نقية لم تختلط بهويات أخرى.
ما يمكن استنتاجه في نهاية هذه العروض حول أساسيات موضوع الهوية والانتماء نقول أن زمن الحديث عن الهوية والانتباه إليه هو ليس بزمن عادي بل هو زمن أزمة، ففي أوقات الأزمات والصدامات ينتشي حديث الهوية وفق ما ذهب إليه المفكر المغربي سعيد بنسعيد العلوي، حيث تسعى الهويات المهددة نحو التقوقع على الذات وسلك كل السبل والطرق لتوفير الحماية والحواجز أمام تقدم الآخر القوي والمتطلع إلى الهيمنة واحتواء من هم دونه تقنيا وحضاريا. وهي سياقات شبيهة لما حدث في متوسط القرن التاسع عشر التي مثلت لحظة مفصلية ترتب عنها رغبة عربية قوية لاستكشاف آخرها الغربي من جديد، وأيضا عود على استحضار حديث الهوية والتذكير بمقوماته الصلبة خشية ضياعها في سياقات التمدّد الغربي محتف بإنجازاته العلمية والتقنية والاقتصادية.
*مملكة تونس في القرن التاسع عشر: زمن الاشتباك مع أوروبا واستحضار حديث الهوية والانتماء
بعد أن وضعنا تقديما عاما لمسألة الهوية في طرحها النظري، نتجه الآن إلى محاولة وضع تلك المفاهيم في الإطار التونسي خلال القرن التاسع عشر عندما تكثّف الوصال مع العالم الغربي وسمح الحديث عنه بتسرب حديث الهوية في كتابات مجموعة من كتّاب الأدب والصحافة ونصوص الرحلة التونسية. لذا ننشد في مداخلتنا هذه الحديث عن تنوّع السرديات التي أنتجتها الأقلام التونسية حول الذاتية التونسية وهويتها، لحظة انتقال عدد من مبعوثيها إلى أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فقد مثلت تلك اللحظة نقطة تحوّل مفصلية في تأملات تونسية في مشغل الهوية أو بالأحرى أعراض “قلق الهويّة”، فقبل ذلك الموعد أي قبل اللقاء “المستفز” مع الآخر الأوروبي كانت مسألة الهوية تقريبا محسومة لا تستدعي مراجعات كبرى أو الوقوف عندها بعد أن تحدد في الثقافة الشرقية كما في الغربية فصل العالم إلى قسمين من منظور عقدي “بلاد الكفر” و”بلاد الايمان”.
نعود للحديث عن سياق طرح هذه الأسئلة على اعتبار قناعتنا بأهميته في توجيه الخطاب وتركيبه، فالسياق الشرقي هو زمن تراجع حضاري كبير وغير مسبوق في التاريخ العربي، اتسم بضعفه العسكري والتقني ومن قبلهما المعرفي، علاوة على محافظة البلاطات العربية على طرق تسيير لم تتغير مرجعياتها وغاياتها منذ قرون. فقد كانت المجتمعات راكدة وخارج سياق التاريخ في كل المستويات الحضارية، بعكس المملكات الأوروبية الغربية التي شهدت تحوّلات كبرى شملت السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتقني والمعرفي والفكري. لقد ولجت أوروبا حينها عالما جديدا يحتكم إلى البرهان والعقل والمعرفة، ويستبعد تدخل المقدس في نظام الطبيعة وحياة الانسان، ويرى أن الطريق إلى العلم والحداثة يوازي الطريق إلى الله ولا يتقاطع معه على حد تعبير الجابري. ولقد حمل نفس السياق ضمن جغرافية المتوسط تصاعد وتيرة التواصل بين ضفتيه وتكثفه، واتساع حركة المثاقفة بين عالمين تواضعا على اختلافهما الثقافي. فقد سهّل التطور التقني الذي شمل وسائل النقل من انتقال سلس للأفكار والعادات من أوروبا صوب المملكة التونسية. فأثار ذلك الانتقال عدة ردود أفعال بين مرحبة ورافضة أو محترزة، فقد تحدث الشيخ محمد السنوسي في مؤلفه الرحلة الحجازية عن حيرة الفقهاء والعلماء من ولوج عادات أوروبية إلى المجتمع التونسي كمطالعة الصحف وحضور العروض المسرحية وإجهاض النساء لدواعي صحية أو غيرها، وارتياد المقاهي ولعب الورق وتدخين السجائر والتكروري (نبتة مخدرة)، وتناول المسكرات وشرب القهوة والمشروبات الغزية وغيرها.
شجعت هذه السياقات على ازدهار “صناعة الفتوى”، فقد مثل البحث في المسائل الفقهية واستصدار الفتاوى بين علماء تونس وشيوخها على أيام السنوسي ومن بعده أمرا مبذولا، وذلك نتيجة تزايد الطلب عليها، في ظل الغموض الذي اكتنف موقف الشرع من عدة مسائل مستحدثة. حينئذ مثلت الفتاوى ملجأ التونسيين لتأكيد مستويات الانتماء الى البيئة الاسلامية وتسهم بنفس القدر في ضمان استدامة الحيوية التشريعية للمجتمعات الدائنة بالإسلام لما تنجزه من مؤالفة بين اشتراطات الحياة الاجتماعية المتحركة ومقتضيات التطابق الاسلامي. إذا فقد أحال السياق الجديد المبني على الاتصال الوثيق بين مملكة تونس والعالم الغربي على استفزاز سؤال الهوية والذي اختلفت الإجابات من حوله، لذا قد رمنا الوقوف عند سرديتين دونتا تقريبا في نفس الفترة الزمنية، الأولى كتاب سليمان الحرايري مع فتاويه لأبي القاسم محمد كرو، والثانية كتاب الرحلة الحجازية لمحمد السنوسي. حمل هذان المؤلفان أسئلة الهوية من قبيل من نحن؟ من هو آخرنا؟ وكيف تتحدد علاقتنا به راهنا ومستقبلا؟
لقد طرحت هذه الأسئلة من خلال اختلاف وجهات النظر والتأويل بين سليمان الحرايري ومحمد السنوسي حول حليّة مسائل تتعلق بالمعيش اليومي للمسلمين، تتعلق بالملبس والأكل. بمعنى هل يجوز للمسلم وهو في أوروبا وضع القبعة الافرنجية عوض العمامة، كلباس تميز به المسلمين عن بقية الشعوب الأخرى؟ وما هو حكم الشرع في تناول الأطعمة الأوروبية خاصة منها تلك المتكونة من اللحوم؟
*الانفتاح على الآخر المخالف هو إثراء للهوية
قبل استعراض موقف الحرايري لابد من استحضار تعريف هذه الشخصية ومساراتها العلمية والمهنية حتى نفهم كيفية تشكل رؤيته للمسائل المختلف من حولها. ولد سليمان الحرايري بمدينة تونس سنة 1824 وتعلم بجامع الزيتونة، ثم انتدب لتدريس المواد العلمية بنفس المؤسسة، وعرف عنه سعة اطلاعه على اللغة الفرنسية، ما أهّله أن يكون مترجما لدى القنصلية الفرنسية بتونس من سنة 1845 إلى سنة 1856، والتعامل مع الأب فرنسوا بورقاد François Bourgade، ثم انتقل لاحقا للعيش في باريس حيث عمل في خطة رئيس تحرير صحبة المصلح اللبناني رشيد الدحداح لمجلة “برجيس بريس” الناطقة باللغة العربية والمتضمنة للأفكار الاصلاحية والحداثية للكتاب العرب المتواجدين في فرنسا، والمنافسة لصحيفة الجوائب التركية في اسطنبول والتي كانت تحت اشراف احمد فارس الشدياق والمدافعة عن توجهات الباب العالي، وصحيفة الوقائع المصرية لسان الحكومة المصرية.
تمكن الحرايري بفضل مقامه في باريس من الاطلاع على أفكار فلاسفة الأنوار ومخرجات الثورة الفرنسية ومن أهمها تراجع الديني المحافظ في ترتيب شؤون الفرنسيين وتدبيرها، والتشبع بمبادئ وثيقة حقوق الانسان والمواطنة. إذا ستحدد هذه المسارات المميزة أراء الحرايري ومواقفه من لبس البرنيطة أو أكل اللحوم المذبوحة على الطريقة المسيحية وفق ما صرح به في فتوة موسومة ب”أجوبة الحيارى عن قلنسوة النصارى” وفتوة “أجوبة الحيارى في إباحة مطلق ذكاة النصارى”. فتعاطفا منه مع معاناة الطلبة والوفود ا والتجار المسلمين الذين حلوا بالديار الأوروبية، ولقناعته لتغير السياقات أباح الكاتب بارتداء اللباس الافرنجي بما في ذلك البرنيطة وكذلك تناول اللحوم الأوروبية. بل تجاوز مجرد النظر في تلك المسائل التي عدها بسيطة، إذ حضّ في مؤلفه الإرشاد على التساهل مع المحدثات الطارئة، عاملا على تنسيب مسألة الاختلاف الثقافي وما يثيره من عوائق اتصالية بين المجتمعات ويحد من درجة المثاقفة والاثراء الحضاري. وقد كان الكاتب واعيا بخطورة ما أقدم عليه، ما دعاه إلى اصدار فتاوى ومواقف مستندة إلى مرجعيات اسلامية معروفة.
عمل الحرايري في مواضع أخرى من مؤلفه الإرشاد على تشخيص علل المجتمع التونسي والمسلمين عموما، فبدت لغتهم أي العربية عاجزة وعقيمة عن نقل المعارف والعلوم الأوروبية، فارتأى ضرورة الإقبال على تدريس اللغة الفرنسية حتى تنفتح أعين العرب على مجالات علمية رحبة وعلى العلوم العصرية. ودعا كذلك إلى النظر في التشريعات الغربية ومقاصدها السامية في نشر قيم العدل والحرية والمساواة. فمن وجهة نظر الكاتب فإنه لم يعد مجديا مواصلة النظر إلى الاختلاف الديني وفق نظرية هرمية للديانات، بل بات من الضروري اعتماد نظرة مغايرة في علاقة الشعوب والأديان ببعضها البعض، لأن الصراع الديني لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن مآلات الهويات المغلقة الاندثار.
*الانفتاح على الآخر يهدد نقاء الهوية
في الجهة المقابلة وبالعودة إلى محمد السنوسي، فقد ولد الكاتب بمدينة تونس سنة 1851 وزاول تعلمه ثم التدريس بجامع الزيتونة، ثم عُيّن كاتبا أول لجمعية الاوقاف، وصحافيا في جريدة الرائد التونسي. وعلى أثر فرض الحماية الفرنسية على تونس عمل السنوسي على مغادرة المملكة بداعي أداء فريضة الحج، وساقه سيره للمرور بإيطاليا وتركيا والوصول إلى الحجاز، وكان قد لخص رحلته في كتابه الرحلة الحجازية. وعند عودته إلى الديار كان للرجل نشاطا ثقافيا ووطنيا حثيثا في إطار مقاومة الاستعمار الثقافي الفرنسي بعد فشل المقاومة المسلحة في دواخل البلاد، فانخرط مع جماعة العروة الوثقى وكان ضمن المشاركين فيما عرف بالنازلة التونسية وقد كلفه كل ذلك النفي إلى الجنوب التونسي.
يحيلنا المسار التعليمي والمهني والنضالي لمحمد السنوسي عل مواقفه المتهيبة والمتوجسة تجاه العادات الأوروبية الوافدة على المجتمع التونسي، شاجبا عدم اكتراث المسلمين الذين استقروا بأوروبا بتطبيقها. فقد تعرض السنوسي إلى مسألة وضع البرنيطة من خلال استحضاره للقائه مع أحد خدمة اسماعيل باشا المصري الذي اختار منفاه في إيطاليا بعد اجباره على اعتزال الحكم سنة 1879، واستحضر في موضع آخر من مؤلفه الرحلة الحجازية مسألة ذكاة النصارى مستندا في ذلك إلى رسالة أحمد باي سنة 1846 إلى المفتي الحنفي بيرم الرابع، طالبا رأيه في ذكاة النصارى قبل سفره إلى فرنسا، واللافت أن موضوع تلك الرسالة لم نجد أثره في مؤلف الاتحاف لابن أبي ضياف الكاتب الخاص ورفيق أحمد في سفره إلى باريس. اجتهد السنوسي في وضع فتاوي تخص الموضوعين وتوصل إلى تحريمهما بداعي الحفاظ على نقاء الشريعة في كل الأحوال والأمصار. ولم يكن ما توصل إليه السنوسي بغريب في عصره وبمجتمعه فقد كان طيف اجتماعي كبير من التونسيين، كان رافضا أو متهيبا من غزو الثقافة الغربية في سياق تاريخي مخصوص اتسم بالحضور الاستعماري والخشية من المس بمقومات الهوّية التونسية، وفي سياق متوسطي -عربي وأوروبي – ينزع نحو تمجيد القوميات. وعليه فإن النخب التونسية كانت تدفع نحو هذا الاتجاه في إطار المحافظة على ذاتيتها وفق ما كانت تتمثله. ولكن اللافت في مواقف السنوسي أنه تشدّد مع اتيان تلك المحرمات وفق رأيه من قبل المسلمين في أوروبا والحال نفس الظواهر وغيرها قد بدأت تتفشى في المجتمع التونسي منذ بدايات القرن التاسع عشر. فقد أورد عدد من الباحثين توغل الباس الافرنجي في صفوف الجنسيين في صفوف الأتراك بأمر رسمي من قبل السلطان العثماني محمود الثاني سنة 1826 الذي أمر بفرض اللباس الإفرنجي على رجال الدولة والجيش. وذات المشهد نجده في المجتمع التونسي وفق ما ذكره الشيخ محمد بن خوجة صديق محمد السنوسي الذي أشار إلى أمر الباي حسين الثاني بارتداء الزي الأوروبي في صفوف رجال دولته تأسيا بالسلطان العثماني.
يحيلنا التعارض بين موقفي السنوسي والحرايري، على وجود حالة من الارباك تسللت إلى المجتمعات العربية منذ منتصف القرن التاسع نتيجة الخوف من الذوبان في ثقافة الآخر القوي، واللبس الكبير الذي رافق عملية رسم طريق النهوض والخلاص، هل بالعودة إلى التراث؟ أم بالاقتباس من الآخر الأوروبي الذي كان قد صنف منذ قرون ضمن دائرة العدو؟ وكانت المحصلة تركيب خطابات تزعم رغبتها في النهوض والإصلاح ولكنها مستبطنة لتلك السجالات حول الانفتاح على الغرب أو الانكفاء على التراث. استمر ذلك السجال إلى حين بروز خطاب جديد ظهر بأكثر وضوح في منتصف القرن الماضي يتحدث عن التونسة الذي يربط قضية الانتماء إلى فترات ما قبل إسلامية أي العهود البونية والرومانية والبيزنطية ودورها في تشكيل الشخصية التونسية، وبالتالي خفف من اعتبار الأوروبي في مرتبة الآخر المختلف بل أنه جزء من مكونات الشخصية التونسية. وعلى العموم فقد وجدت هذه الرؤى على تنوعها ضمن مضامين برامج الأحزاب السياسية الوطنية زمن الاستعمار وبعده ما يحيلنا على مكانة السياسي في توجيه الخطابات وتوجيهها واستخدامها.
الخاتمة
ما يمكن الاحتفاظ به في نهاية هذه المداخلة أن حديث الهوية كثيرا ما يترافق مع المنعرجات التاريخية المحيلة على زمن الأزمة كما يتم تمثله في الذهنيات، ففي الحالة التونسية انتشر خطاب الهوية والذاتية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر زمن اللقاء المكثف مع الأوروبي المخالف وتزايد التسرب الاقتصادي والثقافي وارتفاع أعداد الجاليات الأوروبية الوافدة إلى المدن والأرياف التونسية. لذلك كان موضوع الهوية التونسية والأخطار المحدقة بها الموضوع الأكثر حضورا في الأدبيات التونسية وأيضا في المقالات الصحفية التي أخذت أعدادها في التزايد منذ نهاية القرن التاسع وحتى في النصوص الشعرية على اختلاف مستوياتها وكذلك في الحكايات الشعبية. ارتكز مدلول الهوية كما اعتمل في وجدان وأذهان التونسيين والذي استمر إلى حدود منتصف القرن العشرين على مقومين رئيسيين هما: الشعور بالانتماء إلى الإسلام والعروبة، حيث شدد علماء الزيتونة وطلبتها خصوصا أثناء حلول الاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية على تلك الثنائية حماية لمقومات هويتهم كما تمثلوها لقرون. ولقد مثل موضوع الحفاظ على الهوية مدخلا أساسيا في برامج الأحزاب السياسية التي وسمت بالوطنية في دغدغة مباشرة لمشاعر صفوف التونسيين وكسب انخراطهم في النضال الوطني. وحتى عند اندحار القوى الاستعمارية عاود موضوع الهوية في الظهور من جديد عند شعور التونسيين بأنهم في مفترق طرق مشروع تأسيس أطر اجتماعية وثقافية جديدة في مشروع الدولة الوطنية والحديثة كما اعتملت في ذهن بورقيبة، وكانت سمات الهوية التي أرادها بورقيبة لأمته تختلف في بعض سماتها مع ما كان قد تحمس له في زمن الاستعمار، الأمر الذي أعاد الجدل في مسألة الهوية. لم ينته جدل الهوية في تونس وعاد للظهور من جديد بعد منعرج 14 جانفي 2011 في سياقات جديدة منفلتة وظهرت مواقف متباينة تم تصنيفها بين الحداثية والمحافظة شهدت خلال تلك الفترة شراسة كبرى في الدفاع كل طرف عن وجهة نظره في سياقات دولية وخصوصا شرق أوسطية عملت على الاستفادة من عودة الخطاب الهوياتي لتوظيف طيف كبير من أولئك الذين تم ترويضهم بخطابات لم تستوعب حركة التاريخ في الفعل الهوياتي.