الوثيقة الفكرية – المؤتمر الفكري الدولي الثالث– 1-4 مايو 2024
“المواطنة العربية – مفهوم ومحتوى”
شهد التاريخ الطويل للوطن العربي تعاقب الحضارات والمدارس الفكرية وتعدد الثقافات والأديان والطوائف والمذاهب والحكومات والأحزاب وصراع الأفكار والمصالح والارتباطات بأطراف خارجية، ما له تأثير كبير على تشكّل وعي الفرد والجماعة بمستوى الإيمان بقضية المواطنة بوصفها نظاما عصريا، يصون وحدة الممجتمع والدولة والأمة، وممارسةً وطنيةً تعد من المتطلبات الرئيسية لبناء الدولة العصرية الحديثة.
فلسفة مفهوم المواطنة
في سياق الفلسفة، يمكن النظر إلى مفهوم المواطنة على أنه: نظام حضاري يهدف إلى نشر القيم والمبادئ الإنسانية في مجتمع ما، ويضمن المشاركة بين فئات المجتمع بما يعزز الوعي بالمسؤولية الجماعية.
وتتضمن الفلسفة الحديثة تفكيراً تقدمياً حول مفهوم المواطنة، إذ تُركّز على أهمية المساواة في الواجبات والحقوق بين أفراد المجتمع، ومسؤوليتهم العامة أمام القانون وعدم التمييز بينهم على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو القومية أو الجنس أو المعتقد، وضمان حرية الفكر والرأي والتعبير بما يعزز المشاركة السياسية والاجتماعية.
بذلك فإن فلسفة المواطنة العربية تمثل نقطة التقاء بين أفراد المجتمع العربي وفئاته ومؤسساته لبناء مجتمع حديث تعددي وعادل، تنصهر فيه النزعات والنعرات القومية والدينية والطائفية والقبلية والمناطقية كافة؛ مجتمع حر ومتوحد يحترم حقوق الإنسان ويقبل الاختلاف ويتعامل معه بوعي ومعرفة ويسعى لتحقيق التنمية المستدامة والسلم والأمن المجتمعي.
ومن منطلق التجديد في الأطر الفكرية والثقافية العربية، فإن تبنّي تفكير جديد حول مفهوم المواطنة العربية بوصفها إحدى أركان الفكرة الملهمة لمشروع التجديد العربي، ومن كونها مفهوما فلسفياً ذا محتوى متجدد متعدد الأبعاد، يتجاوز حدود المنظور الضيق لمفهوم المواطنة إلى مجال أرحب تتحقق في إطاره حالة عميقة من التوافق الوطني وعلاقة متينة بين إراداتٍ ومصالحَ وخصوصياتٍ لفئات المجتمع وإثنياته وأفراده.
تعد قيم العدالة والحرية وتكافؤ الفرص واحترام الحقوق والالتزام بالواجبات وسيادة القانون، من أهم شروط المواطنة العربية، مما يقتضي توفر قاعدة معرفية واسعة تُستمد من المراجعة العميقة والمستمرة والنقد العلمي الموضوعي للمنظومات الفكرية السائدة، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والدينية والإعلامية والتربوية واللغوية والأدبية والفنون والتراث وغيرها.
إن المفكر المثقف العربي مدعوٌ للبحث في هذه المنظومات لتجديد المحتوى الفكري لها بما يعالج مشكلات الحاضر ويلبي تطلعات الشباب وحاجات المستقبل ويواكب التطور العالمي، آخذين بالاعتبار أن المواطنة العربية تُعد قضية فكرية معاصرة ومستقبلية تتعلق أساساً ببناء الدولة العصرية الحديثة؛ وأنها مسألة معقدة ومركبة نتيجة تعدد أبعادها التي تشتمل على مناهج فكرية عديدة ومتحركة في ظل تحولات وتطورات سريعة يشهدها العالم كل يوم.
المواطنة في مجتمع تعددي
لذا فإن المواطنة العربية التي نهدف إلى تأصيل مفهومها وصناعة محتواها هي ليست مجرد تصنيف قانوني لفرد أو فئة أو مجموعة من البشر، أو تحديد للحقوق والواجبات لهذا الطرف أو ذاك فحسب، بل إنها تجربة حياتية شاملة بحاجة إلى مستوى رفيع من الحب والانتماء الوطني والمشاركة الفعالة والقدرة على الارتقاء فوق النزعات الضيقة، والإيمان بالتعايش السلمي والقبول بالآخر في مجتمع متعدد الثقافات والإرادات والرغبات والمصالح والانتماءات، وإلى عقول عظيمة هاجسها التشكيك بما هو قائم وإثارة السؤال، وتتأثر هذه التجربة الحياتية بعوامل عدة كالتاريخ والثقافة والعلوم ومناهج التربية والاتصال واللغات والآداب والسياسة والاقتصاد والفنون والتقاليد والخصوصيات الوطنية وغيرها.
وإن التحولات الكبرى والانتفاضات التي شهدتها وتشهدها الدول العربية تؤثر هي الأخرى بشكل مباشر على تطور مفهوم المواطنة ودرجة الإيمان بها وبأهمية المراجعة الدائمة لتجديد محتواها.
بهذا المعنى، فإن المواطنة العربية، مفهوم حضاري شامل يُعد المستوى الأعلى والأرقى في طبقات بناء المجتمع العربي والضامن لتحقيق مصالح الأمة العليا وفق مبدأ التعددية واحترام خصوصية كل دولة من الدول العربية بما يوفر لكل إنسان في الوطن العربي حرية التنقل والعيش والعمل والإقامة ويرتّب عليه حقوقاً وواجبات تحكمها منظومة قانونية حديثة.
التحديات والمسؤوليات
إن القاعدة المعرفية في المجتمع، وقيم الحرية والعدالة والمساواة، واحترام الحقوق والواجبات ومصالح أفراد المجتمع والممارسة الديمقراطية، تُعد تحديات بالغة التعقيد تتحكم في عملية تحقيق المواطنة العربية على مستوى الدولة والأمة، وتحدد طبيعة دور الفرد والجماعة في بناء دولة المواطنة ومدى استعدادها لحمايتهما.
وإن أحد أهم التحديات هو تحقيق التكامل بين بناء المواطنة على مستوى الدولة العربية الواحدة، وبين المواطنة على مستوى الوطن العربي.
وفقاً لهذه التحديات فإن بناء مجتمع المواطنة العربية الحقيقية بحاجة إلى حرب فكرية سلاحها المعرفة وقادتها أهل العلم والفكر، وضحاياها دعاة التخلف والجهل؛ ويتطلب ذلك بذل جهود جادة من فئات المجتمع كافة، وفي مقدمتها النخبة المفكرة التي تقع على عاتقها مسؤولية الإنتاج الفكري الوطني والإنساني الرفيع بما يعزز الوعي والإدراك بأهمية الحوار والتفاعل بين الثقافات والتقارب والانسجام بين الأديان والقوميات والأيديولوجيات وتعزيز دور المؤسسات الديمقراطية… الأمر الذي يضع أمام المفكرين والمثقفين والعلماء وأصحاب القرار في الدول العربية مسؤليات كبرى، ويفرض عليهم تعاوناً وعملاً جاداً ومتواصلاً يعزز التفاعل بين صناع القرار وبين منتجي الفكر والمعرفة وبناتها، بقدر ما يتطلب تفكيرا نقديا معمّقا لنبش المنظومة الاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية وإزالة العقبات وتفكيك القيود والأطواق التاريخية الفكرية والدينية والفلسفية والغيبية، والبحث في كيفية إيجاد الحلول التي تسهم في بناء مجتمع عربي حديث مزدهر ومتقدم.
إن نقد منظومات الفكر ومراجعة خطاباتها وشعاراتها التي كانت من بين أسباب تراجع الأمة وما تواجهه الدول العربية من تحديات خطيرة تهدد وجودها ومستقبلها ابتداءً من غزو العراق واحتلاله وتدميره وانتهاءً بالحرب الصهيونية على غزة وكل فلسطين، وما سبقها من احتلالات وهيمنة ونفوذ استعماري في الأحواز العربية وأجزاء من الوطن العربي الكبير، مروراً بما يحصل في سوريا ولبنان واليمن وليبيا والسودان، ودول في مشرق الوطن العربي ومغربه، يعد خطوة مهمة لا بد منها لتجديد هذه المنظومات على أسس عصرية ومستقبلية؛ بغية بناء مجتمع المعرفة والمواطنة العربية، مجتمع مؤسسات ديناميكية رصينة قادر على إقصاء الأفكار الهدامة والمفاهيم الشاذة والممارسات المنحرفة؛ لا يكتفي بقبول معلومات دون تحليلها واستنباط الإيجابي منها، ولا يقبل الانسجام والتعايش مع تقاليد بالية وطقوس خرافية واعتقادات متخلفة هيمنت لقرون من الزمن على عقل الإنسان في الوطن العربي، كما يرفض تيارات التخلف والتجهيل والإفقار المادي والمعنوي والمعرفي والأخلاقي التي تسحب الإنسان للعيش في كنف عصور ما قبل النهضة وأفكارها وممارساتها البدائية.
دور المعهد في التأطير الفكري والمفاهيمي لمبدأ المواطنة
من هذا المنطلق لا بد من التركيز في عمل وحدات المعهد الفكرية على كيفية بناء منظومات فكرية جديدة تُشكّل بمجموعها الفكر العربي الحديث الذي قوامه العلم والمعرفة والتكنولوجيا والتحول الرقمي والقيم الأخلاقية وسلطة العقل وإحكام المنطق، والتفكير الفلسفي الحديث الذي يضمن استدامة إثارة أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل… ويبحث في ما وراء الأحداث والكلمات ويلفت الانتباه لقضايا ذات بعد أخلاقي ومعرفي تشكل الأساس في بناء المجتمع المدني والمواطنة العربية الحقيقية.
فكر حديث يعتمد التفكير النقدي والتحليل العلمي لظواهر الحاضر وأحداثه وأزماته، والتأمل بعقلانية في الطبيعة والخلق والإنسان والتاريخ والتراث الحضاري، والغوص في أعماقه لاستخراج درر المعرفة المُفضية لاستشراف المستقبلات بما يسهم في إنقاذ الأمة من التفكك والتخلف، من حيث حقيقة العلاقة الطردية الموجبة بين مشاهد مستقبلات الوطن العربي ومشاهد المواطنة العربية، بما يفيد إن واقع التردي العربي سينعكس سلباً على المواطنة العربية على النحو الذي يفضي إلى تشذرها، على العكس من مشهد التجديد والارتقاء الذي يفضي إلى ترصين الأخذ بفكرة المواطنة العربية… بيد أن المشهد المرجح لمستقبلات الوطن العربي في عام 2050 مثلاً يفضي إلى الجمع بين المشهدين السابقين، والأمر نفسه ينسحب على مفهوم المواطنة العربية.
وهذا يؤكد أن مشروع التجديد الفكري الذي بدأ عام 2019 يمثل الحلم العربي الكبير لتحقيق نهضة الأمة وتقدمها وفق أسس المدنية الحديثة وأدواتها وسياقاتها.
السبت 04 مايو/ أيار 2024