أ. سميرة رجب
نائب الرئيس للتخطيط والتطوير
اهتمت الدول والشعوب بالإعلام، كأحد أهم مصادر نشر الأخبار والوعي، وتشكيل الرأي العام… وهناك مجتمعات عملت في البدايات على تطوير الإعلام ووسائله ليوازي في أهميته التعليم والمدرسة، حتى أصبح الإعلام والتعليم، الثنائي، الذي يشكل مصدراً لرفع المستوى التعليمي والمستوى المعرفي، التحصيل العلمي والتحصيل الثقافي؛ أي مصدرا للتنوير، فكان الإعلام في بدايات القرن الماضي يمثل الإشعاع المعرفي في أغلب المناحي الثقافية والفلسفية، والاجتماعية والأدبية وغيرها. وأحد أهم مدارس التنمية السياسية، ورفع الوعي السياسي… المدرسة التي تخرّج منها أغلب السياسيون العرب، واستزاد منها المثقفون بزادهم السياسي، وفي تلك المراحل كان الإعلام عموماً، والصحافة خصوصاً، أداة لتنمية وتهذيب حس الانتماء القومي والوطني، ومنبراً لترسيخ الثوابت الوطنية والأخلاقية في الوعي الجمعي والفردي العربي.
بالنسبة للصحافة العربية على سبيل المثال، فقد ساهم احترام الصحفيين لمبادئ وأخلاقيات عملهم في تطوير الصحافة بالمحتوى والمضمون، وزادوها ثراءً فكرياً ومعنوياً، لذلك حازت الصحافة لعقود طويلة على موقع الصدارة في قائمة وسائل الإعلام التي بدأت، مع منتصف القرن العشرين، تتعدد في أنواعها مع التقدم الصناعي والتكنولوجي. ونجحت الصحافة حينها أن تبقى مصدراً للإشعاع الثقافي، ونشر الوعي السياسي، وكان لرؤساء التحرير قيم ثقافية ومبادئ فكرية، ومواقف عقلانية وموضوعية ملتزمة بالتوفيق بين حق التعبير عن الرأي وبين الحفاظ على سلامة ومصداقية الصحيفة، أمام تصاعد القمع السلطوي والإرهاب الفكري… حتى استحقت الصحافة مرتبة السلطة الرابعة المراقِبَة للشأن العام وأداء السلطات الثلاث (التنفيذية والقضائية والتشريعية)، وأن تكون وسيلة رئيسية للتواصل بينهم.
استقطبت الصحافة العربية في عصرها الذهبي الكُتّاب والقراء، المفكرين والمثقفين والأكاديميين، الفلاحين والعمال، والمدرس والمهندس والطبيب، وحتى الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون، كانوا يبحثون عن من يقرأ لهم الأخبار أو أعمدة الرأي.
كان هذا حال الصحافة في أغلب الدول العربية، لذلك نجحت لفترة ما في مواجهة أنواع القمع الفكري وقبضة أجهزة الاستخبارات، فقاومت الصحافة، وقاوم الصحفيون كل ذلك بمبادئهم وثوابتهم والمسؤلية الوطنية والأخلاقية.
ولكن بدأ كل هذا يتلاشى تدريجياً مع بدء إفساد مناهج وسياسات ومفاصل التعليم بشكل عام، والذي انعكست مخرجاته مباشرة على الإعلام، كما انعكست على الأبعاد الوطنية الأخرى.
لربما نكون نحن اليوم شواهد على العملية الانتقالية التي انتقلها الإعلام من عصر المسؤولية الأخلاقية والثوابت الوطنة، إلى عصر مختلف، اختلطت فيه القيم حتى لم نعد نعرف ثوابتنا، ولا مسؤولياتنا الخطيرة تجاه أوطاننا، ولربما يعد هذا من أخطر الأمور التي تواجه عموم الصحفيين والإعلاميين.
لقد أصابت سهام التكنولوجيا والإعلام الموجه والمسلط من الخارج عقولنا ومبادئنا الأخلاقية والسلوكية، وكسرت الثوابت والمبادئ التي كانت من أركان الإعلام… هذه المبادئ التي كانت تقيس النجاح بمقاييس حماية الوطن والهوية والانتماء… المبادئ والأخلاقيات التي كانت تضع مصالح الوطن قبل كل أمر آخر، مهما كان خاصاً، وليس العكس…
وهنا أوكد على إن لا قيمة لأي نجاح فردي أو مؤسسي في الإعلام، إن لم يكن قائماً على مبدأ حماية الأمن القومي، وإن لم يراعى فيه حماية الوطن والمجتمع وأفراده، وهذا ما يعمل به كل إعلاميو الدول الكبرى والمتقدمة، ولكنهم يصدرون لنا معايير ومبادئ إعلامية فاسدة لا تلتقي مع مصالحنا، ولكن مغلفة بمصطلحات برّاقة، تخترق عقول أجيالنا على اعتبار إن هذا هو سمة الإعلام العالمي… وهو ليس كذلك أبداً… ولكن من المؤسف إن تبعاتها وآثارها الخطيرة تجري في عروق مؤسساتنا الإعلامية العربية عموماً، بعلم أو بدون علم أصحابها والعاملين فيها.
فما هي أهم سبل حماية الإعلام من الإختراق والابتزاز والإرتزاق، والتسطيح الفكري… كجرائم يمارسها الإعلام والإعلاميون اليوم في مواقع كثيرة؟