وحدة الدراسات الانثروبولوجيةالهوية والانتماء في الوطن العربي
Posted by Global Institute for Arabic Renewal on Wednesday, April 5, 2023
تقرير ندوة
“الهوية والانتماء في العالم العربي“
عقدت وحدة الدّراسات الأنثروبولوجيّة في المعهد العالمي للتّجديد العربي في يوم الأربعاء 5 أبريل/ نيسان 2023 ندوة علميّة ضمن فعاليّات الوحدة تحت عنوان “الهويّة والانتماء في العالم العربي“، أدارتها الدّكتورة ملوكي جميلة أستاذة التّعليم العالي بجامعة تامنراست –الجزائر، متخصصة في علم النّفس العيادي، والأنثروبولوجيا النّفسية، وأستاذة في علم الاجتماع.
كما قدّم الدّكتور بن لباد الغالي المحاضرة الرّئيسة وهو دكتور في الأنثروبولوجيا ورئيس وحدة الدّراسات الأنثروبولوجيّة بالمعهد العالمي للتّجديد العربيّ، وأستاذ بجامعة تامنراست –الجزائر.
وقد عقّب على هذه النّدوة الدّكتور سالم بن لباد دكتور في الأدب الشّعبي وباحث وأكاديميّ في الأدب والنّقد والتّراث بجامعة غيليزان –الجزائر.
دارت محاور النّدوة حول “الهويّة والانتماء في الوطن العربي” انطلاقا من المفهوم الأنثروبولوجي للهويّة والثّقافة لنقف عند حدود فاصلة وحدود متّصلة. في البداية كانت الأفكار كلّها مطروحة حول الثّقافة المعاصرة: اندماجها وكيف نحافظ عليها؟ ماذا لو ضاعت الثّقافة؟، وهل عالج المختصّ الثّقافي هذه الثّقافة ومحتواها إلى أن وصلنا إلى ثقافة السّلوك؟
وإذا قمنا بتوصيف الحياة الاجتماعيّة من باب تسليط الضّوء على الثّقافة الاجتماعيّة، فلا يمكن أن نسلم بأنّنا نعيش في ثقافة عربيّة إسلاميّة، فلا نجد من العروبة إلّا الاسم. أمّا الثّقافة الاسلامية، فضاعت منذ قرنين من الزّمن. فإلى أين نتّجه؟ وأيّ جيل نريد الوصول إليه؟، ولهذا اصطلحنا عليها بثقافة الانبطاح، وهي صورة نقديّة لكلّ من حاول قراءة المشهد الثّقافي، فليس هناك من يكلّف نفسه عناء النّقد والتّدقيق فيما تمّ الوصول إليه من نتائج وأفكار. فهل سنحاور هذه الثّقافة الوافدة حتّى نتّفق على قصف الغزو؟ وفي كتاب إدارة الحوار بين الثّقافات استفتح بآية كريمة لقوله تعالى: “يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”.
يحاول المفكّر تقديم قراءة للآية فيقول إنّ التّواصل بين الثّقافات لابدّ منه، وهو السّبيل الوحيد لتجنّب الصّراعات وخلق نوع من الحوار الديمقراطيّ العادي والمتّزن، وهذا بحدّ ذاته رسالة لنبذ العنف، من شأنها أن تصبغ علينا العيش في عالم بناء متعدّد الثّقافات ينعم بالأمان والاستقرار. ولن يكون الوئام والانسجام هو الثّمرة الوحيدة لهذا الحوار، بل إنّه سيؤدي إلى أنظمة دمج جديدة تشمل كافة أفراد المجتمع في جو يسوده الاحترام والوحدة والتّسامح والتّصالح مع الآخرين، ويحاول المفكّر طرح فكرة الحوار مع الآخر والتّسامح والتّصالح مع الآخرين.
لكن هل سنحقّق معادلة الاتّصال في وضع غير متساو؟ أي بين الشّمال والجنوب، ومن سيتّصل بالآخر العربي أم الأوروبي الذي يملك كل وسائل الاتّصال؟ وكيف تتّصل الشّعوب في ما بينها؟
نقول في هذا الصّدد إنّ المثقّف العربيّ تحوّل إلى مثاليّ لا يتبصّر بتفاصيل القضيّة، ولم ينتبه إلى الموادّ القانونيّة التي فرضتها عليه سياسة التّقسيم الجغرافيّ في زمن كان العربيّ يسافر فيه من دون تأشيرة ودون جواز سفر مختوم –لم ينتبه إلى المادّة القانونيّة التي وزّعت المناطق العربيّة إلى مناطق نفوذ تابعة لبريطانيا وأخرى لفرنسا، في مشروع ثقافيّ كانت لغة الحوار فيه قائمة على الإبادة الجماعيّة لكلّ من يعارض ثقافة الآخر أو يقلق تواجده، وكذلك على سياسة الأرض المحروقة وطمس الهويات العربيّة وتغييب الدّين واللّغة عن هذه المجتمعات. وإذا رجعنا إلى مورفولوجيا النصّ الذي جاء ليحلّل الآية الكريمة، وهو يثمّنها أو يوافقها، نجد أنّ الصّياغة التي تحدّث عنها الكاتب بخصوص المكان الجغرافيّ الذي حدّده، لم يستعن فيه بخبير في الأراضي، حتى يتمكّن من تحديد النّقطة المقصودة في الآية، والأجدر أن تفتح قنوات التّواصل معنا كشعوب عربيّة. فلم نعد ندرك الحضرميّ من الشّامي، ولا البغدادي من الفارسّي، ولا التّميمي من القرطبيّ.
أمام هذا الزّخم من التعدّد والتّماثل الثّقافي، تحتاج الشّعوب العربيّة إلى معادلة أخرى، تستطيع بها أن تتقدّم حسب تغييرات منطقيّة، وكلّ مبدع أو كاتب أو باحث رومانسي داع إلى ثقافة الانبطاح لابدّ له أن يتعرّى ليكشف للأجيال اللاّحقة عن مقصديّتة، وعلينا أن ندرك أن ثقافة الانبطاح لديها أنصارها ممّن يتبنّون توجّهاتها، ويهتمّ بنشرها وتطويرها منذ زمن، وفي الماضي كان التوجّه للمستشرقين بصفتهم حاملين شعار التحدّي والعداء للثّقافة العربيّة.
ولكن العلمانيّة في الطرح الكلاسيكيّ كانت تدعو إلى فصل الدّين عن الدّولة لأنّ الدّين هو السّبب في عرقلة التّقدم. فالكنيسة تدخّلت في المجال العلميّ وفرضت منطقها على المعرفة، وكان هذا سبب تأخر الغرب، وهو نفس المنطق الذي فكّر به العربيّ حين اعتبر العائق الأساسّي للثّقافة هو الدّين.
وفي الختام نقول إنّ بظهور العلمانيّة ظهر القانون في صورته الجليّة، والحقّ في صورته المطلقة والأخلاق الورديّة والإنسانيّة المثاليّة وغيرها.
إذن فالعلمانيّة الحنفيّة تدعو إلى الماضي المشترك والحاضر والمستقبل بكل معانيه وتصنيفاته، شرط أن تتنازل عن الخصوصيّات التي تميّز كل شعب، وهي خصوصيّات ثقافيّة للمجتمع الإسلامي. وقد يرجّح الحنفيّ أنّ فشل العلمانيّة الكلاسيكيّة في الوطن العربيّ يعود إلى العلمانيّين المسيحييّن الذين مثّلوا العلمانيّة أسوأ تمثيل مثل شمايل، وصروف وفرح أنطوان، ونيكولا حدّاد وسلامة موسى، وولي الدّين ياكوف، ولويس عوض وغيرهم لأنّهم كانوا متديّنين بالدّين المسيحيّ وينتدبون للعروبة والحضارة العربيّة، وونشؤوا في مدارس أجنبيّة. ويعتبر أنّ العلمانيّة حرّرت المرأة وانتظرت حتّى تفي إلينا الثّقافة العلمانيّة وتحرّر هذه المرأة المسلمة، هذا النقد وجهّه حسن حنفي للكثيرين.
هل أوروبا تطوّرت بتبنيّها الإسلام في القرن السّابع إلى القرن 18م؟ أم أنّها بحثت عن معادلة أخرى؟ لقد بلغت ثقافة الانبطاح، إلى حدّ ظهور سياسة عربيّة جسّدت هذه الأفكار على أرض الواقع، فأنتجت لنا مجتمعا متصدّعا وعاجزا عن تحقيق أهدافه، وما ظاهرة الانتحار بالحرق التي أصبحت ميزة يتميّز بها الأفراد وتتباهى بها الشّعوب، إلّا نموذجا صادقا للعلمانيّة، لأنّ هذا الكائن المنتحر ليس بمسلم بل هو نتاج لثقافة أخرى، وليس فيه شيء من الإسلام. ويرى جلنز المفكّر الأنثربولوجي المتخصّص في الأنثربولوجيا المغاربيّة أنّ الإسلام كتاب للطّبقات الحضريّة المتوسّطة غير مناسب مع قيم المجتمع المدني، ويترجم كل هذا حسب جلنر بمقاومة استثنائيّة من قبل مجتمعات إسلامية لسيرورة علمانيّة تعتبر شرط التعدّدية الفكريّة والسّياسية شرطا مهمّا لقيام المجتمع المدنيّ، وحسب هذا النّموذج فإنّ المجتمع الإسلاميّ هو دولة ضعيفة وثقافة قويّة.
شارك في النّدوة عدد من المتخصّصين والمهتمين بالدرّاسات الاجتماعية والأنثروبولوجيّة من خلال مداخلات وتساؤلات في محاور المحاضرة والتّعقيبات التي تلتها.
إعداد الدكتورة قوراري منيرة
مقرّر وحدة الدّراسات الأنثروبولوجيّة
مداخلة الدكتور بن لباد الغالي
الهوية مشروع ثقافي
- أستاذ مختص في الانتروبولوجيا بجامعة تامنغراست/ الجزائر
- نائب رئيس وحدة الدراسات الانتروبولوجية بالمعهد العالمي للتجديد العربي/ مدريد
المداخلة تناقش جملة من المفاهيم التي ناقشها الفكر العربي من قبل، و لسنا من السباقين في تناول مثل هذه المواضيع، بل كل مفكر عربي تعب من التفكير في الثقافة العربية. مصيرها، مقوماتها، مستقبلها، معيقاتها، بنياتها، اندماجها، ذوبانها في ثقافة أخرى، تبنيها لثقافات أخرى، أين نحن من ثقافة الأسلاف؟ كيف نحافظ على ثقافتنا؟ ماذا لو ضاعت الثقافة؟ وكل مبدع رسم وصفة طبية لمعالجة هذا الوباء الفتاك الذي داهم ثقافتنا العربية (أي الثقافة الغربية)، ومن بين الأسئلة التي لابد أن تُطرح:
هل الوصفة التي وصفها المختص الثقافي نافعة لما لا نهاية، أم هي مجرد تسكين للوباء، ثم سرعان ما سيظهر في صفة أخرى؛
هل عالج المختص التأثيرات الجانبية للدواء الذي وصفه؟؛
هل تمعن إن كان هذا الدواء مستورد أم صنع محليا؟.
وغيرها من التساؤلات التي تؤرق الباحث الذي لم يتمكن من ولوج هذا الفضاء المعرفي، إلاّ وهو محمل بمجموعة من الأفكار المسبقة التي أثرت على حياته وكيانه، وعلى وجوده، ثم في الأخير وصل التأثير إلى حد السلوك، ووصلنا إلى ثقافة لم نعهدها ولم نعرفها، اذن هل سنحاورها؟ حتى نتفق على سقف الغزو ونسبته، أم سنحاورها حتى نتفق على نسبة الخيانة لشعوبنا! أم نريد أن نعبر فقط عن ما يجش في خواطرنا…
علامة استفهام كبيرة.. تؤرق كل باحث دخل غمار الثقافة. فإذا قمنا بتوصيفٍ للحياة الاجتماعية، ومن باب تسليط الضوء على الثقافة الاجتماعية، فلا يمكن أن نسلم بأننا نعيش في ثقافة عربية مسلمة.
فلا نجد من العروبة إلا الاسم. أما الثقافة الإسلامية، فقد ضاعت منذ قرنين من الزمن
والسؤال الذي يلح علينا من نحن وإلى أين نتجه… وأي جيل نريده للمستقبل القريب؟
هذه الأسئلة الجوهرية تدفعنا دفعا للوقوف على ما اصطلحنا عليه ثقافة “الانبطاح”
فثقافة الانبطاح صورة نقدية لكل الذين حاولوا قراءة المشهد الثقافي، ولكن لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء النقد أو التدقيق فيما وصلوا إليه من نتائج أو أفكار.
ولن أتناولهم كلهم بل سأقتصر على البعض منهم، لكن الذين لم نذكرهم هم صورة مستنسخة.
يقول الدكتور “عامر زياد السبايلة” في كتابه إدارة الحوار بين الثقافات مفتتحا قوله بالآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
“ولذلك فان التواصل بين الثقافات أمر لابد منه وهو السبيل الوحيد لتجنب الصراعات وخلق نوع من الحوار الديمقراطي الهادئ و المتزن. وهذا بحد ذاته رسالة في نبذ العنف من شأنها أن تسبغ علينا نعمة العيش في عالم بنّاء متعدد الثقافات ينعم بالسلام والاستقرار، ولن يكون الوئام والانسجام هو الثمرة الوحيدة لهذا الحوار، بل إنه سيؤدي كذلك إلى خلق أنظمة دمج جديدة تشمل كافة أفراد المجتمع في جو يسوده التسامح والاحترام والوحدة والتفاهم والتصالح مع الآخرين…”.
صاحب القول يقترح فكرة الحوار مع الآخر عن طريق فتح قنوات التسامح والاتصال. ولكن هل ببساطة سنحقق معادلة اتصال في وضع غير متساوي، ثم من سيتصل بالآخر؟ العربي المغلوب على أمره أم الأوربي المالك لكل قنوات الاتصال.
ثم كيف ستتصل الشعوب فيما بينها؟ والسياسات والحكومات؟ إن غموض المثقف العربي في كثير من الأحيان، وفي جل الأحيان جعله مثالي لا يتبصر بتفاصيل القضية، ولم ينتبه إلى المواد القانونية التي فَرضتها عليه سياسة التقسيم الجغرافي. عوض زمن كان العربي يسافر فيه من أقصى إلى أقصى دون تأشيرة ودون جواز سفره مختوم. لم ينتبه إلى المادة القانونية التي وزعت المناطق العربية إلى مناطق نفوذ تابعة لبريطانيا وأخرى لفرنسا في مشروع ثقافي لغة الحوار فيه كانت الإبادة الجماعية لكل من يعارض ثقافة الآخر، أو يقلق تواجده، وكانت فيه سياسة الأرض المحروقة، وكانت فيه سياسة طمس الهواية العربية وتغييب الدين واللغة عن هذه المجتمعات.
لم ينتبه المؤلف الأردني إلى المادة 555 ولم ينتبه إلى كثير من المواد التي أجازت للآخر نهب وسلب الخيرات الباطنية والظاهرية والبشرية لكل البلدان العربية وتحت صمت جميل للمفكرين العرب يستعملون فيه لغة المحاباة للأخر، ولغة التقرب منه، ويرسمون بألفاظهم الشاعرية حديقة رومانسية للقراء المبتدئين مزركشة بشعارات كان يرددها الشارع العربي أيام الحماسة وغياب التفكير الجاد.
إن سبب الأزمة هو الجانب العاطفي، فإذا لاحظنا مورفولوجيا النص فإنه جاء كتحليل للآية الكريمة (كأنه يوافقها أو يثمنها، لكن المصوغ الذي تحدث عنه الكاتب والمكان الجغرافي الذي حدده، لم يستعن فيه بخبير في الأراضي حتى يتمكن من تحديد النقطة المقصودة في الآية، وكان الأجدر أن نفتح قنوات التواصل مع بعضنا كشعوب عربية، فلم نعد نعرف الحضرمي، من الشامي، و ا البغدادي من الفارسي، ولا التميمي من القرطبي.
أمام هذا الزخم من التعدد والتماثل الثقافي تحتاج الشعوب العربية إلى معادلة أخرى تستطيع أن تقدم لها تفسيرات منطقية.
وكل مبدع أو كاتب أو باحث رومانسي داعِ إلى ثقافة الانبطاح لابد أن يتعرى ليكشف بقصد أو عن غير قصد للأجيال اللاحقة عن مقصديته.
ولكن لا يجب أن ندخل في دوامة النقد الساذج والحكي العشوائي، بل علينا أن نركز فكرنا نحو هدف صريح يتوافق مع ذواتنا ومع عقولنا وديننا دون مراوغة والتفاف. وإذا عدنا إلى ثقافة الانبطاح علينا أن ندرك ما لهذه الثقافة من أنصار يبجّلونها ويسهمون في نشرها و يسعوْن في تطويرها منذ زمن، بل كانت الأصابع موجهة صوب المستشرقين بصفتهم حاملي شعار التحدي والعداء للثقافة العربية، ولن ندخل في هذه المتاهة التي كان من خلفها السياسي أو الإيديولوجي الذي دعم بالنفس والنفيس الاستشراق كمنظومة فكرية ومعرفية ليدخل في صدام مع العرب والنخب العربية.
قد نلاحظ أن الآخر هو الذي كان يفرض الصدام، بخلقه للوسطاء، الذين كانوا يمثلون سياسته وكان يختبئ من خلفهم حتى يعود إلينا بقناع آخر جميل وأنيق، ويناسب كل أفراد مجتمعنا، مع تقديمه حلوة البركة التي تقدم في الكنيسة حتى يستميل قلوب أولياء الأمر بمشاريع تنموية تارة وأخرى مشاريع بناء، وأخرى مشاريع استثمار وأخرى مشاريع حضارية، إنها حلوة لذيذة تسر العين قبل الفم، لأننا وبصراحة لازلنا عند المرحلة الفمية ولم نتجاوز نرجسية اللذة، وحلاوتها، والشعور بالراحة ولو لوقت قصير، لأن المرحلة الفمية، فطامها صعب والأصعب كيف يمكننا إسكات هذا الراشد الرضيع، الذي اعتاد على السكريات المستوردة والألبسة الناعمة، والمساحيق الزاهية والعطور الباريسية والوجبات الأمريكية، والعبارات المنقولة من هنا وهناك، ولا تزال بعض الأقلام تنادي بمزيد من الحريات والديمقراطيات، ألم يتعب هذا المثقف المزيف من تبنيه ثقافة غيره وتبجحه بثقافة غيره، ألم نكتفي من صناعة النخب لغيرنا. فبتبني الشيوعية التي لم تنجح إلا في البلدان العربية، ألم نكتفى من انتاج أنتلجنسيا تهاجرت إلى الخارج، لأنها أصلا لم تكن موجهة للاستهلاك المحلي، بل هي صناعة موجهة للآخر. لهذا لم تجد عناء في التكيف والبدء في الظهور حين التحقت بيئتها الفكرية والثقافية، فسرعان ما بدأت في الابتكار والإنتاج، وحين سئلت عن عجزها في الأوطان التي كانت فيها، بالطبع رجحت كفة التخلف والرجعية وعلى عدم مسايرة السياسة للتطور التكنولوجي العالمي و نقص الوسائل.
هل احتاجت “ماري” إلى وسائل لابتكار (الأشعة)؟ هل احتاجت نسبية “انشتاين” إلى معمل ضخم لتحقيق المعادلة، وهل وهل وهل…؟ الأمثلة لا تعد ولا تحصى، ولكن من أين نبدأ، بالطبع العلمانية في طرحها الكلاسيكي كانت تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، لأن الدين هو السبب في عرقلة التقدم، فالكنيسة تدخلت في المجال العلمي وفرضت منطقها على المعرفة وبالتالي كان سبب تأخر الغرب الكنيسة.
نفس المنطق رجحه المثقف العربي حين اعتبر أن المعوق الأساسي للثقافة هو الدين.
يعلق حسن حنفي على مشهد انتشار الثقافة الغربية في الوطن العربي قائلا: “ولكن لما انتشرت مفاهيم الثقافة الغربية بيننا وأصبحنا نفهم أنفسنا، ونعبر عن أمانينا، وندافع عن حقوقنا بهذه المفاهيم؟ مثل العلمانية والليبرالية بعد أن انتشرت وذاعت بيننا، وكانت أحد أسباب التقدم في الغرب، ولما كان التقدم واحدا، والشعوب واحدة، وقانون التاريخ واحد فلا ريب أن الدفاع عنها، والتمسك بها، والدعوة إليها يحقق التقدم في مجتمعاتنا دون مراعاة لخصوصيات الشعوب ولمراحل التاريخ المتباينة التي تمر بها المجتمعات”.
انتظر العربي قرنين من الزمن حتى يفهم نفسه، فسبعة قرون من الحضارة والعطاء لم تكن كافية، لكن بظهور العلمانية ظهر القانون في صورته الجلية والحق في صورته المطْلَقة، والأخلاق الوردية، والإنسانية المثالية.
وغيرها؟
العلمانية الحنفية تدعو إلى الماضي المشترك والحاضر والمستقبل بكل معانيه وتصنيفاته، شريطة أن نتنازل عن الخصوصيات التي تميز كل شعب، أي الخصوصيات الثقافية للمجتمع الإسلامي العربي.
وقد يرجح حنفي فشل العلمانية الكلاسيكية في الوطن العربي إلى أنها مُثلت من طرف المسيحيين. قال “قام العلمانيون في بلادنا منذ “سبلى شميل” و”يعقوب صروف”، و”فرح وانطوان”، و”نقولا حداد” و”سلامة موسى”، “ووالي الدين يكف”، و”لويس عوض” وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي: فصل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع. والملاحظ أنهم كانوا من النصارى… ولا ينتسبون إلى الإسلام دينا أو حضارة، وتربو في المدارس أجنبية وفي إرساليات التبشير، فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوا إليه ورأوه ماثلا في تقدم الغرب .الفعلي”
ويضيف حنفي إلى هذا المقهى العلماني طائفة ممن اصطلح عليهم المسلمين الدين انبهروا بتعاليم الفكر العلماني: “….. وتبعهم في ذلك أيضا بعض المسلمين مثل قاسم أمين في دعوته إلى تحرير المرأة “والمرأة الجديدة” وعلي عبد الرزاق في “الإسلام وأصول الحكم” وخالد محمد الخالد في بداياته الأولى “من هنا نعلم” وباقي مؤلفاته الأخرى قبل أن يتحول في الثمانينات إلى التوحيد بين السلطتين من جديد في “الدين والدولة” وإسماعيل مظهر في دعوته إلى “الداروينية” قبل أن ينقلب في الستينات إلى “الإسلام أبدا”… ومعظم الماركسيين التقليدين.”
إن حسن حنفي قدم لنا خريطة المشهد العلماني الذي تبناه المثقف العربي في ظل ما زعم به حسن حنفي وكل العلمانيين: (التقدم أو الانفتاح لأجل التطور).
بدورنا نسأل هل أوروبا تطورت بتبنيها الإسلام من القرن السابع إلى القرن الثامن عشر. أم أنها بحثت عن معادلة أخرى، ولماذا الإمبراطورية الرومانية لم تتبنى الإسلام؟ حتى تحافظ على إمبراطوريتها. ولماذا نحن نتبنى العلمانية حتى نفهم أنفسنا؟
المعادلة واضحة. العالم العربي مجرد منتج لعقل ذكي يشتغل في بيئة غير بيئته.
لأن الأدوات التي رُكب بها هذا العقل هي مفقودة في الوطن العربي، وبالخصوص المادة الأولية التي يشتغل بها العقل: فمنذ القرن التاسع عشر ونحن ننتج عقول علمانية، سرعان ما تهاجر إلى أوطنها لتخلق لنا برامج موجهة للسيطرة، فزمن العبودية لم يبدأ، لأنه الآن فقط تمكن من أن يختلق من صلبه فيروس اسمه الجهاز الموجه وهو متعدد الخدمات، ولم يعد الأفراد الذين تقاسموا معه رغيف الخبز يمثلون له شيء، غير ماض حقير يريد التخلص منه بأي شكل من الأشكال، فهو العَالم الجهبيد المتطور الذي يحسب له ألف حساب في المعمورة والذي نُصبت له المنصات العالية ليخطب بجميع اللغات شارحا نظريته في الروبوتيك، وكيف تمكن من تحويل أفراد بني جلدته إلى رُبوت يتحكم فيهم عن طريق زِر اسمه ” المودة”.
هذه النخب التي أنتجها المجتمع في القرن التاسع عشر تحاول أن تعقلن نفسها لتقنع البقية الصامدة وكأنها لم تكتفي بالانحلال الذي تفشى في المجتمعات العربية، والفقر والجوع والضياع والتشرد والإدمان وكل أشكال الفساد والانحلال التي لم نحصيها ولم نعد نتذكرها.
إن النخب انتقلت إلى علمانية أكثر طرافة وأكثر تدين وهي علمانية القرن الجديد، أو العلمانية في ثوب جديد يناسب الشعوب العربية برمتها، وحتى لا يغضب حسن حنفي الأصوليين كما وصفهم فإنه وضع خطة طريق جديدة يقول”. نستطيع أن نحقق مطالب الفريق الثاني وهو تطبيق الشريعة الإسلامية منعا للازدواجية بين الدنيا والدين، بين العمل والإيمان، بين الشريعة والعقيدة؟
وهذا أمر ميسور، فالشريعة الإسلامية وضعية، تقوم على تحقيق المصالح العامة، وهي مقاصد الشريعة كما حددها الأصوليون، وضع الشريعة ابتداء الضروريات والحاجيات والتحسينات والضروريات خمس: المحافظة على الدين، والحياة والعقل والوطن والمال، وهي مقومات الحياة.
الدين وهو الحقيقة الموضوعية المستقلة عن أهواء البشر، والحياة الإنسانية كقيمة في ذاتها، والعقل الذي بدونه لا يكون تكليف ولا حساب، والعرض الذي بدونه لا يكون للإنسان كرامة، والمال الذي يقيم ود الحياة ويضمن بقائها واستمرارها.
هذه الضروريات الخمس هي ما يدافع عنه العلمانيون، إلا أنهم يأخذونها من الحضارة الغربية4
إن المفكر العربي يحاول أن يُؤسلم العلمانية إلى أن يصبح “الإسلام دين علماني في جوهره.
في زمن الشيوعية قال بعض المتشدلقين كي لا يدخلون في صدام مع غيرهم “الإسلام في جوهره الاشتراكية” وهو الذي دعي إلى روح الجماعة والرفع من مستوى الفقير، وهو الذي حارب الظلم والاستعباد، وغيرها من الشعارات…
وإذا عدنا إلى النص السابق فإنه هُندس بطريقة أصولية علمانية حين اقتبس التوصيف الرباني للمنهج الإسلامي، بني الإسلام على خمس، “شهادة أنّ لا اله إلا الله، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا”، بناء على هذه المعدلة حاول صاحب القول خلق نوع من الإلتفاف لاستمالة القلوب والشعور بالأمان.
فالدين هو الحقيقة الموضوعية المستقلة عن أهواء البشر، فلم تظهر صورة الإسلام الحقيقة إلا من خلال سلوكيات المسلمين، لأنه القانون والدستور الذي سنه الله للناس حتى يعظّوا عليه بالنواجذ، فلا يكون هناك عدل إلا إذا كان خلق الرعية القرآن، ولن يكون هناك حب إذا لم تفرغ القلوب من المادة، ولن يكون هناك أمن ولا سلام إن لم يكن هناك خوف من الله، ولن تكون هناك حياة سعيدة بدون حياة روحية خالصة، ليس للمادة معنى يوتر العلاقات ويؤجج الحروب.
وبلغة ثقافة الانبطاح، إلى حد ظهور سياسات عربية تبنت وبقوة هذه الأفكار وجسدتها على أرض الواقع، النتيجة أنها أنتجت مجتمع متصدعا وعاجزا عن تحقيق أهدافه، ناهيك عن ظاهرة الانتحار بالحرق التي أصبحت ميزة يتميز بها العرب في انتفاضاتهم للدلالة على الرفض.
إننا وصلنا إلى قمة التشنج والانحلال، فالانتحار وقتل النفس التي حرم الله هو من أكبر الكبار، ولم يحدث أن وصل الضعف بالمسلم إلى هذا الحد حتى في زمن الطغاة والاستبداد لم يقتل المسلم نفسه. هذا الكائن ليس بمسلم، إنما هو نتاج لثقافة أخرى وإيديولوجية أخرى، وليس فيه من الإسلام شيء.
يصف (قلنر) وهو مختص في أنثروبوبولوجية المغرب العربي قائلا “أن الإسلام الكتابي للطبقات الحضرية المتوسطة غير مناسب مع قيم المجتمع المدني… ويترجم كل هذا حسب (قيلنر) بمقاومة استثنائية من طرف المجتمعات الإسلامية لصيرورة العلمانية التي تعتبر شرط التعددية الفكرية والسياسية للمجتمع المدني، وحسب هذا النموذج فإن المجتمع الإسلامي هو دولة ضعيفة وثقافة قوية”.